سامي العامري
حديث مع رَبّة الشفاء
لِرؤاي أجنحةٌ
وللنجمِ اصطفاقْ
وإذا دعوتُ
فإنَّ في كَفيَّ ياقوتاً بِلونِ دمٍ
ومِن آياتهِ أنْ لا يُراقْ !
----------
أنهيتُ هذه الكلمات ففرحتُ كالطفل وكأني أحمل مفاجأة كبيرة يمكن أن أريها الربة وقد أحسستُ بقدومها من خلال شوقي الكبير وحلَّتْ بالفعل وقد بدا هذا المساء نابضاً ناصعاً كرداءٍ ورديٍّ مُلقىً على كتف الغابة أمامي فهو يشع فأحس بدفءٍ في داخلي رغم لسعة البرد الربيعية التي تهبُّ من النافذة بين حين وآخر فقلتُ لها وانا أحيِّيها :
انا في الغالب أجلس أمام الورقة وذهني لا يحمل فكرة محددة , كل ما أحمله هو تحمُّسٌ ولهفة للتعبير , الصعوبة عندي كانت كثيراً ما تتمثل في البيت الأول لذلك قلتُ يوماً : أعطِني بيتاً شعرياً ناجحاً أعطِكَ قصيدة ناجحة .
أما الآن فقد كتبتُ هذه العبارات القليلة فوجدتني لا أرغب بقول ما هو أكثر .
قالت : عيناك حمراوان .
قلتُ : أدري , لعلَّهما تعكسان جمر قلبي !
في الليلة الماضية نال مني الأرق وقد دخلتُ غرفة الطبيب هذا الصباح فأصغيتُ الى اقتراحات ونصائح منه حول معالجة السهر ثم بيَّنتُ له بأني في بيتي كنتُ أستطيع النوم بهدوء أحياناً اذا استمعتُ الى موسيقى لها علاقة بذاكرتي , أيْ سمعتُها من قبلُ فأحببتُها وهي شرقية في أكثرها فقال مبتسماً :
لا إمكانية هنا لمثل هذه الموسيقى ! إلاّ اذا ردَّدتَ هذه الألحان مع نفسك ولكني أفهم تماماً دور العلاج بالموسيقى ليس لحالات الأرق فقط وإنما لحالات قريبة مختلفة وحتى العديد من الأمراض العصابية . ففكرتُ وانا أخرج منه بتأثير الموسيقى على أنواع من الحيوانات كالأسماك والطيور وبعض الأشجار وغيرها .
قالت الربة بصوتها الحميم الذي لا تشبهه أية موسيقى : الكون معمار موسيقي , وهناك لدينا ما هو أكثر لطافة من الأثير يملأ كوننا العلوي حاملاً أنغاماً سديمية لا تعي كيفيتها مَهما صوَّرتُها لك .
قلتُ : قد أفهمك ولكن ماذا عن عباقرة الموسيقى في التأريخ والحاضر ؟
قالت : إنهم عباقرة وعظماء حقاً ولكنهم لا يستطيعون تمثُّلَ هذه الموسيقى لأنه يجب عليهم أن يتمازجوا معها أولاً , ينصهروا بها بشكل كلي ومثلما أنَّ الجسم الذي يريد أن يبلغ سرعة الضوء عليه هو أن يتحول الى ضوء فكذلك مع موسيقى عالمنا أيْ يجب أن يتحول كيان الموسيقيين او البشر عموماً نفسه الى موسيقى !
وليس في كلامي إيآسٌ ولكنْ لديكم بحار مهولة من جواهر اللحن كافية لتُغرِق عدة كواكب أوسع من الأرض لم تنتبهوا إلاّ الى بعض جواهرها والى ما فاض منها على الساحل .
قلتُ : كنتُ قبل عام ذاهباً الى مكتبة المدينة وفي منتصف الطريق الذي يشبه طريقاً ريفياً ممتداً
سمعتُ فجأةً موسيقى بعيدة كنتُ خائفاً من السؤال عن مصدرها لأنني قبل هذا بسنواتٍ سمعتُ مرتين أيضاً موسيقى بعيدة مشابهة وكانت أيضاً واضحة وسألتُ وقتها بعضَ المارة عن مصدر هذه الموسيقى فأجابوا بأنهم لا يسمعون شيئاً من هذا أبداً !
كانت أنغاماً رهيبة لذلك سددتُ أذنيَّ للتأكد هذه المرة ومع ذلك بقيت أسمعها بنفس الوضوح .
فتذكرتُ أني تناولتُ بعض الخمر في المرة قبل السابقة لكي أبدد الخوف فتناولتُ في المرة الأخيرة خمراً كذلك , كانت موسيقىً لا يمكن وصف روعتها , ولكنها تتلاشى قليلاً قليلاً , أهي تبزغ من روحي حتى تصل الى سمعي ثم تمتصها الروح ثانيةً ؟ وهذه التجربة ... كم يشدني الشوق لعودتها رغم بعض الخوف فربما استطعتُ فهمها أكثر ولكن كلما أحاول أن أمسك او أجسِّد طيفاً منها أراني أكتب حولها ولا أكتبها :
ولي فكرٌ تسامى حازماً
إذْ ليس يعنيه ابتعادي عن خياراتِ الـ ( هنا والآنْ )
بَلى , فهناك الفُ ( هنا ) تُرى في قاع روحي حُرَّةً
وهناك عشتُ تحَرُّرَ الأزمانْ
فماذا سوف يحملُ لي الحنينُ لبعضِ موسيقى ؟
وبعضِ الإلتفاتِ الى غيومِ الأفقِ ترتيباً وتفريقا ؟
----------
قالت الربة مهدئة : كل شيء يعود من حيث أتى , هذه نواميسكم ,
ولكنه اذا كان عنيفاً فإنه قبل عودته يترك آثاراً في فضاء النفس كالآثار الشاخصة في بَرٍّ مفتوحٍ , ولأنها تبدو غير مألوفة لذلك يخافها الفرد , إنه جنون .
قلتُ : نعم في البدء كانت عنيفة تقريباً , أشبه بريح في فُتوَّتها ولكنها تنساب في النهاية متماوجة وتستقطب كل الحواس .
علَّقتْ : البعض يولدون عقلاء ولكن في داخلهم استعداد للجنون , إنه جنون جميل وحكيم , جنونٌ تحتاجه المدارك لينشطها وهو يصدر برضىً ومبارَكةٍ من الروح !
سألتُ : أجنون ام دموع ؟
وهناك حيث بنائيَ الوَرَقيُّ دارْ
يا أجملَ الأحلامِ تنحَتُها يدُ الأحجارْ
أحييتُ قافيتي , بديعي
كيلا أضيعَ ولا تَضيعي
كيما أظلَّ على ارتقابٍ
إنما هُما دمعتانِ وقد سَكَبْتُهُما
فاين هي الدموعُ الباقياتُ الى الربيعِ ؟
------
قالت الربة : هذه الدموع هي الربيع حولك وهو ينحدر من ورقة الى أخرى , من عتبة الى أخرى , أعتاب ورقية , بناء وَرَقيّ , سَمِّهِ ما شئت !
-------
(*) نصٌّ من كتاب يجمع بين القصِّ والنثر الأدبي والشعر يحمل عنوان : حديث مع ربة الشفاء .
----
alamiri84@yahoo.de
حديث مع رَبّة الشفاء
لِرؤاي أجنحةٌ
وللنجمِ اصطفاقْ
وإذا دعوتُ
فإنَّ في كَفيَّ ياقوتاً بِلونِ دمٍ
ومِن آياتهِ أنْ لا يُراقْ !
----------
أنهيتُ هذه الكلمات ففرحتُ كالطفل وكأني أحمل مفاجأة كبيرة يمكن أن أريها الربة وقد أحسستُ بقدومها من خلال شوقي الكبير وحلَّتْ بالفعل وقد بدا هذا المساء نابضاً ناصعاً كرداءٍ ورديٍّ مُلقىً على كتف الغابة أمامي فهو يشع فأحس بدفءٍ في داخلي رغم لسعة البرد الربيعية التي تهبُّ من النافذة بين حين وآخر فقلتُ لها وانا أحيِّيها :
انا في الغالب أجلس أمام الورقة وذهني لا يحمل فكرة محددة , كل ما أحمله هو تحمُّسٌ ولهفة للتعبير , الصعوبة عندي كانت كثيراً ما تتمثل في البيت الأول لذلك قلتُ يوماً : أعطِني بيتاً شعرياً ناجحاً أعطِكَ قصيدة ناجحة .
أما الآن فقد كتبتُ هذه العبارات القليلة فوجدتني لا أرغب بقول ما هو أكثر .
قالت : عيناك حمراوان .
قلتُ : أدري , لعلَّهما تعكسان جمر قلبي !
في الليلة الماضية نال مني الأرق وقد دخلتُ غرفة الطبيب هذا الصباح فأصغيتُ الى اقتراحات ونصائح منه حول معالجة السهر ثم بيَّنتُ له بأني في بيتي كنتُ أستطيع النوم بهدوء أحياناً اذا استمعتُ الى موسيقى لها علاقة بذاكرتي , أيْ سمعتُها من قبلُ فأحببتُها وهي شرقية في أكثرها فقال مبتسماً :
لا إمكانية هنا لمثل هذه الموسيقى ! إلاّ اذا ردَّدتَ هذه الألحان مع نفسك ولكني أفهم تماماً دور العلاج بالموسيقى ليس لحالات الأرق فقط وإنما لحالات قريبة مختلفة وحتى العديد من الأمراض العصابية . ففكرتُ وانا أخرج منه بتأثير الموسيقى على أنواع من الحيوانات كالأسماك والطيور وبعض الأشجار وغيرها .
قالت الربة بصوتها الحميم الذي لا تشبهه أية موسيقى : الكون معمار موسيقي , وهناك لدينا ما هو أكثر لطافة من الأثير يملأ كوننا العلوي حاملاً أنغاماً سديمية لا تعي كيفيتها مَهما صوَّرتُها لك .
قلتُ : قد أفهمك ولكن ماذا عن عباقرة الموسيقى في التأريخ والحاضر ؟
قالت : إنهم عباقرة وعظماء حقاً ولكنهم لا يستطيعون تمثُّلَ هذه الموسيقى لأنه يجب عليهم أن يتمازجوا معها أولاً , ينصهروا بها بشكل كلي ومثلما أنَّ الجسم الذي يريد أن يبلغ سرعة الضوء عليه هو أن يتحول الى ضوء فكذلك مع موسيقى عالمنا أيْ يجب أن يتحول كيان الموسيقيين او البشر عموماً نفسه الى موسيقى !
وليس في كلامي إيآسٌ ولكنْ لديكم بحار مهولة من جواهر اللحن كافية لتُغرِق عدة كواكب أوسع من الأرض لم تنتبهوا إلاّ الى بعض جواهرها والى ما فاض منها على الساحل .
قلتُ : كنتُ قبل عام ذاهباً الى مكتبة المدينة وفي منتصف الطريق الذي يشبه طريقاً ريفياً ممتداً
سمعتُ فجأةً موسيقى بعيدة كنتُ خائفاً من السؤال عن مصدرها لأنني قبل هذا بسنواتٍ سمعتُ مرتين أيضاً موسيقى بعيدة مشابهة وكانت أيضاً واضحة وسألتُ وقتها بعضَ المارة عن مصدر هذه الموسيقى فأجابوا بأنهم لا يسمعون شيئاً من هذا أبداً !
كانت أنغاماً رهيبة لذلك سددتُ أذنيَّ للتأكد هذه المرة ومع ذلك بقيت أسمعها بنفس الوضوح .
فتذكرتُ أني تناولتُ بعض الخمر في المرة قبل السابقة لكي أبدد الخوف فتناولتُ في المرة الأخيرة خمراً كذلك , كانت موسيقىً لا يمكن وصف روعتها , ولكنها تتلاشى قليلاً قليلاً , أهي تبزغ من روحي حتى تصل الى سمعي ثم تمتصها الروح ثانيةً ؟ وهذه التجربة ... كم يشدني الشوق لعودتها رغم بعض الخوف فربما استطعتُ فهمها أكثر ولكن كلما أحاول أن أمسك او أجسِّد طيفاً منها أراني أكتب حولها ولا أكتبها :
ولي فكرٌ تسامى حازماً
إذْ ليس يعنيه ابتعادي عن خياراتِ الـ ( هنا والآنْ )
بَلى , فهناك الفُ ( هنا ) تُرى في قاع روحي حُرَّةً
وهناك عشتُ تحَرُّرَ الأزمانْ
فماذا سوف يحملُ لي الحنينُ لبعضِ موسيقى ؟
وبعضِ الإلتفاتِ الى غيومِ الأفقِ ترتيباً وتفريقا ؟
----------
قالت الربة مهدئة : كل شيء يعود من حيث أتى , هذه نواميسكم ,
ولكنه اذا كان عنيفاً فإنه قبل عودته يترك آثاراً في فضاء النفس كالآثار الشاخصة في بَرٍّ مفتوحٍ , ولأنها تبدو غير مألوفة لذلك يخافها الفرد , إنه جنون .
قلتُ : نعم في البدء كانت عنيفة تقريباً , أشبه بريح في فُتوَّتها ولكنها تنساب في النهاية متماوجة وتستقطب كل الحواس .
علَّقتْ : البعض يولدون عقلاء ولكن في داخلهم استعداد للجنون , إنه جنون جميل وحكيم , جنونٌ تحتاجه المدارك لينشطها وهو يصدر برضىً ومبارَكةٍ من الروح !
سألتُ : أجنون ام دموع ؟
وهناك حيث بنائيَ الوَرَقيُّ دارْ
يا أجملَ الأحلامِ تنحَتُها يدُ الأحجارْ
أحييتُ قافيتي , بديعي
كيلا أضيعَ ولا تَضيعي
كيما أظلَّ على ارتقابٍ
إنما هُما دمعتانِ وقد سَكَبْتُهُما
فاين هي الدموعُ الباقياتُ الى الربيعِ ؟
------
قالت الربة : هذه الدموع هي الربيع حولك وهو ينحدر من ورقة الى أخرى , من عتبة الى أخرى , أعتاب ورقية , بناء وَرَقيّ , سَمِّهِ ما شئت !
-------
(*) نصٌّ من كتاب يجمع بين القصِّ والنثر الأدبي والشعر يحمل عنوان : حديث مع ربة الشفاء .
----
alamiri84@yahoo.de
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق