نبيل عودة
ثلاث كتب تشمل ثلاث قصص قصيرة للصغار ، هي آخر ما صدر عن دار الهدى للطباعة والنشر في كفر قرع ، للكاتب القصصي نادر ابو تامر .
الأول : " ساعدني يا أبي "
الثاني : " أصغر سائق في العالم "
الثالث : " أجنحة الملائكة "
نادر ابو تامر يواصل بذلك مسيرته مع الصغار ، بعد ان كان قد أصدر سابقا اربعة قصص ربما اعتبرها البعض نزوة او" بيضة ديك " من اذاعي معروف ببرامجه المتنوعة .
نادر يقول لنا في اصداراته الجديدة ان المسألة ليست نزوة عابرة وان الديوك أيضا تعرف كيف تعطي مما لديها من ثراء وفصاحة. وانا لمست ذلك منذ أول قصة قرأتها له.
نادر لم يفرض نفسه ، مثل البعض ، على الساحة الأدبية باستعمال وسائل تسويق لا تنتمي لعالم الأدب ، للأسف تسود جوانب عديدة من حركتنا الأدبية ، وتمنعها من النهوض.
قد يقول قائل متذاك ، ما بال نبيل عودة يخلط بين الفكرالثقافي ، وبين مراجعة قصص كتبت للأولاد الصغار؟
وهذا هو بيت القصيد من دافعي لهذه المراجعة الثقافية ( ولا أقول النقدية ) لقصص نادر ابو تامر.
اولا ليعفني القارئ من عرض النصوص ، واوجهة الى موقع الكاتب نادر ابو تامر ليقرأ القصص ، ثم ليقرا مراجعتي الثقافية لهذه القصص. ( عنوان الموقع : http://nader.bettna.com/personal/nader/index.asp )
والهدف من ذلك هو جعل القارئ شريكا في التقييم الثقافي ، وفهم عالم نادر الابداعي ، ومصادر أفكاره القصصية ، اذ كما لاحظت ، لا شيء مخفي في هذه التجربة التي أسمح لنفسي باعتبارها فريدة في بناء الفكرة القصصية ، واسلوب عرضها ولغتها .
لا شك انه يتطور لدينا كتاب قصة للصغار ، وقد بدأت منذ فترة ليست بعيدة بمراجعة بعض الأعمال الأدبية التي تتعلق بصغارنا من ابداع الأدباء المحليين ، لدرجة بت أحسد الصغار على هذا الاهتمام الذي يتزايد باضطراد ، بينما حياتنا الثقافية للكبار تشهد ضمورا ابداعيا .
أقول بوضوع ان بعض الكتابات للصغار لم ترق الى المستوى الذي يجعل منها نثرا أو شعرا ، مادة مناسبة لقراءة الصغار . ا
الفهم السائد ان الكتابة للصغار تحتاج الى لغة مغايرة في تعابيرها ،هو فهم خاطئ . وخاطئ أيضا الوهم ان صغارنا يريدون التبسيط ( احيانا لدرجة الاسفاف ) في عرض الفكرة القصصية أو الشعرية .
وهذا بالضبط ما شدني الى قصص نادر ابو تامر ، لدرجة تجعلني أقول بلا تردد ان نادر يكتب قصصا للصغار يطرب لها الكبار أيضا. وهذا سر ابداعي هام للغاية. وربما هو مقياس للابداع الحقيقي للصغار ، وللكبار بالتاكيد .
قرات في أيام شبابي المبكر ، في مرحلة الانتقال من عالم الصغار الى عالم الشباب ، عشرات القصص والروايات الروسية ( السوفياتية ) للصغار ، وقد عدت الى مراجعة بعضها لفهم ما شدني وقتها الى تلك الأعمال في الوقت الذي كنت مسحورا بنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم واحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم عبدالله ويوسف ادريس ويوسف السباعي وآخرين..
من مراجعاتي أيقنت أمرا أساسيا ، ان مخاطبة الصغير بلغة لا تحمل الركاكة الفكرية ، ولا التحذلق في التعابير وطرح الفكرة على حقيقتها ، مهما كانت مؤلمة أو مفرحة ، وبدون تدخل لتسهيل فهم الصغار لما يطرحه الكبار ، هو ما شدني لتلك الأعمال ، أي احترام عقل الصغار ، وهو ما شدني اليوم لقصص نادر ابو تامر.
بالطبع تبقى التجربة الذاتية للكاتب ، واستيعاب هذه التجربة ، مسألة تحتاج الى قدرة على الرقابة وفهم المتغيرات والميول والتناقضات والمفارقات المضحكة أحيانا في هذا العالم المسحور ، والاندماج بتفاصيله عبر الرصد والدخول فكريا على الأقل بالتجربة التربوية ، والتعبير عنها فنيا ، قصصيا أو شعريا او مسرحيا أو سينمائيا .. وهي الفرق الذي يجعل عملا ما ، ابداعا حقيقيا ، وعمل آخر محاكاة للابداع .
هل بالصدفة ان أبطال نادر هم اولاده اولا ثم أصحابهم ومشاهداتهم واستفساراتهم وعالمهم الحسي بالأساس ؟ هل بالصدفة هذا الرصد الدقيق لمراحل نمو الطفل وتفكيره ونزواته وتناقضاته التي يرصدها نادر ويقدمها بحيادية فنية مذهلة في مصداقيتها؟
الأمر المميز في كتابات نادر هو قدرته على فهم دور اللغة ودور المفردات في صناعة العمل الأدبي – القصصي في حالتنا .
ليس سرا ان نادر من اللغويين المعروفين . وهو يتعامل مع اللغة العربية بجميع امتداداتها ، عبر الترجمة والاعلام والتعليم أيضا.
ومع ذلك عندما أقرأ نصة القصصي أجده نصا مشتقا ، بلغة سليمة طبعا .. من عالم الصغار ومحيطهم .
ولكن هذا لا يكفي .. الابداع الأدبي القصصي أكثر اتساعا .. اللغة ليست اطارا مغلقا . اللغة جسم حي . قد تكون الفكرة القصصية في منتهى الروعة ، وصاحبها قادر على اصلاح أخطاء سيبويه .. ولكن انجاز الفكرة قصصيا يحمل المعاناة للصغار في القراءة .. هذه حال كتبنا المدرسية لتعليم القراءة . كتبها متخصصون .. فكرهم بعيد عن فكر الابداع ، لذلك يواجه طلابنا معاناة في الاندماج بلغتهم الأم وعشقها ، ومشاكل في المطالعة وفهم المقروء.
لا ليس عجزا من الصغار ، انما عجز يورثه بعض الكبار للصغار أو يفرضونه بغباء عليهم. وهذا ما استطاع نادر ان يعلو عليه وينطلق بلغة ابداعية ، هي الأكثر ملاءمة للسرد القصصي. رغم ان الأذواق قد تختلف حول بعض التعابير.ان لغة نادر بكل بساطة هي " لغة درامية " تشدنا للقراءة كبارا وصغارا .. وهذه هي مشكلة بعض الأدباء ، لديهم أفكار قصصية جميلة ، ولكن لغتهم ، رغم تمكنهم من صرفها ونحوها واعرابها وتنصيب همزاتها على عروشها .. تفتقد للروح الدرامية في الصياغة .
سألني أديب أعزه كيف افسر اللغة الدرامية بكلمات واضحة .؟
قلت : ببساطة لا أعرف .. مجرد أحس بها . اللغة التي لا يحس بها المبدع ، ولا ينقل هذا الاحساس للقارئ ، لا يمكن ان تصلح للابداع القصصي . والدراما تشمل الدهشة التي يثيرها النص .. وتشمل اسلوب العرض .. العرض الجيد يجد من يشتريه والعرض السيء لأفضل البضائع يجعلها تكسد. والمسألة لا تتعلق بالقدرات اللغوية اطلاقا ، ولا تتعلق بقواعد اللغة وصرفها ونحوها .. انما تتعلق بالقدرة على جعلها ترادفات تثير الدهشة وراء الدهشة ، والمتعة وراء المتعة.. ومع ذلك أقول اني غير قادر على تفسير اللغة الدرامية بجملة واحدة مفيدة ..
هذه ليست رؤية خاصة للأدب ، بل محاولة لفهم الفرق بين فكرتين ممتازتين : كاتب أحداهما استطاع فهم جوهرها ونقلها للقارئ بلغة بسيطة واضحة ، مليئة بالأحاسيس والدهشة التي تشد القارئ حتى نهاية النص . والثاني سجلها بلغة مسبوكة بقوة ، محللا معللا لم يترك فاصلة الا وأقعدها على كرسيها .. ولكن نصه اذا قرئ لا يوصل الفكرة التربوية والأخلاقية والفنية الابداعية ، ولا الحلم والتخيل ولا الدهشة مثل ما يتركه النص الأول في نفس القارئ صغيرا كان أو كبيرا.
قصص نادر ملائمة تماما لصغارنا بما تحمله من لغة جيدة ورصد تربوي وتأثير أخلاقي معروض بذكاء وفهم عميق ، وروح مليئة بالحب لهذا العالم السحري : عالم الصغار .
نبيل عودة – كاتب واعلامي – الناصرة
nabiloudeh@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق