سامي العامري
---------
حديث مع رَبّة الشفاء
--------
هاتفتِني
وكأني أهاتفُ
سِرِّي وغَيبي
وحدثتِني فتلعثمَ قلبي ...!
-----------
حين فتحتُ دفتري صباحاً لأكمل هذه الكلمات وانا جالس في سريري
فاجأني بصوته العذب صائحاً أمام الباب :
قُمْ , إنهضْ , أما زلتَ مسكوناً بأوهامٍ لا تغني ولا تسمن ؟
قلتُ بودٍّ : ومتى كان الحديث عن الحب أوهاماً أيها المتحجر ؟
قال : آه , انت تكتب عن الحب إذن , ولكني قرأتُ لك بالأمس أشياءاً في هذا , أتمنى أن أقرأ لك شيئاً عن الصداقة في المرة القادمة فأنتم الشرقيين ما زلتم تؤمنون بقيمتها .
قرأت له :
مِن سياقاتٍ هي الإمكانُ
تَلقى قلْبَكَ المُتْعَبَ يختارُ سياقَهْ
إنما الأصعبُ في كلِّ السياقاتِ .... الصداقهْ !
-------
وسألتهُ : كيف عرفتَ أن الشرقيين ما زالوا يؤمنون بقيمة الصداقة ؟
قال : عرفتُ هذا من خلال تجربة معينة في السابق , وعرفتُهُ البارحة من خلال قلقك الواضح بشأن أحد أصدقائك الذي تأخر في زيارتك أمّا الآن فتعال , سأريك وأحكي لك حالة ربما تُغنيك عن التعبير هذا اليوم .
فسرتُ معه الى نافذة المستشفى الكبيرة في نهاية الممر فأشار بيده الى أحد أطراف المدينة وقال : هناك أمام تلك الكنيسة الفضيّة يقع منزل أختي الأصغر مني قليلاً وفيه عشتُ قبل عامين عدة شهور وكانت أختي في بداية العقد الخامس من عمرها وتعيش وحيدة بعد انفصالها عن صديقها السابق , وقبل انتقالي الى منزل آخر كانت أختي قد تعرفت على رجل آخر أعرفه , وقالت لي إنها ربما تَعبده .
هنا قاطعته قائلاً : ولكن ها انت تتحدث عن الحب أيضاً !
قال : صحيح ولكني أردته كتمهيدٍ , فهناك قبل عام في مقهى عند الشارع العام التقيت بهذا الرجل مرة أخرى فانا أحترمه فهو الذي أنقذني يوماً من ورطة الإشتراك بمبلغ كبير في مؤسسة وهميةٍ دخلَ أغلب أعضائها السجن بسبب التحايل عِبر شبكة الإنترنيت وتزوير أوراق الدخول لبعض الأجانب فسألته ونحن نتناول الشاي : لماذا تسير وحيداً وتجلس وحيداً دائماً ؟ هل هذا عائد الى عدم وجود الصديق أم ماذا ؟
فأجاب : أغلب الناس يريدونك عادة إما لحاجة او لشعورهم بتفاهة ساعات حياتهم وكثيراً ما يأتون اليك ودموعهم ليست دموع تماسيح بل هي دموع حقيقية ولكن أسبابها واهية تماماً فماذا تستنتج من هذا ؟
إنَّ ما يشغلهم ويؤرِّق حياتهم هو قضايا عادية وانا أساعدهم ما استطعتُ ولكن انا لي أيضاً ما يؤرقني وهؤلاء يسمونك صديقاً في حالة مساعدتك لهم او حديثك بلطفٍ معهم ( مجاملة ) بينما انا أفهم الصداقة بما هو قريب من المعاني العرفانية ولا يهمني عدد الأصدقاء , صديق واحد وكفى لهذا أفكر جدياً بأن أنتقل مع عائلتي للعيش في الشرق !
ثم راح يحكي لي قليلاً عن تصوره للشرق من خلال قراءاته وسفراتهِ القصيرة ومعايشاته هنا مع بعض الشرقيين .
قلتُ له : هذا الرجل هو الواهم لا انا , هل يظن الشرق مزرعةَ أصدقاء , قلْ له إنْ لقيته مرة أخرى : عليك الإحتفاظ بهؤلاء الذين التقيت بهم فهم إن كانوا قد احتاجوا اليك فهم على الأقل يثقون بك أمّا في الشرق فالكل يشكُّ بالكل ولا أحد يقترب من أحد حتى الأشجار ما عادت تتلامس أوراقُها مَهما تعاصفت الريح !
فصاح بي مازحاً وهو يبتعد : أيكون لي أن أشكَّ بك انت أيضاً ؟!
تأملتُ الماضي البعيد , كم كانت الحياة جميلة وبسيطة وحميمية ولكن الذي يبكي على طَلَلٍ فمعناه أن الطلل موجود , وما رأيناه أنهم استكثروا علينا الأطلال ومَن كانوا يسكنونها كذلك , وللمعري :
خَفِّفِ الوطأ ما أظنُّ أديم
الأرض إلاّ من هذه الأجسادِ
----------
فتناهى الى سمعي صوت اليف بهيج يسبقهُ ضوءٌ هو أبهى ما رأيتُ , اقتربَ الصوت : مَن أعادك الى الكآبة مرة أخرى ؟
قلتُ : أيتها الربة الحنون , أحياناً يأتي لزيارتي صديق , لا أدري إن كان صديقاً ولكن واضح أني أودُّه وواضحٌ إخلاصه وأريحيته ولكنه لم يعد يأتي منذ فترة وما من اتصال تلفوني منه ولا أحد يجيبني حينما أتصل به . كان قد حكى لي آخر مرة عن تجربة عجيبة عاشها فحاولتُ اليوم التعبير عنها فعجزتُ ثم شربتُ القهوة وما زلتُ أحاول التعبير وكأني أمتحن قدرتي على اختيار أنسب القوارب للعوم في نهرٍ ماؤه يعلو أمامي ولا ينحدر ... إنه يتحدث عن علاقة له مع امرأة كانت في البدء تستمع اليه وهو يتحدث الى بعض الناس , يقول عنها إنها امرأة رائعة إلاّ أنها تُسقط ماضيها عليَّ وتبدو متقلبة المزاج ولا يمكن الوثوق بها فهي استهلتْ تعارفنا بإبداء فنون الإعجاب بآرائي البسيطة في الحياة وغيرها فشكرتها كثيراً فكانت هناك علاقة صداقة بيننا تحولت بعدها الى حب كانت دائماً تؤكده بأمهر التعابير ولكن الطريف أنني ما أن أحببتُها حقاً حتى فاجأتني يوماً وهي تقول بأنها كانت تمر بمشكلة نفسية ووجدتْ حلاًّ في أفكاري والآن انتهت مشكلتها , وهذا يعني أنَّ حبها كذلك انتهى !!! أتستوعبين المعادلة !؟
قالتْ الربة وهي تبتسم : أعتقد أنني أخبرتك في آخر مرة بأنّ الحب الحقيقي لا تستطيعون احتماله كبشرٍ لأنه يتطلب قلوباً كبيرة ! وها انت تعطي مثالاً عليه وهو مثال حلو وقد كنتُ أحسب أنك استوعبت حكاية الحب عندكم ولستَ بحاجة الى الكتابة عنها ولكن تستطيع أن تقول لصديقك هذا : لو كنتَ راهباً او قديساً فربما فكرتَ قائلاً يكفيني لأرضى عن نفسي أني أنقذتُ تلك المرأة من أزمتها وهذا الأمر هو الذي يجب علي أن أحبه لا المرأة بحد ذاتها لأنه الوحيد الذي ينتسب الى السماء ومجدها ! أمّا اذا كنتَ مثل باقي البشر فستبقى تقضم أصابع كفيك ندماً حتى تلتهمها كلها !
قلتُ : شكراً , لقد فكرتُ بما هو قريب منه ولكن بعد خوف وتردد وقد أقول لصديقي بأن حاله هذه هي حال كل مَن يطلب العسل من الدبابير !
قالت الربة : قد أوافقك ولكن لا تدع هذه الأفكار تأخذك الى حيث هي تشاء , فالبعض سواء أكانوا نساءاً ام رجالاً يعيشون في حياتهم تجارب عاطفية مُخِّيبة فيفكرون بالإنتقام لأنفسهم لاحقاً عن طريق توريط فردٍ آخر بحبهم حتى اذا أحبهم هذا الفرد واطمأنوا الى حبه لهم , قالوا له : آسف , لا أستطيع الإستمرار في هذا الحب , وهذه القسوة ليست مني ولكنها قسوة الحياة !
قلتُ تعقيباً : تحيا الحياة !
وأضافت : وهذا السلوك هو في المحصلة سادي مريض وإلاّ فماذا عن تقديرهم للإنعكاسات النفسية للمُحب بتركه وحيداً مع معاناته ؟
قلتُ : والبعض من هذا البعض ينسب عدم قدرته على الإستمرار في الحب الى كون التضحية كبيرة ولكني أسأل : هل يمكن أن يُطلق على هذه المشاعر حباً ؟ فالحب كما أفهمه وإن كان حباً بَشَرياً , لا يمكن أن يكون إلاّ خالصاً , ومنذ متى وُجِد الحب دون تضحيات او مصاعب ؟ إنه دائماً هكذا لأنه ببساطةٍ حُب ولأنه هو ما يمنح الحياة غزارتها , وفي حالة صديقي , فهي ليست بسبب التضحية فالذي يحب يضحي عند الضرورة ولا يفكر بغير استمرار الحب ولكني أعتقد أنه انعدام الصدق عند هذه المرأة وعدا هذا فكيف يمكن أن ينتهي الحب بقرار ! وهل أحبَّ الإنسانُ بعقلهِ يوماً ؟!!!
قالت الربة ضاحكة : هكذا هم البشر او الكثير منهم ولهذا لا تفارقهم التعاسة , ففي القضايا العاطفية يدخل عندهم الحساب والرياضيات وفي القضايا العقلية البحتة تدخل الأهواء والأمزجة !
ولكني أجدك اليوم متحمساً لهذا الأمر نوعاً ما , هل هناك سرٌّ ؟
أجبتُ : لا أدري , لقد تداخل عندي الحاضر بالماضي بالغد في لحظة واحدة وأنا أستمع الى حكاية صديقي التي تبدو للوهلة الأولى سهلة ومكررة , إنها انعدام فهمٍ لمعنى السعادة وهذا سبب آخر للموت وهو أولاً وأخيراً فقدان عنصر أساسي جوهري في الحياة وأعني الشوق :
وما انا بالذي يُعْلي الكفافَ
وإنما جوعٌ انا ,
جوعُ الحياةِ الى الحياةِ ,
نشيدُها ,
تمجيدُ موكبِها الجليلِ
وإنْ بدا في لحنِ آثامِ !
وفي ظنّي الغِنى يعني الترقُّبِ ,
يعني أنكَ كالمدى المفتوحِ مدفوعٌ بإلهامِ
--------
قالت الربة : والشوق هو ما دعاني اليوم فوافيتُ مع الصباح !
----------------------------
(*) نصٌّ من كتاب يجمع بين القصِّ والنثر الأدبي والشعر يحمل عنوان : حديث مع ربة الشفاء .
----
كولونيا
alamiri84@yahoo.de
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق