الثلاثاء، مارس 25، 2008

ثقافة الكذب

الياس خوري
القدس العربي

لا ادري كيف سيؤرخ المؤرخون لثقافة الكذب التي اجتاحت المشرق العربي منذ عام 1982.
اقترح البدء بهذا العام في شكل افتراضي، لأنه عام العاصفة التي بدأت في بيروت عندما قام الجيش الاسرائيلي باحتلالها، ونظّم فيها، باشراف الجنرال شارون، واحدة من اكبر المذابح التي تعرض لها الفلسطينيون، في تاريخهم التراجيدي الطويل، وما اعقب ذلك من انهيار البنية السياسية اللبنانية ودخول المنطقة في تحولات تفكيكية هائلة، لا يعلم احد كيف يمكن الخروج منها.
ولعل وفاة الكاتبة والشاعرة اللبنانية مي المر، في الاسبوع الماضي في بيروت، تقدم نموذجا واضحا لثقافة الكذب المستشرية في بلادنا الجميلة. فلقد عرف عن السيدة المر حماستها الشديدة للغزو الاسرائيلي للبنان، الي درجة انها كانت الانسان الوحيد الذي وقف امام وزارة الدفاع الاسرائيلية من اجل توديع شارون، لحظة تنفيذ قرار عزله من منصبه، بعدما اتخذت لجنة التحقيق الاسرائيلية في مذبحة صبرا وشاتيلا، التي عرفت باسم لجنة كاهانا قرارا بذلك، نتيجة ادانته بالمسؤولية غير المباشرة عن المذبحة.
لن ادخل في تفاصيل تناقضات التقرير الاسرائيلي الذي ساهمت بترجمته الي العربية، ونشر في صحيفة السفير اللبنانية انذاك، ولا في التحايل الاسرائيلي علي الاعتراف بالجريمة المروعة التي ذهب ضحيتها اكثر من الف وخمسمئة من الفلسطينيين واللبنانيين الذين ذبحوا بالبلطات في ايلول 1982. لكني اريد ان اتوقف امام وقاحة السيدة المر التي ذهبت الي اسرائيل لوداع السفاح القاتل، الذي كان يومها منبوذا من اغلبية الاسرائيليين.
بالطبع نسي الناس مي المر، وسط زحمة المذابح التي اجتاحت لبنان، بعد الغزو الاسرائيلي، وتصرفت الثقافة اللبنانية وكأنها لم تسمع ولم ترَ، كأن هناك ما يشبه القرار بالخمول الفكري والثقافي، وكأن اخطاء المثقفات والمثقفين يجب ان لا تخضع للحساب، وسط الحمّي الطائفية التي اجتاحت لبنان، ولا تزال للأسف الشديد عاملا اساسيا في التفكك الأخلاقي العربي، الذي دخله المرض المذهبي والطائفي بعد الاحتلال الامريكي للعراق.
ماتت مي المر، ونشرت الصحف المراثي، لكن لم يتذكر احد خطابها امام وزارة الدفاع الاسرائيلية لتشد من ازر بطلها الذي واجه احتمالات سقوطه النهائي. لم يسقط شارون، بل عاد رئيسا للوزراء ونجح في قتل ياسر عرفات، لكن حتي لو لم يفقد شارون وعيه، ويدخل في غيبوبته الطويلة، لكان نسي شويعرة لبنانية جاءت اليه حاملة الحقد والكراهية علي الضحية الفلسطينية.
نسي الجميع او تناسوا مآثر الشاعرة الشارونية، وكتبوا عنها كأنها مجرد شاعرة بائسة، لم يسعفها المنظوم والمنثور في ان تجد لها مكانا حقيقيا في الأدب اللبناني المعاصر.
هذا التناسي، وهذا الاستنكاف الثقافي عن قول الحقيقة، لا يدل سوي علي موت الثقافة وقبولها بأن تصبح هامشا ترفيهيا لا علاقة له بالواقع، انها مجرد اداة تزيينية، لذا لا تؤخذ في شكل جدي.
حال مي المر ليست فريدة، رغم الوقاحة غير المسبوقة التي عبرت عنها زيارتها الي شارون، فهناك حقيقة فادحة مثلها شاعر كبير كسعيد عقل لم يكن اقل حماسة لقتل الفلسطينيين من السيدة المر، التي تعد من تلامذته. وابدي استعداده ، الذي لم يقبض من الاسرائيليين، لالقاء خطاب في الكنيست الاسرائيلي.كما ان حالات مدح الحكام العرب، والتغني بحكمهم الديكتاتوري، كانت شائعة، ولا تزال، لكنها تمر في شكل عابر في النقاش الثقافي العربي، ولا تلفت نظر احد.
هذا المناخ التسامحي الكاذب، هو احد اسباب تهميش الثقافة، والتوقف عنده اليوم مسألة ضرورية، كي لا تستمر لعبة التكاذب، والدجل، بحيث تجد الثقافة العربية نفسها وقد تلاشت.
نموذج السيدة المر تكرر كثيرا في العراق، وخصوصا في الأيام الأولي للغزو الامريكي، حيث اختلط اليمين باليسار في حفل تنكري مخجل، وحيث تمت تغطية الاحتلال الاستعماري بشعارات الديموقراطية الكاذبة.
ولعل نماذج المثقفين العراقيين والعرب الذين تغنوا وتغرغروا بالاحتلال، ووضعوا انفسهم في خدمته، ودافعوا عن جريمة جورج بوش المتمادية، تقدم اليوم الوجه البشع لانهيار ثقافي مخيف، يهدد الثقافة العربية بالاندثار.
ماتت السيدة المر بعد عمر مديد وصمت طويل. وكان مصيرها كمصير كل المتعاونين الذين يتناساهم اسيادهم، لكنها تركت في الوعي الثقافي اللبناني والعربي نقطة عار لا يمكن محوها الا بكتابة الحقيقة، حتي وان كانت قاسية.لا تجوز علي الأموات سوي الرحمة، لكن الاحياء الصامتين والمتواطئين يستحقون اللعنة.

ليست هناك تعليقات: