الاثنين، سبتمبر 22، 2008

قصة أوبرا كارمن كما عرفتها: في حوار مع المتنبي أبي الطيّب

د. عدنان الظاهر

ألتقينا على تمام السادسة عصرا أمام المسرح الألماني

Deutsches Theater

حيث جاءت فرقة أسبانية من الغجر كي ترقص وتغني على ألحان أوبرا " كارمن " للموسيقار الفرنسي " بيزيه " . فضلا عن عروض موسيقية راقصة تمثل مقاطع من الرواية الشهيرة ( دون كيخوت ) للروائي الأسباني المعروف " سرفانتس " . يتخلل هذه العروض باقات منوعة من رقصة ( الفلامنكو ) الواسعة الشهرة .

قبل العرض طلب المتنبيء مني أن أشرح له موجزا ما ستقدم الفرقة الأسبانية من عروض . حين سمع اسم ( كارمن ) قال يعجبني هذا الأسم كثيرا . قلت لكن كارمن فتاة غجرية لعوب . ورطت الجندي ( خوسيه ) . فترك خطيبته راكضا وراءها . ثم ورطت الضابط المسؤول عنه . قتل المجند خوسيه ضابطه غيرة منه عليها . طرد من الخدمة فأصبح مثلك عاطلا عن العمل . ثم تركت الأثنين ووقعت في غرام مصارع ثيران " اسكميللو ". قال ذلكم أمر طبيعي . فالغجر أقوام متوحشة ... حسب تعبير أبن خلدون . ومصارعة الثيران عملية قتل وحشية . وعليه لا أجد أية غرابة ان مالت غجرية الى مصارع ثيران مثلها وحشي الطبع والأعداد والمهنة . شبيه الشيء منجذب اليه . عاد أبو الطيب فسأل وما كان مصيرها ومصير من أحبت في نهاية المطاف ؟؟ قلت الموت البربري . قال ماذا تقصد؟؟ قتل خوسيه كارمن قريبا من أسوار حلبة مصارعة الثيران الخارجية اذ كانت تنتظر خروج حبيبها المصارع منتصرا على خصمه الثور المسكين . قال وهل خرج المصارع منتصرا في معركته مع الثور ؟؟ لا يا أبا الطيب . سقط صريعا أمام خصمه البهيمة . قال لا حول ولا قوة الا بالله . توافق غريب . وكيف تفسر موت الأثنين في يوم واحد لا بل في غضون بضعة دقائق ؟؟ ذهبت كارمن الى حلبة المصارعة كي تكون قريبة جدا مما سيجري تحت هاجس غريب ينبئها أن من تهوى سيهوي قتيلا في هذه المعركة . أما المصارع الذي فتنها فقد كان قلقا عليها دائم التفكير بها وبعلاقة الحب التي جمعتهما وبأحتمال أن ينالها أذى من غريمه خوسيه . لم يستطع التركيز بالشكل المطلوب ففقد السيطرة أمام خصمه المثخن بالجراح وبذل صيحات الأستهزاء منه والسخرية به .

حان وقت العروض فدخلنا قبيل الساعة السابعة المسرح وأتخذنا أماكننا في المقاعد التي حجزنا . لم يبق لبدء العروض الا دقيقة واحدة .

رفعت الستارة فصدحت موسيقى افتتاحية أوبرا كارمن المعروفة ثم ظهرت كارمن الغجرية بشعرها الفاحم الأسود وجيب ثوبها المفتوح الى منتصف صدرها . غنت أمام معمل للتبوغ وصنع السجائر . وغنت معها جوقتها ثم ظهر الأطفال يهزجون .أختفت كارمن لتظهر الفتاة الريفية ( ميكائيلا ) التي أرسلتها أم المجند خوسيه كي تتعرف عليه حاملة له من والدته رسالة وبعض النقود . وفي الرسالة توصيه أمه أن حاملة رسالتها هي المرشحة أن تكون زوجا له . ما كان ساعتها خوسيه موجودا فأضطرت ميكائيلا أن تنتظر قدومه الى الثكنة العسكرية القريبة من مصنع السجائر . كان الجنود الآخرون يتحرشون بها ويغازلونها كعادة كل الجنود وفي كل مكان . جاء أخيرا خوسيه الى نوبة خفارته فألتقى ميكائيلا وأستلم منها ما أرسلت أمه معها له . طار فرحا بأخبار أمه وبالنقود وبالزوجة المرشحة. لكن الأفراح لا تدوم في الحياة . الحزن هو الوجه الآخر للفرح. كانت كارمن على الطرف الآخر من الخط . كانت تراقب خوسيه الوسيم وخطيبته الطارئة التي برزت على مسرح الأحداث بشكل فجائي. حضرت كرسالة مسجلة تمشي على قدمين دونما طوابع بريد , ورسولا حاملا رسالة . صيد كارمن اذن في خطر . وكارمن وجدت نفسها بغتة تواجه غريما جديا . الأنسان حريص على ما منع . خوسيه مكتوب لكارمن . اذن لا بد من التخلص من الغريم الغريب الطاريء . نصبت كارمن الحبال لايقاع خوسيه . كانت تغني وتوحي اليه أنه رجلها المفضل الأوحد. رمت اليه وردة حمراء فجن بها ولم يدر أنها ستكون نذير شؤم .

غادرت كارمن خشبة المسرح وسط تصفيق حار مستمر, فجاءت الى المسرح ثانية وثالثة

لترد تحية أعجاب الجمهور بأحسن منها . كانت تقبل يديها وتنشرها بأتجاه الحاضرين وقوفا . أوتنحني حتى منتصف الجسد .

ظهرت فرقة الفلامنكو ترقص وتغني وتصفق صفقات أيقاع الفلامنكو الخاصة . النساء بملابس جذابة الألوان تتسع كثيرا كلما اقتربت من الأرض . غرسن في سود شعورهن الورد الأحمر. الرجال مع آلاتهم الموسيقية مشدودة الى صدورهم . كانوا جميعا يتبادلون الغناء دوريا نساء ورجالا. كان المتنبيء لا يصدق عينيه . حين يصفق الجمهور يبالغ في التصفيق حتى بعد أن ينتهي . يظل وحده يصفق واقفا . كنت أطلب منه أن يجلس وأن لا يبالغ بالتصفيق . كان جوابه أنه لم ير في حياته شيئا كهذا الذي يرى في المسرح الألماني . كان شديد التلهف لرؤية كارمن ثانية . لقد سحرته الغجرية فخيل أليه أن قد وقع في حبها . كان يلحف بالسؤال متى تظهر مرة أخرى ؟؟ قلت اصبر أبا الطيب قليلا. ستأتي بعد قليل . كان يردد ( صبرا جميلا وعلى الله المستعان ) .

انسحبت مجموعة الفلامنكو فظهرت كارمن لتنفذ الجزء الأخير من الأوبرا . مصرعها بطعنة خنجر كان يخفيه خوسيه بين ملابسه ساعة كانت تنتظر خروج " أسكميللو " منتصرا على خصمه الثور . بعد مصرع كارمن بقليل ظهر أسكميللو قتيلا محمولا على نقالة الموتى . مر به حاملو جثته حيث كانت كارمن مطروحة على الأرض وسط بركة من دمائها . سقط العاشقان قتيلين في زمن واحد . هو حيث كان يمارس مهنة حياته , وهي حيث كانت تنتظر خروجه منتصرا متوجا بأكاليل النصر والزهو , والكثير من المال.

بعد أستراحة قصيرة رفعت الستارة على منظر طاحونة الهواء الشهيرة التى أرتبط أسم

" دون كيخوت " بها , كتلك الطواحين التي رأيت منتشرة في هولندا طولا وعرضا.

سألني صاحبي وهو يقول ( يا ساتر !! ) ما هذا ؟؟ هذه طاحونة دون كيخوت . قال وما سيطحن لنا هذا ( الكخوت ) في هذا المساء ؟؟ لا شيء . سوف لا يطحن شيئأ . قال أذن لماذا نصبوها أمامنا كالشيطان الرجيم على الشانو ( يقصد خشبة المسرح ) ؟؟ أنتظر قليلا وسترى لماذا نصبوها . ألا تطيق صبرا يا رجل ؟؟ أكثر من ترديد ( صبرا جميلا ) .

ظهرت الفرقة الخاصة بهذه الفقرة بملابس مغايرة لما رأينا في الفصول السابقة . البعض يرقص والآخر يغني وآخرون مصطفون خلف الراقصين يصفقون التصفيقة المشهورة . النساء ترقص منفذات دورات مغلقة كأجمل فراشات حقول الربيع الأسباني فتخلب الألباب . ثم كانت المفاجأة بظهور راقص طويل القامة نحيلها يتقلد سيف خشب يتدلى حتى يتماس مع أرض المسرح . ذهل المتنبيء متسائلا من هذا البهلول ؟؟ هذا هو دون كيخوت ... أجبت . قال ألم يجدوا شخصا آخر أفضل من هذا الكخوت ؟؟ قلت هذا هو الشخص المناسب للدور الذي رسمه مؤلف الرواية ( الهر سرفانتس ) . رقص الكخوت فأذهل الجميع برشاقته وخفته وحسن أدائه وغنى مقاطع قصيرة باللغة الأسبانية ثم فاجأ الحضور بأن أشهر سيفه وتسلق العجلة الخشبية الضخمة ملوحا بسيفه في كل أتجاه كمن يقاتل عدوا حقيقيا . في هذه اللحظات زاد حماس الراقصات والمغنين وأرتفعت أصواتهم قليلا حتى مست حرارة الأداء المذهل شغاف قلب أبي الطيب . سمعته يقول بصوت خفيض ( أحسنت . والله أحسنت ) . أعجبه الكخوت أخيرا . قال أشرح لي القصة بعد أنتهاء العروض . قلت حسنا , سأفعل . ثم كانت المفاجأة الأخرى : ظهور شخص قصير بدين على المسرح يمتطي ظهر حمار ضئيل . غص القوم بالضحك وأشتعلت قاعة المسرح بالتصفيق . سأل المتنبيء من هذا ؟؟ هذا ( سانجا بانجا ) رفيق وصديق وخادم دون كيخوت . قال يذكرني بأنيكدو صاحب جلجامش . قلت أنكيدو كان الند لجلجامش

وهذا هو الضد لدون كيخوت . ضده حتى بما يركب واسطة للتنقل . ذاك يركب حصانا هزيلا وهذا يركب حمارا مثله بدينا .

أنتهت العروض الساحرة فغادرنا المسرح الألماني حوالي الساعة العاشرة والنصف مساء وكان المتنبيء غائبا عني وعن نفسه وعن كل العالم . تركته سارحا كيما يستمتع بما رأى . ليته يقول شعرا في كارمن التي أحب وفيما رأى أمامه من رقص وطرب أنتهى بمأساة دموية مروعة راح ضحيتها بطلا الأوبرا : كارمن ومصارع الثيران وكان قد سقط قتيلا قبلهما أحد ضباط خوسيه . الكل فارق مسرح الحياة ما خلا الجندي السابق خوسيه . وهذا بدوره خسر ميكائيلا وخسر وظيفته مجندا وخسر كارمن .

كان المساء رخيا دافئا والشارع هادئا تغمره الأضواء الساطعة لكن صاحبي أضرب عن الكلام . أسأل فلا يجيب . كان ما زال واقعا تحت تأثير سحركارمن صوتا وقواما وتمثيلا . كان تأثيرها في النفوس عميقا حقيقيا فلم ألم صاحبي . أحب المتنبيء الغجرية كارمن .

أمام سكنه قلت له سأراك غدا وسنناقش مشكلتك مع كارمن . أعد جوابا لسؤالي كيف لم تذكر أو تكتب شعرا في الغجر وقد كتب لهم وفيهم كبار كتاب العالم ؟؟

ليست هناك تعليقات: