د. عدنان الظاهر
إنتشرت الكوليرا في مدينة الحلة وضواحيها بشكل مُذهل حتى لم يسلمْ من خطرها مليكُ بابلَ نفسه : حمورابي ! أين المفرُّ إذا ً وكيف بحال باقي الرعايا من بسطاء الناس وفقرائهم وفلاحيهم ؟ قلتُ سأزور صاحب الجلال والعظمة رئيس البلاد ولكن شرط َ أنْ تتوسط َ لي عشتارُ ربة الجنس والحب والتكاثر ، فوساطتها قوية مؤثرة وشفاعتها ، كاللات والعُزى ، لتُرتجى ومقامها هناك لدى مليك البلاد عالٍ سامٍ وكيف لا وهي عشتارُ ما هيَ ومَن هيَ ؟ قالت رتبتُ الأمرَ مع مليكنا المحبوب وسأكونُ في إنتظارك على تمام الساعة السادسة مساءً في مقصورتي الخاصة المُلحقة بمجمّع قصور الملك في قلب المنطقة الخضراء . وجدتها في إنتظاري كأجمل ما تكونُ هيئةً وملبساً ووروداً وعطوراً باريسية باذخة . مدّت يدها لي تصافحني وترحبُّ بي مع كلمة عتاب قصيرة أني لم أتصلْ بها ولم أكتب لها منذ ُ ما يقربُ من شهر .
قبّلتُ كفها معتذراً مبرراً غيبتي عنها بالسفر هنا وهناك لأعمال تجارية وصفقات نفط مهرَّب مخفّض السعر فضلاً عن بعض المشاغل التي لا بدَّ من إنجازها في وقتها وإلا تراكمت وغدت عبئا ً ثقيلاً تنوء بحمله جبالُ حِمرينَ وقرة داغ وزاكروس ثم طوروس . ما أنْ فرغتُ من تناول كأس عصير البرتقال الطبيعي المركّز قالت هيا ... هيا فالملك في إنتظارنا .
لم أصدق ما سمعتُ. الملكُ في إنتظارنا ؟ ومتى إنتظرت الملوكُ مَن هم مثلي من رعاياهم ؟ الفضل بالطبع لصاحبته وإنيسته ورفيقة لياليه البيض والحُمر التي تبادله الجنس المقدّس ليلاً ونهاراً لكي تسهِّل عليه مهمات تمشية أحوال الرعية وفض الخصومات مع جيران الشمال ومشاكل البصرة ونفطها المهرَّب . ( الجنسُ إفيونُ الشعوب ) !! دخلنا قاعة فسيحة من المرمر الإيطالي المستورد مختلف ٍ ألوانه وكان حمورابي مضطجعاً في عرشه الذهب والزمرّد والياقوت حتى أني حسبته عرشَ سليمانَ الذي زارته بلقيس ملكة سبأ في غابر الزمان إثرَ وشاية الهدهد بها من أنها تعبد وقومُها الشمسَ لا ربَّ سليمان .
كان محاطاً بالصبايا الحسان ، فواحدة تحرّك الهواء فوق رأسه الملكي بمراوحَ من ريش النعام وأخرى تجهز له كؤوسَ شرابه من خمور بابلَ المعتقة وثالثة تمسّدُ كتفيه ورابعة تدلّكُ قدميه بالمسك والعنبر وباقي أطايب الدنيا المصنّعة في بابلَ والمستوردة من الهند والسند وعُمانَ ومسقطَ ووادي هَجَر . أسكرني شذى هذه العطور من نوادر المعروف منها وأغلاها ثمناً حتى كدتُ أنْ أفقدَ وعيي لولا تشبثي بذراع مرافقتي عشتار . أشارَ لي برأسه الملكي أنْ تكلمْ ، وكان يتكلم خلال مايكروفون فيأتيني صوتهُ عَبرَ حاجز ٍ من الزجاج المقاوم للرصاص . كنتُ أسمعه جيداً ولكنْ هل في وسعه سماعَ صوتي الواهن مخاطباً إياه بدون مايكروفون ؟
أشارت عشتارُ لي بطرف عينها تشجعتي على الكلام قائلة لا من مشكلة مع صوتك ، هذا جدارٌ من زجاجٍ خاص لاقطٍ للصوت يسمعه جلالته حتى لو أتاه من أمريكا . تكلمتُ بصوتٍ مرتعشٍ خائف فسلّمتُ عليه وحييته تحية َ الملوك ومَن هم بمقامهم من رؤساء هذا الزمان بعد أنْ لقنتني عشتارُ فنَّ مخاطبة هذه الفئة من البشر الذين جَبلهم رب ٌ ثانٍ من طينة أخرى غير طينة الناس الأسوياء . لهم أجهزة هظم خاصة وأجهزة تناسلية خاصة جداً جداً لا يُحسن معاملتها وفهمها والتعاطي مع حاجاتها إلا مَن هنَّ في رُتبة وطبقة عشتار من السراري والمحظيات والقيان والجواري الحسان .
قلتُ يا سيدي وملكَ ملوكِ الأرض والسماء أقلقني ما ضرب بابلَ من وباء خطيرٍ لم يسلمْ منه جلالة مليكنا المعظم المحبوب . أقلقني حتى قررتُ أن أزورَكم لأطمئن َّ على حالكم حتى لو كلفتني هذه الزيارة رأسي . جئتكم من فج ٍّ في الأرض بعيد ٍ سحيق وتحمّلتُ ما قد تحملّتُ ما في الطريق بين دمشق وبابلَ من أهوال ومخاطر وما بذلتُ من مال مطلوب يمكنني من الوصول إليكم . من أجل ذلك بعتُ فرسي في دمشقَ قربَ سوق الحميدية من جانب الجامع الأموي ودفعتُ ثمنه لمهرِّب لا أفهم إلا القليل من لغته . قادني ليلاً إلى العراق ثم بابل . قال لي قبلَ أن يغيبَ مزّقْ جواز سفرك فإذا ألقت شرطة ُ بابلَ القبضَ عليك قل وصلتُ العراقَ تهريباً بدون وثائق ... وإذا تطلّبَ الأمرُ أطلبْ اللجوء السياسي . ما حاجتي للجوء السياسي وأنا مع عشتار بين يدي الملك نفسه ؟ ثمَّ إني في مدينتي السابقة ومسقط رأسي ولي فيها أقارب ومعارف ثمَّ لي فيها حبيب قطع تعسفاً أخبارَه عني سأحاول زيارة بيته والتعرف على ذويه وربما أتناول الطعام معه على مائدة إفطاره فما زلنا في شهر رمضانَ .
كان حمورابي وكانت عشتار مسرورين بخطبتي العصماء وسحر بياني وبلاغتي التي إرتجلتها إرتجالاً دون إعداد ٍ مُسبق . أثنى الملكُ على موقفي الوطني الشجاع وعلى رفضي طلبَ اللجوء السياسي قال هذا بلدُك زرهُ وأقمْ فيه متى ما تشاء وإلى أي زمن تشاء . لستَ هنا بحاجة ٍ إلى جواز سفر بل سننظم لك هوية تحمل صورتك الشمسية تحملها معك لئلا تتعرض لك عناصر الأمن والمخابرات وهي كما تعلم كثيرة في هذه الأيام فالتخريب والتفخيخ على قدم وساق تحت سمع وبصر جيوش الإحتلال . وإذا شئتَ الأوبة لوطنك الآخر أصدرنا لك جوازَ سفرٍ دبلوماسي من الطبقة الأولى يعطيك حقَّ زيارة أي بلد ٍ في الدنيا من غير ما حاجة ٍ لتأشيرات دخول وتفتيش شرطة الحدود ففيه ومعه أنت مُحصّن منيع الجانب . أردتُ أن أقولَ خرجنا عن موضوعنا الرئيس يا صاحبَ الجلال والمقام السامي لكني خشيتُ أن يأمرَ بقطع رأسي لتطاولي وقلة صبري . واصلتُ الصمتَ وعشتار ترمقني بين حين ٍ وآخر بعينين مشفقتين ووجه محايد لا من أثرٍ فيه لأي إحساس أو إنفعال لكأنه صُنعَ من زجاج آخرَ لا يلتقطُ صوتاً ولا نأمة ً ولا يعكس شعوراً أو تعبيراً.
قال وقد أرهقه الكلام الطويل إني بخير وصحتي تتحسن بفضل ما يبذل أطبائي من جهود آناءَ الليل وأطرافَ النهار . تساءلتُ مع نفسي وهل بقيَ منهم أحدٌ بعد كل هذا الخراب والأوبئة والإغتيالات ؟ إذاً من أين أتت بابلَ الكوليرا وكيف عمّت وإنتشرت بسرعة مخيفة غير مسبوقة ؟ ليتني لم أهمس وأتناجى مع نفسي . نسيتُ طبيعة َ وسرَّ ما يفصلني عنه من جدار زجاجي خاص . كان بالطبع يلتقطُ حواري مع نفسي وليتني لم أحاورها ! هزَّ الملكُ الجبارُ رأسه مراراً ثم قال معك حق يا بُنيَّ ، معك حق . هاجر الكثير من أطباء المملكة هرباً من الموت المعروف الأسباب والدوافع . هاجروا بجلودهم تاركين وراءهم دورهم ووظائفهم مغامرين بمستقبلهم ضاربين في أصقاع الأرض من أستراليا ونيوزيلاندا حتى كندا وأمريكا الشمالية . لذا إنتشرت الأوبئة وتفاقمت حالة مرض الكوليرا فحرُّ الصيف ما زال مطلاً على أبوابنا يجرِّعُ الناس العلقم َ والكهرباء كما تعلم مشكلتها مشكلة عويصة فإذا برد الجوُّ قليلاً جاءت العتمة وإنطفأت الأنوارُ وهكذا فالناسُ بين جحيمي الحر والظلام .
هل أسأله وما دور جلالتكم وكيف وقفتم عاجزين أمام هذه الكوارث والمحن مع كل ما في حوزتكم من أموال وسلطان وشرطة وجنود وسيوف مُشرعة في وجوه فقراء الناس ... لكني آثرتُ الصمتَ فالرجلُ ما زال يهذي أحياناً من فرط الحمّى ، بدل ذلك قلتُ له أرجو لك السلامة سيدي ومولاي وأنْ تنهضَ سالماً من محنة مرضك لتستأنفَ الحكم قوياً معافى وأن تحاولَ القضاءَ على الإرهاب والإرهابيين في مملكتك المترامية الأطراف . أما جوازك الدبلوماسي فلستُ محتاجاً
له ، ذاك لأنَّ فرسي ما زال ينتظرني في دمشق . إعتدل الملكُ في مجلسه وعلى محياه سيماء الإستنكار ليقولَ لكنك إدعيتَ بيع فرسك في دمشق الشام !! لم أبعْ فرسي الأصيل سيدي ومليكي ومولاي ، بل بعتُ بديله المزوّر وتركت الأصل أمانة ً تحت رعاية أحد معارفي ... هذه هي الدنيا قاتلٌ ومقتول ... سارقٌ ومسروق ... كاذب ومكذوب ٌ عليه . دخلتُ بلدي تزويراً وتهريباً فما يمنعني من تزوير خيولي والضحك على ذقون بعض الناس الأغبياء الذين لا يميزون بين الأصيل والمهجّن غير الأصيل ؟ أقول هذا الكلام وقد مرَّ في خاطري ما قال معاوية يوماً عن أهل الشام في معرض تفسيره للنصر الذي أحرزه على الأمام علي في معركة صفين قال [[ إنتصرتُ على إبن أبي طالب بجيش من الشوام ليس فيهم من يفرِّقُ بين الناقة والجمل ]] .
هل أعودُ كما أتيتُ أدراجي لبلدي الآخر دون أنْ أرى الحبيب الذي غاب وهل سيغيبُ طويلاً ؟ كان يرجو لقائي ورؤيتي فهل تراهُ ما زال راغباً في رؤيتي ولقائي ؟ هل تبدّلَ كما يتبدل بعض ساسة عراق اليوم وكما يتقلبون كالقرود كاشفين عوراتهم القبيحة ومصالحهم الدنيوية تكشف المخفي َّ وراء عوراتهم وعورات أمهاتهم ؟ هل أزوره فجأة ً وأساله هل تعرفني يا حبيب ؟ هل ينكرني إذا ما رآني وما الذي يُنكرُ فيَّ ؟ كلا ، لا أزوره إلا إذا طلب ذلك مني ووجّهَ لي دعوة رسمية بالطرق الدبلوماسية فعندذاك سأبيع فرسي الأصيل بعدَ أنْ أبلغَ به مدينة دمشق مضحياً به من أجل تلبية دعوة حبيبتي والنسخة الثانية من عشتار ... فهي نقيض عشتار ولو حملت إسمها ... إسمها فقط دون خصائصها ومهماتها الجنسية المعروفة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق