د. عدنان الظاهر
نعم ، ماذا جرى هنالك في العاصمة بابل ؟
مرَّ الشهر الذي طلبت عشتارُ مني مهلة ً كي تعيدَ ترتيبَ شؤونها الشخصية وأمورَ قصرها بعد التطورات الجديدة التي أدّت إلى إعفائها من كافة وظائفها ومسؤولياتها الدينية والدنيوية التي كانت تضطلعُ بها قبلَ زيارتها لي في بلدي البعيد عن بابل . كانت المخالفة الكبرى في أنها لم تطلبْ موافقة حمورابي على مقابلة أُناس ٍ غرباء عن عاصمته ولم تحصلْ على الإذن منه لمغادرة مملكته الواسعة الأطراف ، مخالفتان لا واحدة . رُب َّ ضارة نافعة ... أُعفيت من مهامها المزدوجة الشاقة وأحيلت على التقاعد المبكّر ولكنْ لتتمتع براتب تقاعدي خيالي ومخصصات منوَّعة وقصر منيف على شاطئ نهر الفرات محاط بجنات عدن ٍ تجري من تحتها الأنهارُ ... مكافآت لا تخطر على بال أحدٍ من رعايا مملكة بابل . هل هذه عقوبة أم مكافأة ؟ أراها رِشوة ، نعم رِشوة ، لماذا ؟ حمورابي رجلٌ ذكيٌّ بعيد النظر كثير التجربة يعرف كيف يتعامل مع عناصر بلاطه نساءً ورجالاً . كافأ آلهة الجنس المغضوب عليها بإمتيازات لا يجرؤ بشرٌ أو رب ٌّ على التنازل عنها فالإمتيازات قيودٌ والقصور الشاهقة حصونٌ
وسجون . لقد حكمَ ملكُ بابلَ على عشتارهِ بالسجن المؤبَّد دون قيودِ حديد في يديها أو رجليها . ستظلُّ هناك في بابلَ مجردة من صلاحياتها وأبهتها الوظيفية حتى توافيها المنية فالأربابُ كذلك ينفقون . تأكل وتشرب وتنام لكنها فقدت متعة ممارسة الجنس مع كل مَن هبَّ ودب َّ من رعايا المملكة كما كان شأنها في سالف الزمان وهذه هي العقوبة الأكبر والأفدح . أراد تقييد حرية حركة قدميها وحرية حركة لسانها حيث لديها الخطير والكثير من أسرار الدولة . الخوف كل الخوف من فضح أو كشف أسرار الدول العظمى . لِكمْ أنت ذكي ٌّ مولانا حمورابي !! لا ثكلتك أمُك فمثيلك قليل في تأريخ البشر .
طيب ، وعدتني أن تتصلَ بي بعد ثلاثين يوما ً بواسطة الإنترنت وها قد مرَّ الشهرُ وما يزيد ُ فلا خبرٌ منها ولا رسالة . علمتني تجارب الحياة الطويلة أنَّ سكوتَ الطرف الثاني يُخفي وراءَه ما يُخفي وأنَّ أمراً يُدبَّرُ ضدي في الظلام . أرادت الهروب فقالت سأتصل بك بعد شهر . صدّقتُ كشأني ودأبي دوما ً وعدَها وسلمتُ مفاتيح مستقبلي في يديها . هل أنا السبب فيما نالت من عقوبات صارمة لأنني دعوتها لزيارتي فلبت دعوتي ؟ ألهذا السبب سحبت نفسها من علاقتنا الجديدة وقررت القطيعة ؟ كانت مؤدبة جداً إذ كان في مقدورها مصارحتي عن عزمها قطع علاقاتها غير الدبلوماسية معي أثناء زيارتي الأخيرة لها في بلدها بعد الذي وقع لها مباشرة ً . هل أكتب لها مستفسراً وهل ترى ستردُّ ؟ كلا ، لا أكتب ولا أتساءل [[ ماريد المايردوني ولاحب الميحبوني ... كما تقول أغنية عراقية قديمة قدمَ بابل ]] . إنْ كانت تريد الوصل ثانية ً فأجهزتي مفتوحة وبيتي مفتوح ليلاً ونهاراً لا يحتاج الزائرُ أنْ يطرقَ بابي .
علاقتي بعشتار بابل قديمة ـ حديثة . كنا منذ زمن ليس بالقصير نتبادل رسائلَ بعضها خجولٌ متحفظ وبعضها الآخر منفتح ، بعضها شكلي عمومي لا خصوصية فيه بينما البعض الآخر يحمل إشاراتِ ودٍّ وهوى عنيف وغزل رومانسي يقوى ويضعف حسب الفصول والمواقف وعدد ساعات إنقطاع الكهرباء . تنخفضُ الأمواجُ شتاءً وترتفع صيفاً وكذا حرارة الجو والأجساد والتوقعات. تبادلنا الصور قديمها وحديثها . ناقشنا مسألة أنواع وألوان وتصاميم ما نرتدي من ألبسة في الصيف والشتاء . وما نتناول من طعام ِ فطورِ الصباح ِ . كانت ترتاح لقولي : سأجلبُ لكِ معي القهوة والقيمر أما الحليب ففي صدرك والسكر والعسل في رضابك ولسانك يتدفقان من بين شفتيك فما حاجتنا لهما ؟ خاطبتها في رسائلي كما كنتُ أخاطب نظيراتها من ربات العروش قبلها فالآلهة جُبلت ْ من نسيج واحد وطينة واحدة ومعدن واحد وطبيعة واحدة... نسخ ٌ طبق َ ألأصل لا تختلف الواحدة عن الأخرى إلا كما تختلف طوابع البريد . كانت كبعض الباقيات كثيرة التحفظ ولا تجرؤ على الإنفتاح. قالت مرةً إنَّ في عروقها دماءَ الأولين الصالحين وإنها من سلالة أيا وآنو وإنليلَ آلهة سومرَ ثمَّ بابلَ. نزحت أوائلهم إلى بابلَ خوفاً وهرباً من بطش جبابرة مملكة أكد التي نمت وإتسعت على أنقاض سومر. ماذا أقول لها إنْ كانت تعتقد أنها سليلة بعض الالهة القديمة ؟ لستُ مثلها في نسبي وأصلي . أنا بشر عادي سوي ٌّ لا أختلف عن باقي البشر . ولدتني المرحومة أمي بشراً سويا 100 % 100 لحما ً عربيا ً إسلاميا فلا نصفي من الآلهة ولا ربعي ولا حتى نصف ربعي !! لا أمت ٌّ لهذا الصنف من المخلوقات المشوَّهة بأيما صلة ٍ ولا أريد . إدعّت ذات يوم أنَّ جدَها الأعلى كان وزيراً ومستشاراً لكلكامش طاغية سومر . ولولا ـ أضافت ـ غيبة هذا الطويلة بحثاً عن عُشبة الخلود لتبوَّأ منصبَ رئيس الوزراء. الدنيا حظوظ ، قالت . غاب الملكُ فخسرَ جدها وظيفة ً مرموقة ً .
هل أكتب لها مستفسرأ عن سبب صمتها وعدم إحترام إلتزاماتها أم أنتظر شهراً آخرَ لعلها تكتب وتوّضح أسبابَ هذا الصمت ؟ كلا ! لتذهب هي وأصلها وجدها الأعلى وكلكامش وصديقه أنكيدو للجحيم . لستُ بحاجة لمومياوات فرعونية أعاد الطبُ الحديثُ لها الحياة . أفضل لها أن تعود لقبورها فرائحة عفن رميمها ورميم أجدادها ما زالت عالقة في أردانها وأكتافها وأردافها . إنها واحدة في مسلسل أفلام ملونة تجمعها بباقي الممثلات أمور وتفرقها عنهنَّ أمور أخرى . الدم وأديم بشرة الجلود وشعور الرأس كثيرة الأختلاف والتنوّع لكنَّ وجه الشبه فيما بينهن َّ كامنٌ في قلوبهنَّ حيث كثرة وسرعة التقلب فالقلب قلّب ٌ متغيرُ الحركات والسكنات والإتجاهات . إختفت ( حنان ) في مملكة لوط وصمتت صمتَ القبور ولم تلق ِ تحية الوداع . غابت ( سهام ) ولعلها غرقت في أحد بحور جنوب شرق آسيا أو أنَّ أحداً خنقها تحت الماء وتخلص منها متهماً إياها بالخيانة العظمى . وتعثرت ( الحرباء ) الحيزبون بملاحفها وحجاباتها وبطانياتها المزركشة فوقعت متردية ً كالنطيحة على وجهها لا تعرف مَن هي ولا ما فعلت وقالت قبل شهر . صمتت خجلاً من عار كذبها وشعوذاتها ومداراة ً لضعة أصلها وفصلها . حسناً ولكنْ ما خطبُ عشتار بابلَ ؟ هي الأخرى كذبت ومارست القليل من الدهاء أو الخبث المكشوف فمع أية آلهات ٍ مزيفات ٍ كنتُ أتعاملُ وأضيع وقتي وأخسرُ الكثيرَ من فُرص حياتي ؟ مع ذلك لستُ نادماً فالحياة تجارب ٌ وتجاريب ... مهازل ٌ وأعاجيب ... جد ٌّ وألاعيبٌ وإلخ إلخ .../
أين وكيف أمضيتَ ليلتك الفائتة يا أبا نؤاس ؟ أجابني منشداً ولسانه يتعثر ويتكسّر تحت وطأة وكثرة ما عبَّ من القهوة والخمرة والخندريس الشعشعاني :
ولقد نهزتُ مع الغواة ِ بدلوهمْ
وأسَمتُ سَرحَ اللهوِ حيثُ أساموا
وبلغتُ ما بلغَ امرؤٌ بشبابهِ
فإذا عُصارةُ كل ِّ ذاكَ أثامُ
ما أنْ أنهى أبو نؤاس قراءة عجز البيت الأخير حتى سقط على الأرض فاقدَ الوعي ثم أزبدَ وأرغى حتى وصلت سيارة الإسعاف فنقلته إلى مستشفى الطوارئ حيث أسلمَ الروحَ هناك فدفنته البلدية في مقبرة الغرباء ومجهولي الهوية !! سلامٌ عليكَ أبا نؤاس يومَ وُلدتَ ويومَ مُت َّ أمام عيني ويومَ تبعث ُ ثانية ً حيا . آمين .
أرى الدروبَ حينا ً أمامي مخنوقة ً معتمة ً منغلقة ً على بعضها ... وأراها حينا ً آخرَ مُشرعة ًعلى آخرها يغمرها ضوءان ضوء ٌ ظاهرٌ يعمي الأبصارَ وضوءٌ آخرُ خفيٌّ لا تبصره عيون الأحياء فأين الخلل ؟ هل هي فلسفة الدروب نفسها أم العيب والخلل في حواسي الخمس ؟ ذهبتْ فجأة ً فيئستُ منها وفي ذروة يأسي جاءتني منها رسالة شهقتُ وكدتُ أموتُ لفرط فرحي وسروري . قالت في رسالتها إنها إكتشفت في الزمن المتأخر أنَّ لديها سراً لا يعرفه أحدٌ من البشر وهي حريصة على كتمانه . سرُها العميق في علاقتها بي ، أنا سرُها الأولُ والأخيرُ . كيف يكون رجلٌ مثلي سراً وطالما جاملتُ وخدمتُ وأحببتُ في العَلن آلهات ٍ كثيرات ٍ مثلها وأصغر منها سناً غازلنني وغازلتهن َّ كتبن لي وكتبتُ لهنَّ ونفذنا مشاريعَ خيالية كثيرة بعضها شديد التطرف في رومانسيته . لم نخف ِ هذه المشاريع فلقد نشرناها في كافة وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة . لا أحب الأسرار ففي طبعي ميل ٌ قوي للإعلان والظهور .
يا أيتها الربّة ُ العائدة ُطوعاً ربما بسبب تأنيب الضمير ، أهلاً بك فالقلب مفتوح ليلاً ونهاراً . أهلاً بك صيفاً وشتاءً . هل تحبين البقلاوة ؟ أموتُ فيها وعليها ، قالت .
الأحد، سبتمبر 28، 2008
ماذا جرى في بابل ؟
Labels:
عدنان الظاهر
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق