أجرى الحوار الباحثان المغربيان: سليمان الحقيوي ومحمد العناز
سؤال: منذ صدور مجموعتكم الأولى، "في انتظار الصباح"، سنة 2003 يبقى اشتغالكم على لعبة الضوء (الأبيض والأسود) انطلاقا من أغلفة صور المجاميع القصصية وانتهاء بمحتويات النصوص، ما هي تفاصيل هذا الوعي الجمالي؟
جواب: لو لم أكن كاتبا، لكنت، بكل تأكيد، فنانا تشكيليا. فقد تربيت على يد أخت فنانة جادت علي بكل ما اكتسبته من حب للجمال ومهارة في نقله بالخط واللون والكلمة. ولأسباب تتعلق بصغر سني (15 عاما آنذاك)، لم تسمح لي عائلتي بالسفر إلى مدينة بعيدة كطنجة لتحويل هوايتي إلى دراسة. لكن، رغم عدم استكمالي لمسار كنت أتمناه وهو الفنون التشكيلية، فإن عشقي للوحة لم يتوقف ما دامت الحياة مستمرة. فلا زال الفن يدب في عروقي لدرجة لا أقبل فيها، الآن بعد دخولي عالم النشر الورقي، بتصميم غيري لأغلفة كتبي...
ولعل اهتمامي بالفن ظاهر في نص "حديث غراب" حيث نقرأ بعض المفاهيم من المعجم الفني التشكيلي كما في هده الفقرة: "سُتنَصَبُ حاملَ اللوحة وتُخرِج أدوات الرسم والتلوين من حقيبتك استعدادا للعمل وتجلس لترتيب الأصباغ على حاملة الألوان.(...)الطــبـيعة أمام عينيك صامتة، مـيتة... إنما المنظر متوازن وجيد التأطير: الأشجار على حافتي اللوحة تقف إطارا لها تسمر في خلفيتها القريبة بغل محمل بالأثقال، أما في خلفيتها البعيدة فــترعى ثيران مغلولة القوائم، يجر أقواها من القرنين عبد من عبيد الضيعة، ويتقدم به نـحو واجهة اللوحة…يتبع الثور العبد دون عصيان ليربطه في جذع شجرة مقطوعة، قبالتك، في منتصف اللوحة،في انتظار الآتي..." (مقتطف من نص "حديث غراب" عن المجموعة القصصية "في انتظار الصباح" الصادرة سنة 2003، الصفحة 30) ربما على هده الخلفية، يمكن قراءة حضور الضوء والظل بدء من "تصميم الأغلفة" ومرورا ب"تشكيل النصوص" وانتهاء بتقسيم المجاميع القصصية المنشورة إلى "مجاميع فاتحة" و"مجاميع داكنة".
الضوء والظل يعادلان في معجم رموز اللاشعور الجمعي الإنساني للمنطوق والمسكوت عنه في النص، للمركزي والهامشي في الموضوع، للواعي واللاواعي في الخطاب... الضوء والظل يحتلان قيمة رمزية في نصوصي كما يمكناني من تنشيط التقابلات التي أشتغل عليها بنجاعة ما بين الوجود والعدم، التطور والثبات، الفعل واللا فعل، الواقع والمثال، الحياة والموت ، القول والفعل، الوضوح والغموض، اليقين والشك، الاستقرار والتيه، الإنفتاح والتطرف، الفرد والمجتمع، الحب والكراهية، الحرب والسلم، المنطوق والمسكوت عنه...
سؤال: تذكرنا قصتك الجميلة "مدينة الحجاج بن يوسف الثقفي" بالسخرية المرة في قصص زكريا تامر، ما هي حدود التقارب والتباعد بينهما؟
جواب: الأحجية كانت أولى العربات التي قادتني إلى عالم الحكي إلى جانب النكتة التي تظل العربة الثانية. فقد كنت، في فترة مراهقتي، أحفظ عن ظهر قلب أغلب النكت المتداولة. بل كنت ماهرا في التصرف فيها نصيا كما كنت أولي شكل العرض الجسدي للنكتة عناية خفية. ولعل من الآثار الظاهرة للنكتة في نصوصي القصصية الراهنة هي"السخرية"، هذه الأداة السردية والأسلوبية الفعالة القادرة على توليد القراءة المناسبة للنص وإيقاظ القارئ ذاته.
إن السخرية أسلوب فني وظيفته "قلب" تذوق الحياة و"قلب" الرؤية للعالم وللوجود. بل إن السخرية لا تكتفي بقلب الرؤى والقناعات والتوقعات. إنها أسلوب في التعبير وشكل من أشكال دعم «تعددية المعنى» في النص الذي يحتمل أكثر من قراءة وأكثر فهم. وبذلك تصبح السخرية منارة لعوالم نغفلها بفعل العادة والكليشيهات والرغبة في الحفاظ على خطاب واحد "جدي"، وتنقلنا إلى ما وراء القراءة الواحدة للواقع وللوجود بتمكيننا من لزوم المسافة من الخطاب المسرود. وهي فرصة ثمينة لاختبار الرؤى وتقييم الأحكام والقناعات.
وللسخرية أدوات عديدة أهمها:
أولا، تقنية السارد المغفل ironic persona=) ( حيث السارد لا يعلم مصيره وباقي الشخوص يعلمون كما في نص "الرجل الأرنب" من مجموعتي القصصية "موسم الهجرة إلى أي مكان" (2006) .
ثانيا، تقنية التضاد بين رؤية الشخصية للوضع وحقيقة الوضع في الواقع (=Situational irony) كما في نص "أرض الغيلان" من مجموعتي القصصية "في انتظار الصباح"(2003) .
ثالثا، تقنية "السارد الدنيوي" ( (dramatic irony= الذي يعرف القراء مصيره بينما يجهله هو بمعية بقية الشخوص كما في نص "حالة تبلد" من مجموعتي القصصية "موت المؤلف".
رابعا، تقنية التنافر بين القول والمقصود، بين الدال والمدلول ((verbal irony= كما في نص "الحياة بالأقدمية" من المجموعة القصصية " موسم الهجرة إلى أي مكان "(2006).
وأود بالمناسبة أن أشير إلى أنني، في سبيل تثبيت قراءة جامعة ومبوبة لأعمالي، سأعمل على طبع مجاميعي القصصية في مجلدات، في "أعمال كاملة"، وستبوب مجلدات الأعمال الكاملة إلى صنفين: "مجاميع قصصية داكنة" و"مجاميع قصصية فاتحة" .
"المجاميع القصصية الداكنة" وهي المجاميع التي بدأت بها مشواري الإبداعي والتي هيمن اللون الأسود على أغلفتها والسخرية على أساليبها والتوق للحرية على مضامينها. وهده المجاميع القصصية هي "في انتظار الصباح" و"موسم الهجرة إلى أي مكان" و"موت المؤلف" و"وراء كل عظيم أقزام" و"حوار جيلين" (المجموعة المشتركة مع القاص المغربي إدريس الصغير).
أما الصنف الثاني من مواد الأعمال الكاملة، فَسَيُجَمََعُ ضمن مواد مجلد آخر بعنوان "مجاميع قصصية فاتحة" وهي المجاميع التي سأختم بها تجربتي في الكتابة القصصية والتي سيستبدل فيها اللون الأسود على الأغلفة بألوان أكثر تعددية ومُغايَرَةً وستفسح الحرية مجالا أرحب للحب والحلم وستنجلي السخرية، موضوع سؤالكم، ليحل محلها "الخلاص". والمجاميع القصصية المندرجة تحت هذا "الصنف الفاتح" من الأعمال القصصية هي "هكذا تكلمت سيدة المقام الأخضر" و"كما ولدتني أمي" و"كيف تكتبين قصة حياتك"...
سؤال: نصكم القصصي الموسوم "مدينة الحجاج بن يوسف الثقفي" يخرج عن الخطاطة السردية التي تتضمن الاستهلال والحدث والوضع والمدخل ثم النهاية، إذ أن حالة اللا توازن هي المهيمنة في النص بأكمله والسارد عبر تقنية التكرار يعتمد خلخلة أفق انتظار المتلقي، كيف تعلل ذلك؟
جواب: نص "مدينة الحجاج بن يوسف الثقفي"، من بين كل النصوص القصصية التي كتبتها، يبقى النص القصصي الوحيد الذي تعدى عند نشره حاجز الأربعين منبرا إبداعيا عربيا، بين رقمي وورقي، وأنا سعيد بذلك. أغلب الكُتََاب يقاومون الحديث عن نصوصهم وأعمالهم ليس من باب التواضع ولا من باب الإيمان بأن النصوص "تنكتب" لوحدها. إن الكُتََاب يقاومون الحديث عن نصوصهم وأعمالهم لسبب بسيط وهو أنه ليس بمقدورهم الحديث عن أعمالهم ب"موضوعية" ما داموا لحظة الكتابة يكونون أسرى الذاتية وأسرى رؤية أعمالهم من الداخل. ولذلك، اعتقد بأنني، بعد مرور سنوات على كتابة هدا النص، أستطيع الحديث عنه ك"قارئ" متجرد من كل "ذاتية".أعتقد أن أربع خواص تميز نص "مدينة الحجاج بن يوسف الثقفي":
أولا "الاحتفال بالرمز" أي الاسم الفردي، وثانيا "الكاليغرافية" أي محاولة تجسيد المضمون بصريا، وثالثا "خاصية القصر" أي قلب البطولية والعظمة التي يمكن أن تحيل عليها عظمة المدينة واسم حاكمها العظيم، ورابعا "التكرارية الوظيفية".
ف"الاحتفال بالرمز"، العنصر الأول من العناصر الأربعة المتحكمة في خيوط نص "مدينة الحجاج بن يوسف الثقفي"، يستمد، مثل سائر نصوصي التي يكون فيها الاسم الفردي هو الشخصية المحورية، مبرر وجوده ومقوماته الفكرية ورمزيته الإبداعية من كتابي الأول "الاسم المغربي وإرادة التفرد" سنة 2001 والذي اعْتُبِرَ في حينه أول دراسة سيميائية للاسم الفردي العربي.
وقد تم توظيف هدا الاسم الفردي بالذات، "الحجاج بن يوسف الثقفي"، نظرا للإجماع التاريخي القوي على ارتباطه بالظلم والتنكيل والبطش والتعصب للرأي الواحد. وبدلك، هيمن "الاسم الواحد"، اسم "الحجاج بن يوسف الثقفي"، "اسم الحاكم المطلق" على كل شبر من الأرض وكل نسمة هواء وكل جملة وكل فكرة وكل صورة... فصادر ملامح الناس لتبقى ملامحه هو، وحول كل الأحياء إلى مجرد عابرين في الحياة ليبقى وحده الخالد السرمدي الأزلي...أما العنصر الثاني، عنصر"الكاليغرافية"، فيبقى أحد تجليات شغفي بمصالحة شكل النصوص بمضمونها.
وعلى ضوء ذلك، فقد افتتح نص "مدينة الحجاج بن يوسف الثقفي" بمحاولة للمصالحة بين شكل العرض ومضمونه بحيث نلمس عند بداية النص "رسما كاليغرافيا" لمثلث مقلوب، رمز تصحيح هرمية غير مناسبة، بحيث تبدو قاعدة المثلث في الأعلى والرأس في الأسفل يصبح معها النص الشذري المكتوب داخل المثلث المقلوب كسهم يشير لجهة الدخول للنص.
أما النص الشذري المكتوب داخل المثلث فلم يكن غير الشعارات المكتوبة على السبورات الحديدية الراسية على جانبي الطريق لاستقبال الزوار من السائقين خلال دخولهم "مدينة الحجاج بن يوسف الثقفي" كما نقرأ هنا: "من أجل مدينة حجاج بدون دور صفيح في أفق 2999"،" من أجل مدينة حجاج بدون رشاوي في أفق 2999"،" من أجل مدينة حجاج بدون بطالة في أفق..."،" من أجل مدينة حجاج بدون سجون في..."،" من أجل مدينة حجاج بدون ..."" من أجل...""..."(مقتطف من نص "مدينة الحجاج بن يوسف الثقفي" عن المجموعة القصصية "موسم الهجرة على أي مكان" الصادرة سنة 2006، الصفحة 25) وتضيع الشعارات عند نهاية المثلث المقلوب مع بداية ضياع السارد في هده المدينة العجائبية، "مدينة الحجاج بن يوسف الثقفي"...
أما بالنسبة للعنصر الثالث من العناصر الأربعة المهيمنة على النص فيبقى عنصر "القصر" سليل ثقافة "المينيمالية" لكن استثماره في النص كان لغاية فنية تتقصد تضمين الموقف في الشكل من خلال قلب مفهوم "العظمة" و"الأسطورية" و"الجلال" التي قد يتوقعها القارئ منذ أول وهلة من خلال قلب الحجم المتوقع ومن خلال قلب أشياء أخرى كثيرة...
أما العنصر الرابع، "التكرارية الوظيفية"، فيبقى أداة أسلوبية أثبتت فعاليتها على مر تاريخ الإنتاج الرمزي عموما. ونجاعة "التكرارية" رهينة بالسياق العام الذي تشتغل فيه: فالتكرارية في المدارس تفيد التلقين وحفر المعارف في ذاكرة المتعلم، وفي السيرك تفيد التكرارية الترويض لتعويد الحيوان المتوحش على صفته الجديدة كخديم للفرجة والتسلية، وفي خطابات الوعظ تتقصد التكرارية التهييج والتحريض والتثوير، أما عند الصوفية فتساعد تكرارية الإيقاع والحركة والتسبيح على تجميد العقل قصد السمو بالروح على خلفية أن السمو بأحد القطبين، العقل والروح، يقتضي تجميد الآخر... ولدلك، أعتقد أن وظيفية تكرار عبارة "الحجاج بن يوسف الثقفي" اثنين وعشرين مرة (22 مرة) في نص "مدينة الحجاج بن يوسف الثقفي"، أو "مدينة الحاكم المطلق" كما سماها البعض، تنهل رمزيتها من الوظائف المذكورة آنفا.
سؤال: يشكل الوصف أحد المكونات في تجربتكم السردية، غير أنه في كثير من القصص لا يضطلع بوظيفة المحفزات بل بوصفه من الثوابت الأساسية لعوالمكم السردية، هل يتعلق الأمر باشتغال على اللغة؟
جواب: مجموعتي القصصية "موسم الهجرة على أي مكان" الصادرة سنة 2006 تفتتح موادها القصصية بشهادة حول فلسفتي في الكتابة القصصية. فعلى الصفحتين السادسة والسابعة يمكنك قراءة الفقرة التالية:" قارئ أعمال الروائي الأمريكي أرنست هيمنغواي يستطيع بسهولة رصد أسلوبه المتميز بجمل بسيطة قد تطول أحيانا بسبب ميله الظاهري لاستعمال "واو العطف".
والمتتبع لأعمال الأديب والفيلسوف الفرنسي ألبيرت كامو يقرن بين الرجل وأعماله وجمله القصيرة جدا. والمقبل على روايات الكاتب الأمريكي ويليام فولكنر يستعد مسبقا لقراءة جمل طويلة متحررة من قيود القواعد والخوف من ارتكاب الأخطاء مادامت مجرد أفكار في رؤوس الشخوص الروائية...السائد، إذن، هو أن الأسلوب هو الرجل. لكنني أعتقد أن نصوصي ضد النمطية، ضد كل أشكال النمطية.
فالنص هو ما يجب أن يحدد الشكل القصصي، أي أن يكون الشكل الفني منسجما ومضمون النص: ان يكون للنص هوية في ذاته، لا أن يكون الشكل دلالة على هوية خارجية هي هوية كاتبه.التقنيات والطرائق الأسلوبية والسردية يجب أن تنبعث من رحم النص الإبداعي، لا أن تفرض عليه من الخارج.
لكل نص شكله الخاص وأساليبه الخاصة وطرائقه الخاصة." (مقتطف من الشهادة المنشورة في مستهل أضمومة "موسم الهجرة على أي مكان" الصادرة سنة 2006، الصفحة 6-7) أعتقد أن الثابت الوحيد في كتاباتي هو هاجس البحث عن الشكل السردي المناسب لمضمون النص السردي وأحيانا ثانية هاجس إيجاد المضمون الحكائي المناسب لشكل قصصي يريد التحقق. لهذا، فالوصف والحوار والسرد والشخوص والفضاء والزمان والمنظور والأسلوب واللغة ليست ذات قيمة في حد ذاتها.
إنها تستمد قيمتها من وظيفتها داخل البنية العامة للنص. ففي الوقت الذي يهيمن فيه الوصف على نص "كلاب" الذي يُعْرَضُ على القارئ بواسطة "عين الكاميرا التصويرية"، يسيطر الحوار على نص "شيخوخة"، بينما يبقى السرد سيد الموقف في نص "الحياة بالأقدمية"، في الوقت الذي يتحكم في الزمن في رقاب مكونات نص "الأبدية"...
سؤال: يُلاحظ انك تركز على الجمل الخبرية وتبتعد بأكبر قدر ممكن عن أدوات الربط وحروف العطف، هل يتعلق الأمر بثورة على موروث سيبويه؟
جواب: "لا نمطية في كتاباتي"، على الأقل من حيث المبدأ. وربما قدم نص "إخراج تافه لمشهد تافه" الدليل الواضح على هذا المبدأ الذي ألتزم به في كل كتاباتي الإبداعية. فالأسلوب، بالنسبة لي، ليس هو الكاتب ولكن "الأسلوب هو شكل المضمون".
وما دام المضمون يتغير من نص لنص فمن الضروري أن يتغير الأسلوب من نص لآخر.في نص "إخراج تافه لمشهد تافه"، وهو بالمناسبة "باروديا" Parody لواقع العمل الجمعوي في بلداننا العربية، يمكن من خلال المداخلات الأربع التالية رسم صورة المتدخل وطريقة تلفظه وشكل تفكيره. نص "إخراج تافه لمشهد تافه" يبقى أهم نص قصصي قصير كتبته يتميز بالتعددية الأسلوبية ويعي وظيفيته وقدرته على نقل الموقف من خلال الأسلوب. وفي هدا الصدد، يمكننا أن نقرأ: "لائحة المداخلات :*
المداخلة الأولى:
في. البداية. أود. أن. أشد. بحرارة. على. يد. جمعيتنا. العتيدة. على. مجهوداتها. الجبارة. فداء.للمصداقية. و. الإشعاع. و. التنوير. تحت. قيادة.السيد. رئيس. الجمعية. أطال. الله. في. عمره. و. أدام. على. الجمعية. سديد. أفكاره. و. لا. يفوتني. أن. أهنيء.الجمهور. الكريم. على. هذا. العرض.التاريخي. الذي. س. يتذكرونه. ما. داموا. على. قيد. الحياة. وشكرا.*
المداخلة الثانية:
تحية للأستاذ أبجد هوزحطي الذي تفضل مشكورا بهذا العرض الشيق والرصين، في آن، عن حرية التعبير. وأنا لما أقول الشيق والرصين فأنا لا أقصد اللعب على الألفاظ والجمع بين المتضادات بقدر ما أقصد قدرة الأستاذ المحاضر على الإحاطة بكامل جوانب الموضوع. بمعنى آخر ،شمولية الرؤية للموضوع. وأنا لما أقول شمولية الرؤية للموضوع فأنا لا اقصد استعارة معاجم الفاشية والأنظمة الشمولية بقدر ما أقصد الرؤية المتعالية عن كل إيديولوجيا أو تحيز مسبق. بمعنى آخر، الحقيقة. وأنا لما أقول الحقيقة، فأنا لا أقصد ... بقدر ما أقصد ... بمعنى آخر... وانا لما أقول... فأنا لا... بقدر ما... بمعنى آخر...*
المداخلة الثالثة:
قبل كل شيء، أود في البداية، أن أقول، بكل ثقة في النفس، أنه ، حسب رأيي المتواضع، وأنا لا أدعي علما، أنه، فضلا عما سبق التطرق إليه والتفصيل فيه في هذه المحاضرة القيمة والغنية والمفيدة ،يمكن كذلك القول والجزم، مع قليل أو كثير من التحفظ، وليس في ذلك حرج ، أنه كان بالإمكان، وهناك دائما إمكانيات، إضافة أشياء أخرى، وشكرا.* المداخلة الرابعة:
من حيث المبدأ، ليس هناك أبدع مما قيل. خاصة وأنه كان يجب كذلك دونما من حيث هو فضلا عن ذلك ولعل ما أو ربما صار وشكرا." (مقتطف من نص "إخراج تافه لمشهد تافه" عن المجموعة القصصية "موسم الهجرة على أي مكان" الصادرة سنة 2006، الصفحة 32-33) "لا نمطية في كتاباتي" و"لا نمطية في فكري" و"لا نمطية في سلوكي". أنا أكتب رأيي ويهمني كثيرا الشكل التعبيري الذي اختاره لتحقيق هده الآراء جماليا.
لا أدعم أي اتجاه إبداعي ينتصر لشكل ثابت لنقل كل المضامين كما لا أؤيد أي توجه يدافع عن مضمون ثابت صالح لكل الأشكال.
سؤال: كيف يستطيع محمد سعيد الريحاني القاص أن ينفلت من محمد سعيد الريحاني الناقد؟
جواب: لا اعتقد أن علاقتي بذاتي هي علاقة مطاردة الناقد للقاص أو العكس. أعتقد أنني أسعى إلى بلورة مشروع جمالي أشتغل في ضوئه على رسم معالم الحياة كما أريدها. وبدلك يذوب الناقد في القاص كما يذوب القاص في الناقد.
سؤال: حظي عملك الموسوم بالحاءات الثلاث باهتمام المتتبعين بالشأن الثقافي خاصة منه السردي لماذا اخترتم التركيز على تيمة الحرف "حاء"؟ هل يتعلق الأمر بخطوات منهجية أم برؤية خاصة؟
جواب: لقد تم تجريب عدة أشكال من الشعرية: شعرية جنس أدبي بعينه، ثم "شعرية القصر"، ثم "شعرية الناقص"... والآن، يتم تجريب "شعرية الحرف الخلاق" التي تنفست برئة العديد من الإصدارات المتميزة ك "نون النسوة"، "حاءات متمردة"، "الحاءات الثلاث"...
سؤال: الترجمة رهان صعب، لكن وأنتم مقبلون على ترجمة هاته الحاءات، ما هي الإكراهات التي تصادفكم في هذا المشروع؟
جواب: رواد الفلسفة الوجودية الأوائل اعتبروا أن الإنسان "أُلْقِيَ به في هذا العالم بلا حماية ولا رعاية ولا أمن ولا نظام وأنه عليه تدبر أمره لوحده". وربما كان هذا حاليا هو حال الغيورين على الثقافة العربية من محققين وموثقين ومؤلفين ومترجمين الذين يعتمدون على مجهوداتهم "الذاتية" وتمويلهم "الذاتي" في إنجاح مشاريعهم "الذاتية" التي "لا تهم أحدا سواهم".
سؤال: هل يعني ذلك أننا نشهد النهاية التراجيدية لزمن الكتاب الورقي؟ وهل حقا يشكل الكتاب الإلكتروني بديلا جديرا بالاهتمام؟
جواب: كتب رولان بارث مرة "أفق الناقد هو أن يصبح كاتبا". وإذا كان الأمر لا زال كذلك في زمننا الرقمي هدا، فإنني أود أن أضيف أن "أفق الكاتب الرقمي هو أن يصبح كاتبا ورقيا". وبالمثل، يبقى "أفق الكتاب الإلكتروني هو أن يصبح كتابا ورقيا منشورا".
ففي رأيي المتواضع، يبقى الكتاب الإلكتروني حاليا مجرد جسر عبور نحو الورقية لعدة أسباب تهم مراكز الخلل في جسم الكتاب الورقي أهمها: عدم قدرة الناشر العربي الورقي على المغامرة بطبع نسخ تفوق ألف نسخة، ضعف التوزيع، سلطة الرقابة، هيمنة العقلية القبلية والحزبية لدى النقاد الورقيين، تفشي الأمية لدى عموم المواطنين، استفحال ظاهرة "القُرََاء الصََدِئِينَ" الذي تخلوا عن القراءة بمجرد الحصول على الشواهد أو على فرص عمل... في أجواء ضعف الكتاب الورقي العربي هده، طور الكتاب الإلكتروني مسارا مغايرا تفاعل من خلاله مع القراء رغم بعد المسافات وتواصَلَ معهم فوق ظهر الرقيب والسياسي والعراقيل وصناع العراقيل... وبدلك صار الكتاب الإلكتروني يقوم بأربع وظائف:
الوظيفة الأولى، وهي وظيفة تشاركية يهدف من خلالها الكُتََاب الرقميون إلى نشر "مسوداتهم" أو "مشاريعهم الإبداعية" مباشرة على الشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت) بغية تلقي الملاحظات والتصويبات والتدقيقات في أفق تطوير العمل قبل نشره ورقيا.
الوظيفة الثانية، وظيفة ربحية وتهدف إلى بيع النسخة الرقمية من الكتاب الورقي الذي يصعب إيصاله إلى مناطق بعينها على الكوكب الأرضي. وقد قامت لهدا الغرض مكتبات إلكترونية متخصصة في بيع الكتاب الإلكتروني.
الوظيفة الثالثة، وظيفة إشهارية وتسويقية و تهدف للتعريف بصدور الكتاب ورقيا في أفق إيصاله إلى أبعد القراء بعد الحصول على وصل إيداع وحماية حقوق الملكية.
أما الوظيفة الرابعة والأخيرة، فأصبح معها الكتاب الإلكتروني احتياطيا مهما للكتاب الورقي عند تعرض هدا الأخير المنع كما حدث مع رواية دان براون الدائعة الصيت "شفرة دا فنشي" التي منعت النسخة الورقية عربيا ولكن النسخة الالكترونية عرفت تنزيل مليون نسخة من طرف قراء عرب تعتبرهم الإحصائيات عزوفين عن القراءة!...
سؤال: يحضر محمد سعيد الريحاني عبر مختلف الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية قاصا ومثقفا يساءل إشكالات القراءة وأزماتها ويكشف ملف التلاعب بمصائر رجال التعليم، ما هي تفاصيل هذا الملف؟
جواب: ملف التعليم كان دائما جرحا مفتوحا مند الاستقلال السياسي للمغرب ولا أدل على دلك من عدد الوزراء الدين تناوبوا على هدا القطاع لدرجة يفوق فيها عددهم نصف سنوات عمر استقلال البلاد. لكني تلمست الجرح بشكل مباشر ولأول مرة خلال مقاطعة امتحانات السنة الجامعية 1989 حيث صارت مشاهدة حلقيات هن وهناك في الشوارع العامة يسيرها مسئولون كبار في الإقليم يتحلق حولهم طلبة من الانتهازيين وضعاف الخلق ينصتون لمناشدة المسئولين لهم في الشارع أمام الملأ بإفشال المقاطعة مقابل وعود بالإيواء والإطعام في فنادق مصنفة خلال فترات الامتحان وبالنجاح في الامتحان بشقيه الكتابي والشفوي وبمجانية الاصطياف الصيفي في مخيم شاطئ مارتيل بتطوان شمال المغرب. وبالفعل "فشلت" المقاطعة و"نجح" الانتهازيون الدين خرجوا يسخرون من الراسبين ومن المطرودين.
كما وفى المسئولون بوعدهم اتجاه "المُنَجََحِينَ" من الطلبة بتوفير إقامة صيفية مجانية على مخيم شاطئ مارتيل.كان ذلك مع الطلبة، في البداية. لكن، بعد نجاح التجربة تم تكرار الفعل مع الموظفين ممن يقدمون في الحياة العامة ب"رجال التعليم"، وخاصة بعد ميلاد فلسفة "التناوب" سنة 1998 ليصادف بدلك نفس الفئة من الطلبة "المُنَجََحِينَ" سنة 1989 وقد صاروا "رجال تعليم" ينتظرون "التنجيح" مقابل أي خدمة، تماما كما فعلوا عام 1989.
فبعدما كان قطاع التعليم كبوابة لنفي الخريجين الجامعيين لمجاهل الجغرافيا وترويضهم خلال السنوات العشر المعروفة 1986-1995 (راجع بيان أكتوبر السنوي لعام 2007 )، صار التعليم اليوم مكتبا لتوزيع "لاكريمات" و"الترقيات" على الزبناء من أتباع الزوايا والأحزاب والنقابات "الصديقة" ويُخْشَى أن يكون الأمر في جوهره "إرادة مؤسسة" لتحويل رجال التعليم ومعهم كافة المواطنين إلى مجرد انتهازيين ووصوليين كي تسهل إدارتهم.لقد كانت الزوبعة التي سميت "تكريم رجل التعليم المغربي" تارة و"تقوية الطبقة الوسطى" ثارة أخرى خير مرآة تعكس شكل تسيير القطاع التعليمي بالبلاد.
فقد أزكمت روائح فضائح هده التخريجة عموم البلاد لدرجة لم تعد معها الترقية في المباريات في ظل حكومات "التناوب" غير "تنمية للشعور بالذنب" لدى المستفيدين منها من رجال التعليم الدين سيبقون شهودا على هده المرحلة،مرحلة انهيار القيم المهنية، وشركاء في المخطط. ولا أحد يعتقد بأن التعليم في حاجة إلى ترقية "يخجل منها" المستفيدون منها.لقد بدأ هدا النضال الذي ألخص لكما الآن معالمه وأسبابه وآفاقه قبل خمس سنوات: قبل أن يديل تعليم المغرب من طرف تقرير البنك الدولي للتنمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في آخر الترتيب الدولي، وقبل شطب تصنيف الجامعات العربية "كلها " من ضمن خمسمائة أفضل جامعة في العالم الذي جاءت جامعتا هارفارد وستانفورد الأمريكيتان على رأس التصنيف بينما جاءت جامعة يورك الكندية في ذيل الجامعات الخمسمائة في الترتيب العالمي، أما الجامعات العربية فخارج التاريخ...بدأ هدا النضال مع "بيانات أكتوبر السنوية" (2004-2007) التي صارت تقليدا نقابيا سنويا في المغرب. وهو التقليد الذي لم يكن وراءه لا إرادة في التسلق ولا دافع وصولي ولا أي شيء.
ما كان يحرك تلك البيانات التي دامت كل هده المدة الزمنية هو فقط إرادة التصحيح ووقف هدا الانهيار الأخلاقي والمهني والثقافي الذي بدأ ينحث مجراه في الجسد التعليمي قبل أن ينتبه له تقرير البنك الدولي للتنمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لسنة 2007 الصادر في فبراير من هده السنة، 2008 فصنف المغرب في المراتب الأخيرة "عالميا"...ومن بين "بيانات أكتوبر السنوية" وآثارها خلال الفترة (2004-2007) كان: تغيير نائب وزير التربية الوطنية بالإقليم الذي تصدر منه بيانات أكتوبر السنوية وتغيير وزير التعليم بعد حكم دام 10 سنوات وإلحاق وزارة التعليم بوزارات السيادة ، ثم التحقيق الفضيحة الذي لم يفسح له مجال النشر إعلاميا لقراءته وتداوله ومناقشته حول حقيقة المناصب "الستمائة" من أصل "الألفي منصب المتبارى عليها" من قبل رجال التعليم مند إقامة المباريات حتى اليوم: فقد كان رجال التعليم مجرد مغفلين يتبارون على "مناصب غير موجودة"، ويحررون إجابات على "أوراق امتحان لن تصحح"، ويحسبون معادلات غير ممكنة...
ومع دلك، تراهم يصدقون النتائج عند إعلانها ويعودون السنة المقبلة لتكرار التجربة في تمثيلية سيزيفية لا يفسرها سوى تصنيف البنك الدولي للتعليم المغربي عالميا...كقاص، حرصت دائما على تدوين مواقفي فنيا. لدلك، راكمت نصوصا قصصية لا يستهان بها تؤرخ لرؤاي ومواقفي. فبالإضافة إلى نصي القصصي القصير المعنون ب"كاتب"، يبقى نص "الحياة بالأقدمية" من أقرب النصوص إلي. فالنص الأول "كاتب" يبقى سيرة ذاتية أدبية مثخمة بالجراح بينما يطل النص الثاني "الحياة بالأقدمية" كنص يوظف السخرية بكافة أسلحتها للانتقام للنص الأول. وفي هدا الإطار نقرأ: "منذ دخلت المدرسة في سن السابعة من العمر وأنا أدرس في كل فصل ثلاث سنوات أعاشر خلالها ثلاثة أجيال.
وقد وسعت بهذه السياسة دائرة معارفي لتشمل كل أحياء المدينة. فقد صار لي أصدقاء في كل مكان كما صار لي أصدقاء من كل الأعمار. ولما وصلت قسم الشهادة الابتدائية بعد رحلة الشتاء والصيف التي دامت خمسة عشر عاما، كان لي أصدقاء في القسم الذي أدرس فيه وآخرون في الثانوية وغيرهم في الجامعة أو في مراكز تكوين المعلمين بعضهم اختار العمل معلما رسميا في مدرستي ويتعامل معي كصديق طفولة يتحسر عليها وأنا لازلت أعيشها..."(مقدمة نص "الحياة بالأقدمية" عن المجموعة القصصية "موسم الهجرة على أي مكان" الصادرة سنة 2006، الصفحة 49) نص "الحياة بالأقدمية" كتب في الأصل "باروديا" Parody للنخب الجديدة في البلاد التي أطلق عليها في النص "جمعية قدماء كسالى الثانوية الوحيدة بالمدينة". وهده "النخب الجديدة" التي استغلت عزوف المواطنين عن الانخراط الحزبي والنقابي فاندست كالسم في الأجهزة الحزبية والنقابية والجمعوية وبدأت تفرض نمط سلوكها البدوي وأساليب تفكيرها العائد لعصور ما قبل التاريخ وأصبحت توزع التزكيات والتهديدات... مع أنها ليست سوى "جمعية لقدماء كسالى الثانوية الوحيدة بالمدينة".وسرعان ما جاء دوري لأتعرض لتهديد حمله لي أحد "الأساتذة الأفاضل" زملاء العمل بتاريخ 13 أكتوبر 2004 وهو التهديد الذي يحمل توقيع "مسؤول نقابي محلي" كان ولا يزال يخلط بين مسؤولياته النقابية ومسؤولياته المافيوية.
ولي قصص كثيرة مع مثل هؤلاء ممن كان الرومان يسمونهم "هَمَجاً" Les Barbares. فمند دخولي تجربة الكتابة سنة 2001 بالشكل "الحر" ، "غير المنبطح" الذي لم يرق للكثيرين ، بدأ الاعتداء علي بعدة أشكال: أولها الإشاعة ؛ ثانيا بالمضايقة في الترقية المهنية مند 2003 حتى اليوم؛ ثالثا بالاعتداء علي لأول مرة في حياتي في الشارع الرئيسي لمدينتي وتحت الأضواء الساطعة من طرف كائنات مقنعة ومسلحة في شتنبر 2004 ؛ ورابعا بإرسال أحد عرابي فرع محلي لإحدى النقابات بمدينتي تهديدا بالاعتداء علينا جسديا؛ وأخيرا بالاعتداء علينا "رمزيا" بكتابة مقالات رديئة في مواضيع رديئة وبأسلوب رديء ومستوى رديء هدفه الحط من حضوري الثقافي لكن توقيع المقالات يكون باسمي الكامل كما يدل على دلك نص الرسالة الموجهة بتاريخ 16 مارس 2008 إلى رئيس تحرير الجريدة التي نشرت سلسلة المقالات الموقعة باسمي على مدى ثلاث سنوات...
سؤال: هل آن أوان الهجرة نحو الرواية؟
جواب: أنا لا أعتبر الكتابة في مجال القصة القصيرة مجرد عتبة لتجريب الكتابة السردية أو مجرد مرحلة تسخينية لدخول تجربة الرواية. بالنسبة لي، الهجرة بمعنى "الحريك" نحو الرواية أمر غير وارد حاليا، فأنا مرتاح جدا في بيت القصة القصيرة. أما المراوحة بين الكتابة القصصية وتجريب المغامرة الروائية، فأتمنى أن تشاركني بمعية قرائكم سعادتي بقرب حسمي في موضوع نشر أولى رواياتي "قيس وجولييت"، إن باللغة العربية أو باللغة الإنجليزية أو هما معا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق