د. عدنان الظاهر
منذ ُ متى تصومُ عشتارُ شهرَ رمضان ؟
صامت وقد قررت سَلَفا ً أنْ تصومَ هذا الشهر في هذا العام 2008 فأقفلت أجهزة الإتصالات عَبرَ الإنترنت لئلا يكدِّر بريدُ الرومانس قدسية وجلالَ صومها المنذور أصلاً لمردوخ َ إلهِ بابلَ على أنْ يذهبَ أجرُ صومها إلى جلالة مليك بابلَ صاحب السمو الملكي حمورابي . تساءلتُ ومن حقي أنْ أتساءل َ : هل في نية جلالة حمورابي أنْ يصومَ هو الآخر رمضانَ الكريم شهرَ التوبة والغفران ؟ رأيته يهز رأسَه بعنف نافياً أنْ تكونَ لديه أية ُ نية للصوم . قال متى صمتُ وترفعتُ عن لذائذ الطعام والشراب والعربدة مع النساء وكل نساء بابلَ تحت رحمتي وفي قبضة يدي ؟ هل يصومُ مَن له كل هذا الثراء والمجد الأسطوري وهل يصومُ منتصرٌ قاهرٌ لشعوب الأرض في مشرقها ومغربها ولِمَ ولمن يصومُ ؟ قلتُ له بإنكسار كمن يطلب منه رحمة ً أو عفواً عن جريمة لم يقترفها : لكنَّ حبيبة قلبي عشتارُ يا مولاي قررت أنْ تصومَ هذا الشهر الكريم ونفذت قرارها رغمَ رجواتي وتوسلاتي في أن لا تفعل . ركبتْ رأسها وأمضت قرارها وتركتني حائراً في أمري منقطعاً عنها مقطوعة ً عني عافتني كيتيم يتخبط في يتمه باحثاً له بين نساء العالمين عن أم تحميه أو مرضعة تغذيه أو أية إمرأة تعطف عليه وتؤاسيه . رفع حمورابي حاجبيه متعجباً مستنكراً قولي ثم سالني كبف ولماذا إنقطعت عنك وأنت حبيبها وصديقها الأثير بل وعابدها في الليل والنهار ؟ أما كيف إنقطعت عني فلإنها أقفلت وعطلت أجهزة الإتصال في بيتها وأما لماذا فذاك لأنها تعتقد أنَّ المراسلات في هذا الشهر وتبادل مكاتيب الرومانس من شأنها إفساد صومها الذي لا محالة سيؤدي إلى رفض الإله مردوخ له وقد أبطله الهوى الجامحُُ على حدِّ زعمها . قال مستنكراً بشدة : ومَن قال إنَّ الهوى والحبَّ نجاسة ٌ تُفسدُ الصائمَ وحرمة صومه ونُسكه وأيُّ غبي ٍّ قال ذلك وليس في شرائعي مثلُ هذا القول ؟! الآلهة يا سيدي مليكَ ملوك بابل لا تقرأ الشرائعَ التي يدوِّنها البشرُ على الذهب أو الحجر والورق . الآلهة ُ يا حمورابي العظيمُ أكبرُ من الملوك وأعلى مقاماً ... على حد زعمهم ! قال لا تصدّق هذا السخف ... ماهم إلا ما نصنعُ نحن البشر . لا تصدق سخافاتهم وإياكَ إياك الخضوع لما يقولون وما يتأولون . دعاواهم باطلة وتعليماتهم هي السخف والضلال بعينه . إتّبعْ ما يأمر الملوك وأصغِ لما يقولون ولا يقولون إلا القول الفصل . الملوك ممثلو شعوبهم والناطقون بإسمهم والذائدون عن حدود أوطانهم فمَن تمثل الآلهة ُ ، أيَّ شعب تمثلُ وبأية لغة تخاطبه وكيف تسعفه وقت الشدة وهل تدفع عنه مخاطر الفيضانات والأوبئة والحرائق وغزوات الجيران وبأية أسلحة تدافع عنه وتقاتل بين صفوفه ؟؟ كنتُ صامتاً أصغي خائفا ً وَجِلاً فقال بصوت آمرٍ قلْ ، أجبْ ، ماذا جرى لك حتى حرنتَ كبغل بابلي عريق ؟ قلتُ بصوتٍ يشوبه الكثير من الخوف : يا سيدي أنا إنسانٌ مغلوبٌ على أمره . خائف ٌ موزّع ٌ بين نارين ومصيبتين إحداهما أكبر وألعن من أختها . سكت ُّ فحثني على مواصلة خطابي فقلتُ : يا مولاي مليكَ ملوك بابلَ ، يقول مردوخ إنه هو الذي خلقني وسوّاني بشراً عاقلاً وأنت تقول إنك مليكُ ملوك الأرض شرقاً وغرباً تحيي وتُميت فأيكما هو الرب ُّ الحقيقي وأيكما هو الرب ُّ الآخر ُ ؟ نهض حمورابي مُغضبا ً شرساً ويده على مقبض سيفه الذهبي المرصّع بالأحجار الكريمة ولا سيما حجر لازورد كابول الأفغانية فغصتُ في مكاني خوفاً وذعراً ومهابة ً ثم قلت بصوت مرتجف ٍ واهنٍ كأنه يخرج من بين ذرات تراب سرداب من سراديب مقبرة السلام في النجف العراقية ... قلت وأنفاسي تتقطع وكلماتي لا يجمعها رابط معقول ... قلتُ يا مولاي إنما أنك لأنتَ الرب وأنت أنت لا غيرُك مَن يحيينا ويميتنا ألف ميتة ٍ في اليوم الواحد . وأنت لا غيرُك من يبعثنا أحياء ً من رموسنا وأنتَ أنتَ لا غيرُك مَن ينفضُ عنا أتربة أكفاننا وبقايا فصوص العنبر والمسك والكافور من فوق جبهاتنا . أنت ربنا ومليكنا وحدك لا شريكَ ولا من منافس ٍ لك على مر الدهور والعصور . سكتَ غضبُ حمورابي عنه وإنبسطت أساريره الملكية فأغمدَ سيفه بعد أنْ قلبه مراراً بين يديه وهزه هزاتِ زهو وعجرفة وعنجهية في وجه رجل بسيط مثلي مغلوبٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ على أمره في مملكة بابلَ . جئت أشكوه هوايَ وغطرسة َحبيبتي عشتار وصدّها عني خلال شهر رمضان فإنقلب رباً لا مثيلَ ولا من ندٍّ له يهددني بسيفه المرصّع بالجواهر أنا الذي لا أحمل معي من حطام دنياي إلا ساعة يدوية نصف ثمينة أردتُ من خوفي أنْ أغامرَ فأقدمها له هدية ً متواضعة ً لعله يتنازل فيتقبلها قبولاً حَسناً ولكن هيهات ! لا يتقبل الملوكُ متواضعَ الهدايا . هداياهم في العادة رؤوس مواطنيهم وأعدائهم ثم كريمُ الحجر ونادرُ الجوهر فضلاً عن الذهب والفضة ولا أتكلم عن الجواري والسراري وسبابا بقية الشعوب المقهورة بالحرب والنار والسيف . جئته مواطناً طائعاً فقلبني إلى عبد ٍ عادي عابد متعبد أقدِّسُ له وأحرق البخور في قصوره الباذخة وعلى أبواب معابده حاملاً الشموع مردداً ما علمني من تراتيل وأدعية وأناشيد للمناسبات وأحياناً يأمرني بضرب الصنوج ودق الطبول فصرتُ بفضل نعمته طبّالا ممتازاً
ترقص الراقصاتُ على أنغام طبولي وعلى نشيج لهيب حرقة مزماري وهكذا وجدتُ نفسي بعد فترة قصيرة من الزمن رجلاً فنياً حاذقاً أجيد ممارسة العديد من المهن والصنائع والفنون . إستدعاني إلى قصره المطل على نهر الفرات ذات ليلة قمراء ففوجئت بوجود حبيتي عشتار ، عشتار صائمة رمضانَ ، وجدتها متكئة ً معه تشاركه سرير ملوكيته وفي يدها كأسُ ذهب طافح ٍ بأجود خمور بابل . حين رأتني رفعت كأسها عالياً ثم قالت بصوت مرتفع : في صحتك !! في صحتي ؟ أية صحة يا مجنونة ؟ لم أستطع السكوت على هذه الفضيحة . قلت ليس لدي َّ في حياتي إلا هذا الرأس العاصي الشقي فليقطعه المليكُ والرب حمورابي مقابل أنْ أقول لعشتارَ في حضرته ما أريدُ أنْ أقولَ . سوف لا أسبها ونحن ما زلنا في شهر رمضانَ ولكنْ ، سوف أفضح نفاقها وإزدواجيتها . سأواجهها بقرارها في أنْ تصومَ رمضان فتتعففُ وتتطهرُ وتعزف عن مراسلتي حفاظاً على طهرها وعفة لسانها من أنْ يتلفظ َ كلماتٍ تمت ُّ للحب بصلة والحبُّ في رمضانَ شيطانٌ ناطق ٌ بالف لسان ولغة وبيان . شيطان مرجوم يتحرك بعنف ما بين موعد الإفطار وساعة السحور عند السَحَر.
هل تأذنُ يا مولاي ويا ربَّ العباد في مملكة بابلَ ؟ لم ينتبه حمورابي . كان منشغلاً عني بمداعبة شفتي عشتار وشمِّ أريج شعر رأسها الكستنائي المتهدل فوق مرايا ظهرها . تركته برهة ً ليواصلَ غرامه وكنتُ حريصاً لا غيوراً أن أتابع َ مشهدَ تبادله الأنخاب مع حبيبتي التي خانتي مع ربها ومليكها عشتارُ . لم ينتبها لي وتجاهلا سؤاليَ الضارع فكررته رافعاً نبرةَ صوتي أعلى قليلاً فلم يكترثا لي وواصلا هيام وغزل الأفاعي كأني لستُ موجوداً بينهما ماثلا ً أمامهما . هكذا ، قلت مع نفسي ، إما أنْ تكون الملوكية والربوبية هكذا أو أنْ لا تكون ! خمر وسكر وغزل ٌ وغرامٌ ومجون علني ٌّ تحت سمع وبصر الرعايا المقهورين بالإستعباد المفروض عليهم بقوتي الرب والملك ، سطوة الغيب وتهديد السلاح . خَدَر ُ الإفيون ولمعان السيف تحت الشمس . أعدتُ نداءَ ضراعتي وقد أنهيا المهمة على أكمل وجه فقالَ تفضلْ ، قل ما بدا لك . أشكوكَ يا مليكي وربي ومولاي ... أشكوك حالي مع رفيقتك وشريكتك في خمرتك ومتكئك عشتار ... عاهدتني أنْ تصومَ رمضانَ وأن تنقطعَ عني أو تغيب حفاظاً على حرمة هذا الشهر الفضيل على حد ِّ ما زعمت . قال وما مصدر شكواك وما هي ماهيته ؟ يا مولاي ومَن روحي وحياتي في يده الكريمة ... تدّعي عشتارُ العفة َ وتجنب إتيان المحرمات التي لا من أصلٍ لها ولا مِن وجود ، لأنها صائمة ُ رمضانَ شهر التوبة وطلب المغفرة على ما تزعم . إنصرفا عني غيرَ مباليين بسماع مصيبتي . تبادلا القبلَ اللاهبة والأنخابَ الباردة برودة الثلج المستورد من الجبال البعيدة . تبادلا الهمس واللمس والنجوى كأي عاشقين من مراهقي زماننا هذا . بعد أنْ إرتويا إلتفتا نحوي وأشار الملك الرب ُ برأسه لي أنْ واصلْ يا هذا حديثك . أجلْ يا مولاي الرب ُّ والملكُ في عين الوقت ... بدل أنْ تنفذ َ عشتارُ تعهدَها بالإلتزام بحدود الحشمة وصيانة حرمة رمضان وجدتها لديكم تعاقركم الخمرَ وتبادلكم الحب والجنس الذي لا أراه مقدساً . قطّب حمورابي جبينه الملكي وأزاح تاج العرش المثقل بالجواهر عن رأسه قليلاً ومسحَ قطيرات العرق من جبينه الرباني وعدّل من جلسته ثم قال : إسمعْ يا هذا : كانت عشتارُ كما قد تعلم آلهة َ الجنس المقدس ... وحين كبرت تقاعدت وسلمت المعبد إلى صبيات مراهقات ليمارسن شغلتها من بعدها فلم يقصرنَّ بل وتفوّقنَّ عليها . لذا ، ولكي تتخلص من وطأة عبء الفراغ ، إنصرفت للدين والصوم والصلاة والعبادة . الصوم والصلاة والعبادة لك ولأمثالك في حياة بابل اليومية العادية وليس لي في جناتي وقصوري . لكم دينك ولي ديني . لكم شؤونكم الآخرى ولي شؤوني الخاصة أنا الرب ُّ والمليكُ ... أنا أأمر فتطيع عشتار ومَن هم أكبر من عشتار ... هل فهمتَ ؟ نعم مولاي ، قد فهمت وكيف لا أفهم قولَ ربي ومليكي وولي نعمتي ؟ عشتارُ الصائمة لك وعشتار آلهة الجنس المقدس السابقة لي . تقاعدها لم يفقدها سحرها وجمالها الفائق الجودة وأنا أتشهاها بين حين وآخر إذْ فيها نكهة خاصة ومعنى معتّق شديد الغموض وأنا لا أحب ُّ الوضوح ... قال حمورابي . تذكرت قول المتنبي (( وفي المُدامةِ معنى ً ليس في العنبِ )) . المُدامة لحمورابي والعنب لأمثالي فسبحانه يجبرنا على قبول القسمة الضيزى ! أردتُ أنْ أساله وهل ستبقى معك عشتارُ حتى ساعة السحور ؟ أحجمتُ ولم أسالْ .
عدتُ أدراجي لحي الكادحين في أطراف بابل حيثُ أماكن الحدادين والنجارين وباعة الدبس لأدبرَّ طعاما للسحور ولعلي أنسى محنتي مع المرأة التي أحبها وأقدسها أكثر من حمورابي ... المرأة التي خانتني وقبلت دعوة هذا لتمضية ليلة رمضانية كاملة معه بين أرجاء قصره . أين صومها وأين حرمة هذا الصيام ؟ أتاني صوت حمورابي قوياً عالياً : لا تنسَ ما قال لكم ربكم في سالف الزمان [[ أحِل َّ لكم ليلة َ الصيامِ الرَفَثُ إلى نسائكمْ هنَّ لِباسٌ لكم وأنتم لباس ٌ لهنَّ ... البقرة / 186 ]] . إرتعدتْ فرائصي خوفاً ... حتى هنا يلاحقني صوت وضمير حمورابي ؟ أردتُ تهوين الأمر على نفسي فقلتُ سأتوجه إلى التي أحبها وأشاغل نفسي ببعض الأسئلة لعلي أنسى مصيبتي مع حمورابي . سألتها متى تعودين وهل ستواصلين صيامك غداً ؟ قالت بكل تأكيد ، سأعود إلى بيتي وسأواصل صومي وأحافظ على حرمته ... سأعود لأنني مرتبطة بدوام وظيفي أكسب منه مالاً إضافياً أدخره لأيام الضيق وساعات الشدّة فمستقبلنا في بابلَ غير مضمون وعلى المرء أن يكونَ حذراً في هذه الأيام.
هل ستكتبين مولاتي لي بعد كل الذي حصل ؟ قالت كلا ، ما زلنا في رمضان . سأتصل بك تلفونياً بدل الكتابة فالصوت أنقى وأتقى وأزكى من الحرف وما يخط ٌّ القلم ! في الرسائل أسرارٌ ومحرمات وفي الصوت وضوحٌ ولا من أسرار . لا يُخفي الصوتُ شيئاً فهو مثل شعاع الشمس في رابعة النهار . هل أنتظر سماع صوتك والتمتع باشعة نورك ؟ إنْ شاءَ اللهُ ... قالت على عجل ثم غابت .
الأربعاء، سبتمبر 10، 2008
عشتارُ تصومُ رمضانَ
Labels:
عدنان الظاهر
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق