السبت، مارس 29، 2008

الشركسية

د. عدنان الظاهر

الشركسية أم الشركسيات ؟ كانت في أواسط سبعينيات القرن الماضي شركسية واحدة ولكن ، الزمن يمشي في إتجاهين والعمر يمشي وكل شئ في الكون يمشي . فالشركسية غدت شركسيات ، وإعجابي بالأولى قد إنتقل مع حركة الزمن المزدوجة الإتجاه إلى أكثر من شركسية . الإسم بحد ذاته يعجبني ويثير فيَّ أخيلة شتى متباينة يغلب عليها في معظم الأحيان طابع وطبع السحر والتألق الصوفي الروحاني .
ذكرَهن َّ التأريخ الإسلامي وربطهن َّ بقصور ونزوات السلاطين والملوك والأمراء ومن هم على شاكلتهم [[ شركسيات سبابا ]] .
أكره هذا التأريخ لكني أعشق جبال القوقاز المشرفة على مياه البحر الأسود بشموخ وإباء وكبرياء حيث مواطن الشركس والشيشان والأبخاز وسواهم من شعوب بقية الأقليات النادرة كالجواهر .
كان الطالب الشركسي الشاب [ بوبا ] جاري في القسم الداخلي الذي كان ينام طوال ليله وسواد نهاره إذا لم يوقظه أحد ٌ ... وكنت أنا المكلف بأداء هذه المهمة المضجرة التي كانت تتكرر صباح كل يوم . أما [ مليكة ] الشركسية الجميلة فما كان أحلاها من فتاة جامعية جميلة الوجه والروح والقوام . تزورني وأزورها فأرى فيها ذكاء وسحر شهرزاد . كنت أقول لها ذلك لكنها كانت ترد بكل أدب وجدية : لكني لا أرى فيك شيئاً من شهريار !! كنت أقول في سرّي (( إنك مخطئة يا مليكة ، فيَّ الكثير من سجايا وأخلاق وطبع شهريار ! )).
ولأنها مسلمة متعلقة بالقرآن والإسلام فلم أراودها عن نفسها ولم أسمح لشيطان الغواية أن يتحكم فيَّ أو أن يسوقني في دروبه الملتوية . بقيت علاقتي بها نزيهة صافية مثالية وكانت تعززها بما تقدم لي من مأكولات تأتيها من أهلها في القوقاز وخاصة فاكهة الخريف والصيف . ما كانت تقرب الخمور فإرتفعت مكانتها في نفسي . كنت بحاجة ماسة لمثل هذه العلاقة البريئة التي تشبه علاقة الأخت بأخيها ولا من غرابة ،
كنت بعيداً جداً عن أهلي وشديد الشوق لهم . ثم َّ ، لم أكن محروماً من العلاقات المفتوحة على الآخر مع سواها من بنات حواء من غير المسلمات .
مر َّ الزمن سريعاً ... مرَّ في إتجاه واحد ... أكملت أبحاثي ودراساتي وقفلت راجعاً للوطن لآمارس التدريس في الجامعة .
" الشركسية " ... كانت واحدة من طالباتي بعثتها حكومة الأردن للدراسة في جامعة بغداد . شارفت السنة الدراسية على نهايتها فحان موعد تقديم ومناقشة مشاريع طلبة السنة الرابعة في حقل الكيمياء والصناعات الكيميائية .
حددت لها موعداً دقيقاً لمناقشة مشروعها وتقويمه وإعطائه ما يستحق من درجات . جاءت الطالبة الأردنية الشركسية حسب الموعد ولكن ... جاء معها شاب لم أره قبلاً . قالت إنه خطيبها . شعرتُ بشئ من الحرج !! أدخلتهما مكتبي وطلبت منهما الجلوس . إنه خطيبها ... فلربما يغار خطيبها عليها أو يخاف عليها من أمر مفاجئ أو غير محسوب .
أردت إحراجه قليلاً لعله يدرك أن َّ وجوده معنا لا معنى له بل وثقيل وغير مرغوب فيه أصلاً . سألته هل هو طالب في كليتنا ؟ قال كلا ، إنه طالب في كلية الإقتصاد . هل بلغته رسالتي اللاذعة أم لا ؟ الجواب كلا ، إبتلعها وكأني لم أسال وواصل بقاءه معنا!!
ناقشت طالبتي وإنتهى النقاش فغادرا بعد أن تركت معي مشروعها حسب الأصول . كنت أسعد بوجودها في مكتبي وأحيطها بالكثير من الرعاية لأنها واحدة من ضيوف العراق ، ولأنها كانت كثيرة الأدب جميلة الوجه نحيلة الجسد لكأنَّ سحر أجدادها الشركس والشيشان قد تركز فيها .
قالت لي مرة ً : تفضلْ وزرنا في نادي الطلبة الأردنيين وإشرب معنا فنجان قهوة . شكرتها وقلتُ لها إنَّ ذلك ربما يجلب لي متاعب أنا عنها في غنى . ثم ذكرتها بتدهور العلاقات بين الأردن والعراق إثر إقدام سلطات البعث على إعدام طالب أردني بتهمة التجسس لصالح بلده الأردن .
أكملت البنت الشركسية دراستها في كلية العلوم / جامعة بغداد وغادرت بغداد إلى بلدها وإنقطعت أخبارها عني .
هل أسمح للزمن أن يظل َّ يتلاعب بي جيئة ً وذهابا ً وبمصيري إلى أبد الآبدين ؟ يمشي فأمشي معه ولا يتوقف كي أتوقف للراحة معه فأي جبار هذا وأي عنيد ! سأتخلى عنه وأمضي أو أمشي حسب رغبتي ومشيئتي فأجنح لعالم الخيال وما يشبه أحلام اليقظة . سأدعه يمشي وسأمشي حالما ً مخادعاً الزمن أني أمشي معه وأقطع المسافات حيث مشى .
مشيت مشيتُ حتى بلغت الإمارات العربية المتحدة . لم أمش ِ تلقاء نفسي في الواقع ، لكنْ قدمي قادتني . قدمي قادتني أم نجم شركسي ٌّ قوقازي ٌّ قادني كذاك النجم الذي قاد مجوسَ الشرق ودلهم على مكان ولادة عيسى المسيح في بيت لحم من فلسطين ؟
لا فرق ، النجم هو النجم ، ليس الدال هو المهم إنما المدلول . النجمة الشركسية هناك تعمل وهناك تعرفت عليها شاعرة ً وإعلامية مرموقة . لم أرها إلا في الصور . لكن َّ ما أرى في الصور يكفي لتذكيري بشركسية جامعة موسكو في ستينيات القرن الماضي وشركسية جامعة بغداد في سبعينياته .
أرى في هذه الوجوه عظمة سلاسل جبال القوقاز وجمال الطبيعة فيها وفيما حولها وتحتها وما فوقها . الجمال والأبهة والشموخ . يا شركسيات : إني بكن َّ مولّه ولكنَّ عاشق ومتيم . أحب القوقاز والسباحة في البحر الأسود مقابل هذه الجبال . أحب ثمار القوقاز وما يهبُ الناسَ صيفاً . أجد فيكن َّ كل جمال وبهجة القوقاز وروعة مذاق ثماره وطيب هوائه ودفء مياه البحر المحاذي له .
هل حقاً من هناك أتيتنَّ وفارقتن َّ الجدّات والأجداد والجذور وكل التأريخ ؟ لا ، أنتنَّ هناك رغم الفرقة ، إنها فراق الأجساد لا فرقة الأرواح . سألحق بكن َّ إلى هناك حيث المواطن الأصلية . إلى هناك ... سأمشي على عجل لألتقي بحلم جديد راودني ليلة أمس . جمعني بشركسية أخرى فأكملت مسلسل أحلامي الشركسية .
صرت فجأة أؤمن بعقيدة تناسخ الأرواح . فهذه ( مليكة ُ ) جامعة ِ موسكو جالسة أمامي ، في غرفتي رقم 833 في القسم الداخلي . جاءت تحمل لي صندوق خوخ وكمثرى مع صورة ملونة لها بالزي الشركسي الوطني .
وهذه طالبتي في قسم الكيمياء في كلية العلوم تقف قبالتي باسمة ً وفي خصلات شعرها الأسود الفاحم وردة جوري حمراء يفوح منها عطر الربيع .
جاءت هذه المرة وحدها وليس برفقة خطيبها الذي غدا زوجها بعد التخرج مباشرة ً . شعرتْ أخيراُ بثقل وطأته عليَّ فزارتني بدونه . حملت لي شيئاً من حلويات عمان . قالت متى تزورعاصمتنا لنردَّ لك بعض جميلك ونقوم بواجب الضيافة ؟
ليس لي عليك جميل يا حلوة . كنا نقوم بواجباتنا تجاه طلبتنا لا أكثر .
غادرت مكتبي ولكنْ ... بقيَ منها طيف ٌ رقيق غير واضح تماماً . لا زمني طوال عمري الذي بقي واقفاً فتخلف عن مسيرة الزمن . لا أصدق ما أرى وما أقرأ !! هل أنا حقاً في عمّان وفي أعلى قمة جبل الحسين ؟ مَن هذه الحورية التي فارقت الجنان للتو ؟ ما هذا الجمال الخارق وأي رب جبله وسواه ؟ سحرها يصعق البشر كما صعق كلام ُ الرب عبده موسى فوق جبل حوريب في سيناء .
هل تعرفينني يا ملاك ويا عينة ما في الجنة من حور العين ؟ هل سبق وأن إلتقينا في هذا العالم ؟
قالت نعم ، إلتقينا وتقابلنا مراراً وفي مناسبات وأماكن شتى . كنتُ معك ( مليكة ) في جامعة موسكو وكنا نأكل الكمثرى معاً. وكنت معك في جامعة بغداد ، تناقشني فيما كتبتُ من تقارير ومشاريع للبحث . ورافقتك إذ زرتَ قبل عامين الشاعرة الشركسية في الإمارات العربية المتحدة . ذهبت معكما في سفرة بحرية بهيجة لصيد السمك والسباحة متحدين خطر أسماك القرش الخليجية.
ذهلتُ . تلعثم في حلقي لساني ثم جف َّ . غشاوة على عيني . شحوب في وجهي . أكاد أتهاوى فأسقط على الأرض .
قالت تماسكْ . سأقص عليك حكايتي معك. أنا الشركسية الأخيرة التي كنتَ تحلم بها فلم تجدها .
[[ أردتُ أن أسالها وهل وجدتها أخيراً ؟ لكنَّ لساني لم يخدمني ، خذلني في الوقت الحرج ]].
قالت أُعجبتُ بك منذ لقائنا الأول شهر أيلول من عام 1965 وكنتُ في ضيافتك في القسم الداخلي . كتبت لك في اليوم الثاني رسالة رمزية قصيرة لعلك تفهم مغزاها وبغيتي فيك لكني ترددتُ ولم أرسلها بالبريد لك . مزقتها فندمتُ .
سألتها وقد أفقتُ من حلمي : وهل تتذكرين محتوياتها ؟ قالت أجلْ ، أتذكرها حرفاً حرفاً لكأنها لم تزل في ورقتها وبحبرها كما كتبتها على حالها.
هلا قرأتيها لي ؟ شرعت تقرأ وأنا مسحور مأخوذ غير مصدق ما ترى عيني وما تسمع أُذني :
[[ أنا مخلوقة من الحب وهو حلمي الملّح . لا أستطيع أن أتعامل مع < شئ > إنْ لم أحبه . ولا أستطيع أن أتخلى عن < شئ > أحبه . < قلبي ضعيف > للغاية ... مشاعري جياشة ومتأججة بشكل < دائم > وذلك أمر متعب ومرهق خاصة ً عندما يُصبح من الواجب < ضبط تلك المشاعر >.
فكرت في < العشق > ألف مرة ، وحضرت له الكؤوس والهدايا وأطواق الياسمين وبحثتُ عنه طويلاً وصرحّت ُ دائما ً للأهل والأصدقاء بأنني أبحث عنه ... وإنتظرته وتخيلته < يأتي > من كل الجهات .
وتساءلتُ طويلاً كيف سيكون < مَن > سأحب ؟؟؟ لكنه ما جاء [[ ولربما يأتي يوماً ]] على الرغم من أنني إدخرت < < له >> أشواق العمر وحكايا العشق الشركسي الأصيل النادر المثال ولحظات التمني ... وسأظل أنتظره . آه ٍ كم عناني وأعنتني ذلك السلطان السحري الذي إسمه الحب . فهو كلمة البداية وهو كلمة النهاية وما كنتُ سأكونُ لولا الحب ]] .
لم أفقْ من ساعة إسرائي ومعراجي مع الصوت الشركسي إلا بعد أن فارقتني الشركسية تاركة ً على المنضدة ورقة زرقاء بلون السماء العاشرة فيها كتابة غريبة عليَّ وفي نهايتها توقيع أكثر غرابة ً : شعلة السناء !! أهذا هو إسم زائرتي الأخيرة ؟

ليست هناك تعليقات: