د. عدنان الظاهر
خواطرُ لم تخطرْ على باليِ ؟ كيف خطرتْ إذا ً وما كانت مناسبة خطرتها وأية الطرق قد سلكت حتى وصلت الرأسَ فأثرتْ فيه فصار يفكر بها وينشغل بل وينفعل ؟ هل هناك منعرجات خاصة وقنواتٌ سرية تسلكها بعضُ الخواطر لتصلَ الدماغ وتستقرَّ فيهِ ؟ جائز .
إسألوا علماءَ النفس وأطباءَ الأعصاب والطب النفساني . إسألوا إبن سينا والرازي إسألوا سيكموند فرويد وإسألوا مَن تشاءون سادتي الكرام لعلكم واجدين الجوابَ الشافي الذي يشفيني كما يُشفي البعضَ منكم . إسألوا سَحَرةَ بابل الكلدانية القديمة ومنجّمي المجوس في بلاط الملك نبوخذ نُصَر .
إنتفضَ الملكُ صارخاً محتجاً مهدداً بالويل والثبور لأنَّ أحدَ رعايا مملكته تجاسرَ فرفعَ سؤالاً مشروعاً يقتضيه العقل والمنطقُ . أمرَ بقتلي وكان القَتلة ُ جاهزين على أتم ِّ الإستعداد لتنفيذ الأمر غير أنه بَرُد قليلا وهدأت سَورةُ غضبه إذْ تباطأ في حركة رجوعه لهيئة جلسته السابقة قبل الغضب . عدّل تاجَ المُلك والمملكة على رأسه بعد أنْ قال لفرقة السيافين أتركوا هذا المعتوه الخارج على القانون ... أتركوه فإنه لا يعرف ما يقول ولا حدود طاقته على القول. دعوه ولا تقتلوه ُ. سأجدُ له وظيفة تشغله عمّا فيه من وساوس وخواطر تخترق دماغه عرضا ً وطولاً وتقعده مشلولَ الإرادة طليقَ اللسان طويله يتكلم كمن فقد وعيه وعقله . لا أظنُّ هذا الرجلَ سوياً . لا تقتلوه لعلي أفيدُ منه ومن فلتات حماقاته وجنونه . لعلني أسخّره مهرِّجاً في بلاطي لإضحاك ضيوفي والترفيه عنهم في ليالي السمر والعربدة والسُكرِ .
خطرَ في باله خاطرٌ مريبٌ لم يكن ليحسبَ له حساباً حيثُ تذكّر الملكُ الرهيبُ أنَّ شهرَ رمضانَ لما ينتهِ بعدُ . من أين وكيف ضربه هذا الهاجس أو الخاطر الدخيل المتطفل على الملوك ومَن هم في طبقتهم ؟ ما علاقته بشهر رمضانَ وما يأتي مع رمضان أو يأتيه للناسِ رمضانُ ؟
أبعدَ هذا الخاطر الشيطاني عن رأسه محدثا ً نسفه أنْ لا يدخلَ رمضانُ قصوري والكثير من بقاع مملكتي . بل ولا يرى أحدٌ من رعايايَ مطلعَ غرّة هلاله . بل لا يجرؤ أحدٌ على المحاولة حتى مجرد محاولة فالأمر أمري والنهي نهيي وعلى الصيام ِ ألفُ سلام ِ . هل أتدخلُ بين المليك وخاطرته هذه فأتعرّض ربما لعقوبة الإعدام سيفاً لا شنقاً ؟ إنها خاطرة ٌ، خاطرة ٌ أخرى هاجمتني بالرغم مني فسيطرت عليَّ من جميع جهاتي وأركاني . خاطرة كباقي الخاطرات التي تغشانا دون سابق إنذار فتتغلب علينا وتجعلنا عبيداً لها بدل أنْ نكونَ نحنُ سادتها . العربة تجرُّ حصانها فأين المفرُّ ؟
كيف أغامرُ ثانيةً برأسي وليس لي من رأس ٍ آخرُ سواه ؟ عفا للتو ِّ عني وأبقى رأسي منتصباً مرفوعاً فوق قامتي فعلام العَجلة ُ والبطرُ وضيقُ النفس ونفاد الصبر على مواصلة تحمّل حياتنا الصعبة ؟ لجمتُ لساني وسيطرتُ على نفسي التي كادت أنْ تأمرَ بالسوء فأفقدَ حياتي . عانيتُ جرّاء سكوتيَ هذا صراعاً مريراً حتى أوشكتُ أنْ أحس َّ بموجة صَرَع ٍ حقيقي ضربتني من أعلى جبيني حتى أصغرَ أصابع قدمي لا إبنُ سينا ينقذني منها ويشفيني ولا فرويد . هوّنتُ الأمرَ هذا على نفسي إذ ْ قلت لا بأسَ عليك يا رجل ... لا بأسَ عليك ... الصَرعُ أهون من الموت بفقدان الرأس ... الحياةُ مع الصرع ومشتقاته أفضلُ من نزول القبر مقطوع الرأس مشوّه الخلقة . كيف سيتعرفُ ربّي عليَّ يوم القيامة والمحشر وكيف سيفصلُ في أمري ؟
هل سيجعلني في مصاف الشهداء لأنَّ الملكَ الجبارَ قتلني في شهر رمضانَ الذي أحلَّ فيه الرفث َ إلى النساء ولمْ يحرِّمْ فيه قتلَ الإنسان ؟ أيهما أكثر أهمية له : الرفث وإتيان الجنس في ليلة الصيام أم حياة عبدٍ من عبيده ؟ مسألة شائكة ، شائكة جداً ، لم يفصل بها لا إبنُ عبّاس ولا أبو هُريرة ولا الأصمعي ولا حتى البًخاري صاحب الأحاديث الشهير . تحسستُ رأسي بكفي َ فسمعته يهمس في أُذني :
لا تتعجلْ أمركَ يا شقيُّ . حياتك أكثر أهميةً من خواطرك المنفلتة العابرة للحدود والجدران والسدود. دعها تمر ُّ فإنها لا مَحالةَ عابرة ولا تستقر في رأسك طويلاً . ستذبل بفعل الزمن ثم تتلاشى كأنها لم تكنْ ولا مرّت بخاطرك . ستهدأ الجمرةُ الخبيثة ُ وتنطفئ نيرانها ولا تخلّفَ وراءها حتى ذرة رماد . لا تنسَ قولَ مَن قال قبلك :
لسانك حِصانك ... إركبه ووجّهه أنتَ لا تدعهُ يركبك ويوجهك . كن ْ كما قال المتنبي ذات يوم صاحٍ جميل وهو مفعم بالتفاؤل وقوة العزيمة [[ على قَلَق ٍ كأنَّ الريحَ تحتي // أوجهها جَنوباً أو شَمالا ]] . هو الشاعرُ مّن يوجه الريح في أيما إتجاه يشاء فما أحراكَ أنْ تقتدي به وبمثاله . كيف تأتي الخواطر وكيف يجرُّ بعضُها بعضاً ؟ [[ ... فما أحراكَ أنْ تقتدي به وبمثاله ! ]] . كيف ترادفَ هذان الإسمان وفي هذه اللحظة الشطحة التي لا تخلو من عنصر المغامرة ؟ [[ مقتدى ومثال ]] ... إقتداءٌ وإمتثال ٍ . أليس من الأفضل أن نعكسَ السياقَ الزمني لترادفِ ألفاظنا فنقولُ نمتثلُ أولاً ومن ثم َّ نقتدي ثانياً ؟
لا ، ليس صحيحاً ، لأنَّ مقتدى في إيرانَ أولاً ومثال في إسرائيلَ ثانياً . مقتدى هو الأول إنْ جرى الحديثُ عن سياقات أو تساوقات الزمن فالزمنُ أكبرُ وأخطرُ من معاني ومغازي ألفاظ اللغة مهما كان عددُ حروفها وشكل كتابتها . الزمنُ الزمنُ يا صاحبَ الزمان !! كان حمورابي مليكُ بابلَ وعموم ِ ممالك الشرق الأوسط يتابعُ ما يجولُ في رأسي من أفكارٍ وخواطرَ جنونية تشرِّقُ حيناً وأغرِّبُ فيها ومعها أحيانا . وجّهَ خطابَه لجوقة العبيد والخدم وسيّافة ِ القصر الملكي وسرايا حمايته المدجّجة بالسلاح قائلاً بكل جدية : ألم أقلْ لكم دعوا هذا المعتوهَ حياً يتنفس الهواءَ ويأكلُ الطعامَ مثل باقي البهائم ؟
ها هو يُفصحُ عن أمور ٍ طريفة ليس فيكم مَن يجرؤ على تناولها أو التفكير بها . إنه يفكّر ، ما زالَ يستطيعُ التفكير وإستيلاد الأفكار والخواطر ويحاورُ نفسه بشأنها بجرأة نادرة لا يمارسها إلا المجانين في هذا الزمن . دعوه حياً ينفعنا وننتفعُ به يُضحكنا ويسرّي عنا وقت الضيق واللهو والترفيه عن الضيف السامي . أنهى حمورابي كلامه فإلتفتَ إليَّ وكنتُ لم أزلْ ماثلاً كصنم بابلَ أمامه لا أتحركُ ولا أتكلمُ . كانت نظرته لي تحملُ بعضَ الرأفة بل وإلتفاتة إنسانية نادرة حتى خيّلَ لي أنه يربتُ على كتفي ويخاطبني بالقول [[ يا ولدي ]] !! ثم قال : لا تقمعْ خواطركَ أيا ً ما كانت. دعها تمضي بحرية ٍ وسلاسة ففي كتمانها وكبتها خطرٌ على صحتك وعلى سلامة دولة بابلَ . عبّرْ عنها ولا تخفْ فلقد تعلمنا منك حق التعبير عن الرأي المغاير وحق ممارسة النقد الصريح فلا تخفْ بعد اليوم فالقانون معك والصحافة مفتوحة أمامك أكتب ما شئتَ فيها وسب َّ مَن شئتَ شرطَ أنْ لا تمسَّ جنابي وهيبتي ولا تتوجه ْ بالنقد لي فأنا كما تعلم مصون محصَّ ْ أقتربُ في كثير ٍ من شؤوني من مقامات القدسية العلوية فإياكَ إياكَ من مغبّة ِ الإقتراب مني أو التعريض بي . خطر في بالي أنْ أسأل حضرة جلالته هل أستطيعُ أنْ أنتقدَ أو أقتربَ مِن أو أكلّمَ جواريك وسراريك ومحظياتك وأفواج نسائك ؟
ما أنْ أتممتُ سؤالي كخاطرة ٍ مجنونة ٍ مرّت في رأسي حتى بادر أكثرُ من سيّاف ٍ إلى تجريد سيفه لكنَّ الملكَ ، وقد غدا ( دمقراطياً ) بفضل جرأتي وصراحتي ، أمرهم بإغماد السيوف ومغادرة قاعة العرش .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق