زياد جيوسي
مركز خليل السكاكيني في رام الله
"بعدستي الشخصية"
صباح الدفء والحنان يا رام الله، صباحك أجمل وأنت تمنحين الشمس قبلة الفجر الجديد، وتحلمين بصباح أجمل وأبهى، صباحك جميل كما أنت في غاية الجمال، صباحك رقيق وناعم تشدو فيه الحمائم والعصافير على نافذتي، رغم لسعات برد آذار يبقى لرام الله صباح جميل ومساء له نكهة خاصة، ففي الحالتين يكون لهدوء الشوارع رونقا خاصا، ولكن الصباح بهدوئه يبقى الأجمل، أما المساء في رام الله فله طعم تستر العاشق عن العيون، ففي مساء الأمس جلت كثيرا في شوارع ودروب رام الله، بعد أن حضرت حفلا غنائيا لمطرب فرنسي كبير في السن وشاب في الأداء، بأغاني هادئة على عزف ناعم على الجيتار ومرافقة عزف أكثر نعومة على الكمان، الفنان اسمه "جاك يفارت" بمناسبة الاحتفال "بعيد الفرنكوفوني" كان الحفل بدعوة من المركز الثقافي الفرنسي الذي يشهد له بعهد مديره الجديد السيد فيليب، أنه تمكن من استقطاب عدد كبير من عاشقي الفن والشعر والفنون في أمسيات متعددة، في الوقت الذي تراجع أداء العديد من مراكز محلية كان لها دور لا يخفى في رفعة الثقافة والفن، وإن كنت أشهد لمركز السكاكيني في عهد مديره الجديد الصديق عبد المعطي الجعبة، أنه يحاول العودة إلى سابق عهد السكاكيني، حين كان منارة مشعة للثقافة والفن، ومقصدا لكل من يهتم بالثقافة والأدب والفن والموسيقى، والحقيقة ورغم البعض من الملاحظات حول نشاط المركز الثقافي الفرنسي الألماني، والتي سمعت بعضها وقرأت بعضها من خلال مقالات لكتاب أحترمهم، إلا أني أحب أن أشير أن التبادل الثقافي بين الدول يتركز عادة من خلال هذه المراكز، وبالتأكيد أن كل دولة تحاول أن تنشر أو تُعَرف عن ثقافتها، والجمهور الواعي هو من يمكنه أن يميز الغث من السمين، أما الدعوات لمقاطعة برامج ثقافية وفنية بناء على موقف سياسي لهذا السياسي أو ذاك، فأراه موقفا قاصراً ولا يسعى إلا إلى زيادة عزلتنا عن العالم، وبدلا من أن نلوم الغير فالأجدر أن نلوم أنفسنا على قصورنا، وأذكر في الأمسية الشعرية للصديق عبد السلام العطاري والتي غصت بالجمهور في المركز الثقافي الفرنسي، أنه وقبل أن يبدأ بإلقاء قصائده أنه قال: إننا وإذ نقدر فرنسا على وقوفها في وجه النازية، وعلى العديد من مواقفها الطيبة مع قضيتنا الوطنية، إلا أننا نستغرب وندين موقف فرنسا بدعوة إسرائيل لتكون ضيف شرف في معرض كتاب في باريس، ورد مدير المركز قائلا: ونحن نتفهم موقفكم وفلسطين ستدعى لتكون ضيف شرف بأكثر من مناسبة قادمة أيضاً، وهذا دلالة أنه يمكن من خلال هذه الأمسيات لشعراء وكتاب أن يبرزوا الدور النضالي لشعبنا وأن يعلنوا عن مواقفهم، وبالتالي يمكننا أن نكسب العديد من الأصدقاء في العالم، وفي أمسية العطاري الشعرية حين القى قصيدته "دوثان" قام بالشرح الكامل عن تاريخ دوثان وارتباطه بفلسطين منذ عهد كنعان قبل أن يلقي قصائده التي ترجمت للفرنسية أيضا، كما ترجم كلامه للفرنسية بحضور عدد كبير من الفرنسيين وحملة الجنسيات الأخرى.
في الأربعاء الماضي لم يطاوعني قلمي لكتابة مقالي الأسبوعي، فالظروف النفسية التي خلفتها محرقة ومجزرة غزة كانت كبيرة، وما زالت غزة تمثل غزة في القلب، ومجازر العدو تتنقل من مدينة لأخرى، فمن غزة إلى بيت لحم إلى نابلس وجنين، ولا تكاد مدينة ترتاح من الاقتحامات شبه اليومية لجيش الاحتلال، فمن طولكرم إلى رام الله وقلقيلية والخليل، المعاناة واحدة والألم واحد يمتد من غزة إلى الضفة، وما زال ساستنا يتناحرون ويختلفون، فهل سنجد الترياق في بلح اليمن بعد أن افتقدناه في عنب الشام؟.
أسئلة تجتاح الروح في هذا الصباح الباسم بالأمل والحياة، وإن لم أستطع الكتابة فقد كانت فرصة أخرى باستضافة صديقنا "يحي حسن" المذيع في صوت العرب من القاهرة في ربوع رام الله، وترتيب لقاءات له على قدر من الأهمية، فهو كما قال: يريد أن يعيش مع الناس ويستمع منهم ويسجل لهم ما يتحدثون به، ففي الخارج لا يكاد يغطي الإعلام إلا صورة الجوع والخلاف والصراع والقتل، ولا أحد يتحدث عن شعب رغم النار والموت يخلق الحياة والفرح، فشُغلت معه ثلاثة أيام تمنيت لو طالت، فالكثير الكثير من مناحي الحياة ما زال مجهولا للإعلام ومن هم خارج الوطن.
رغم انشغالي الكبير هذه الأيام بالعمل ومحاولة انجاز ما يمكن انجازه، إلا أني ما زلت احلم بيوم لقائي مع "عماني" والأهل هناك بعد هذا الغياب الطويل، فما زالت هويتي كما الآلاف تحت رحمة مزاجية الاحتلال، وما زلت كما غيري أنتظر، والأبناء الذين ولدوا وعاشوا بعيدا عن الوطن، لا يكفون عن السؤال: متى ستحضر ونراك، وهذه المسألة تؤرقني كثيرا، فأنا بعد اعتيادي عبر ما يقارب أحد عشر عاما على أسري الإجباري في رام الله، أشعر بالرهبة من القادم، وقد أشرت لذلك سابقا حين شبهت الحالة بحالة السجين الذين طال سجنه، لكنه وبمقدار شوقه للحرية يخشى منها، وقد كتبت لي صديقة من أقاصي وطننا العربي تقول في بعض ما كتبت عن رهبتي هذه: "ولأننا لا نبتغي التفكير في هذا المنتظر الآتي، إلى حين يباغتنا بما يشاء وحين ما يشاء، لنبقي ذاك الفرح يشهر في وجه المجهول، بالصباحات التي تفيض جمالا، حتى حين يؤجل الفرح الحزن أو حين يؤجل الحزن الفرح، حتى حين يلتقيان ليتشابكا في إحساس واحد، فنسأل: ما الشيء الذي سيفرحنا؟ ما الشيء الذي سيضنيننا؟ هو هذا الإحساس بالخوف، الخوف من المجهول أو من أن تؤذى مشاعرنا، حين تصفعنا مفاجآت لا نكون وضعنا لها أي حسبان، ممكن أن تكون الحرية عقوبة حين تخرجنا من طمأنينة ما، لكن تظل زياد يحمل الفرح أين ما وليت وجهك، سوى إلا أن تشظيك جهة ما، وفي كل الأحوال من يحمل الإنسان داخله هو القادر أن يحمل ذاكرة كلها وطنا وقلبا، وقلبك يسعى لاستقبال أي منتظر، سيكون لا محالة صباحا أجمل كصباحات رام الله، التي بدأت اعرفها صورا وأشجارا ومطرا وثلجا وربيعا، ستطل الخضرة من جديد وستظل العصافير تحوم في مكانها متى افتقدت روحك البيضاء، من يحمل كل هذا العشق داخله والإحساس الراقي للحياة لا يمكن أن تتشظى روحه".
هذا الإحساس الذي ينتابني من فكرة الحرية والسفر، يعيدني إلى ذلك الوقت الذي اضطررنا فيه لمغادرة الوطن بعد حرب حزيران للعام سبع وستين، فرغم أني كنت لم أتجاوز الثانية عشرة من عمري إلا بشهور قليلة، إلا أن ذاكرتي لم تنسى تلك الرهبة والألم ونحن نغادر رام الله بالقليل من حوائجنا، نرى في الطريق العربات العسكرية والمدنية المدمرة بفعل الحرب وقسوة الاحتلال، ومشاهدتنا لسيارة والدي وقد سحقتها الدبابات وزنرها الرصاص على أطراف مخيم عقبة جبر في أريحا، ووقوفنا ليومين في شمس الأغوار الحارقة بأوامر الاحتلال البشع، قبل أن نمر عبر الجسر المهدوم بغارة جوية إلى الضفة الأخرى، وأنا أقف في المسافة الأخيرة وقلبي يشتعل أني أغادر رام الله والوطن إلى فترة لا يعلم إلا الله مدتها، فترة طالت ثلاثون عاما حتى عدت ضمن من عادوا بالاتفاق التي عقدته القيادة الفلسطينية مع الاحتلال، وأجد نفسي رهينة رام الله رافضا مغادرتها رغم كل الضغط من جانب، والمغريات من جانب آخر، ورغم فرحة اللقاء بالوالد في عمان بعد أن عشنا فترة لا نعلم عنه شيئا، ورغم فرحة اللقاء بالجد الحنون والأقارب وأصدقاء طفولة المخيم، إلا أن الغصة لم تفارقني طوال تلك الأعوام جميعها حتى عدت إلى رام الله، رغم عشقي الكبير لمحبوبتي عمان التي لم أتخلى عن حبها حتى في أقسى الظروف التي عشتها فيها، فعمان ورام الله كنت احملهما في قلبي أينما ذهبت وحللت، في معتقل أو منفى أو سفر، ولا أظن يوما أني سأتخلى عن إحداهما.
صباحك أجمل يا رام الله التي أعشق، صباحك أجمل يا عمان التي أحب وأشتاق، صباحك أجمل يا طيفي الشقي الحلو يا ربيع خريف عمري ويا حروفي الخمسة المنـزرعة في القلب، فاللقاء أصبح قريب والحلم يوشك أن يتحقق، صباحك أجمل يا أمي التي صبرت كثيرا وتحملت الكثير مع أبنائها، وأنت تجولين بين معتقلات ومنافي وقواعد ضمت أبناؤك الأربعة الكبار، فما أن ترتاح روحك بالاطمئنان عن واحد منا إلا وأنت تعانين مع آخر، وقلبك يتمزق مابين حصار بيروت وابنين هناك، وحصار طرابلس وابن محاصر، واجتياح رام الله وأسر ابنين، ومعتقلات عديدة لم تترك منا واحد لم تضمه بين قضبانها، حتى تركت ندبات الألم والتعب والزمن أثارها عليك، فأصبحت نزيلة المشفى منذ شهرين أو يزيد، تحلمين باللحظة التي ألقاك بها بعد غياب أحد عشر عاما، فلك الشفاء ولك القدسية يا أمي الصابرة كما أمهات شعبنا.
ما زالت الحمائم والعصافير تغني بفرح، وقرنفلة قرمزية متبرعمة بحوض أزهاري، تجدد روحي وأملي الأجمل، وفيروز تشدو:
"جسر العودة، يا جسر الأحزان أنا سميتك جسر العودة، المأساة ارتفعت، اتسعت، وسعت، سطعت، بلغت حد الصلب، من صلبوا كل نبي صلبوا الليلة شعبي، العاثر ينهض، النازح يرجع، والمنتظرون يعودون وشريك الخيمة يرجع، يدخل ألاف الأطفال من كبروا الليلة في الخارج، حدود البحر من الخارج، ارجع بالعتمة معهم نصمد ونقاتل لا نرحل ونقيم كشجر لا يرحل، تقفون كشجر الزيتون كجذوع الزمن تقيمون كالزهرة كالصخرة في أرض الدار تقيمون، لهم الشمس ولهم القدس والنصر وساحات فلسطين".
صباحكم أجمل.
رام الله المحتلة
"بعدستي الشخصية"
صباح الدفء والحنان يا رام الله، صباحك أجمل وأنت تمنحين الشمس قبلة الفجر الجديد، وتحلمين بصباح أجمل وأبهى، صباحك جميل كما أنت في غاية الجمال، صباحك رقيق وناعم تشدو فيه الحمائم والعصافير على نافذتي، رغم لسعات برد آذار يبقى لرام الله صباح جميل ومساء له نكهة خاصة، ففي الحالتين يكون لهدوء الشوارع رونقا خاصا، ولكن الصباح بهدوئه يبقى الأجمل، أما المساء في رام الله فله طعم تستر العاشق عن العيون، ففي مساء الأمس جلت كثيرا في شوارع ودروب رام الله، بعد أن حضرت حفلا غنائيا لمطرب فرنسي كبير في السن وشاب في الأداء، بأغاني هادئة على عزف ناعم على الجيتار ومرافقة عزف أكثر نعومة على الكمان، الفنان اسمه "جاك يفارت" بمناسبة الاحتفال "بعيد الفرنكوفوني" كان الحفل بدعوة من المركز الثقافي الفرنسي الذي يشهد له بعهد مديره الجديد السيد فيليب، أنه تمكن من استقطاب عدد كبير من عاشقي الفن والشعر والفنون في أمسيات متعددة، في الوقت الذي تراجع أداء العديد من مراكز محلية كان لها دور لا يخفى في رفعة الثقافة والفن، وإن كنت أشهد لمركز السكاكيني في عهد مديره الجديد الصديق عبد المعطي الجعبة، أنه يحاول العودة إلى سابق عهد السكاكيني، حين كان منارة مشعة للثقافة والفن، ومقصدا لكل من يهتم بالثقافة والأدب والفن والموسيقى، والحقيقة ورغم البعض من الملاحظات حول نشاط المركز الثقافي الفرنسي الألماني، والتي سمعت بعضها وقرأت بعضها من خلال مقالات لكتاب أحترمهم، إلا أني أحب أن أشير أن التبادل الثقافي بين الدول يتركز عادة من خلال هذه المراكز، وبالتأكيد أن كل دولة تحاول أن تنشر أو تُعَرف عن ثقافتها، والجمهور الواعي هو من يمكنه أن يميز الغث من السمين، أما الدعوات لمقاطعة برامج ثقافية وفنية بناء على موقف سياسي لهذا السياسي أو ذاك، فأراه موقفا قاصراً ولا يسعى إلا إلى زيادة عزلتنا عن العالم، وبدلا من أن نلوم الغير فالأجدر أن نلوم أنفسنا على قصورنا، وأذكر في الأمسية الشعرية للصديق عبد السلام العطاري والتي غصت بالجمهور في المركز الثقافي الفرنسي، أنه وقبل أن يبدأ بإلقاء قصائده أنه قال: إننا وإذ نقدر فرنسا على وقوفها في وجه النازية، وعلى العديد من مواقفها الطيبة مع قضيتنا الوطنية، إلا أننا نستغرب وندين موقف فرنسا بدعوة إسرائيل لتكون ضيف شرف في معرض كتاب في باريس، ورد مدير المركز قائلا: ونحن نتفهم موقفكم وفلسطين ستدعى لتكون ضيف شرف بأكثر من مناسبة قادمة أيضاً، وهذا دلالة أنه يمكن من خلال هذه الأمسيات لشعراء وكتاب أن يبرزوا الدور النضالي لشعبنا وأن يعلنوا عن مواقفهم، وبالتالي يمكننا أن نكسب العديد من الأصدقاء في العالم، وفي أمسية العطاري الشعرية حين القى قصيدته "دوثان" قام بالشرح الكامل عن تاريخ دوثان وارتباطه بفلسطين منذ عهد كنعان قبل أن يلقي قصائده التي ترجمت للفرنسية أيضا، كما ترجم كلامه للفرنسية بحضور عدد كبير من الفرنسيين وحملة الجنسيات الأخرى.
في الأربعاء الماضي لم يطاوعني قلمي لكتابة مقالي الأسبوعي، فالظروف النفسية التي خلفتها محرقة ومجزرة غزة كانت كبيرة، وما زالت غزة تمثل غزة في القلب، ومجازر العدو تتنقل من مدينة لأخرى، فمن غزة إلى بيت لحم إلى نابلس وجنين، ولا تكاد مدينة ترتاح من الاقتحامات شبه اليومية لجيش الاحتلال، فمن طولكرم إلى رام الله وقلقيلية والخليل، المعاناة واحدة والألم واحد يمتد من غزة إلى الضفة، وما زال ساستنا يتناحرون ويختلفون، فهل سنجد الترياق في بلح اليمن بعد أن افتقدناه في عنب الشام؟.
أسئلة تجتاح الروح في هذا الصباح الباسم بالأمل والحياة، وإن لم أستطع الكتابة فقد كانت فرصة أخرى باستضافة صديقنا "يحي حسن" المذيع في صوت العرب من القاهرة في ربوع رام الله، وترتيب لقاءات له على قدر من الأهمية، فهو كما قال: يريد أن يعيش مع الناس ويستمع منهم ويسجل لهم ما يتحدثون به، ففي الخارج لا يكاد يغطي الإعلام إلا صورة الجوع والخلاف والصراع والقتل، ولا أحد يتحدث عن شعب رغم النار والموت يخلق الحياة والفرح، فشُغلت معه ثلاثة أيام تمنيت لو طالت، فالكثير الكثير من مناحي الحياة ما زال مجهولا للإعلام ومن هم خارج الوطن.
رغم انشغالي الكبير هذه الأيام بالعمل ومحاولة انجاز ما يمكن انجازه، إلا أني ما زلت احلم بيوم لقائي مع "عماني" والأهل هناك بعد هذا الغياب الطويل، فما زالت هويتي كما الآلاف تحت رحمة مزاجية الاحتلال، وما زلت كما غيري أنتظر، والأبناء الذين ولدوا وعاشوا بعيدا عن الوطن، لا يكفون عن السؤال: متى ستحضر ونراك، وهذه المسألة تؤرقني كثيرا، فأنا بعد اعتيادي عبر ما يقارب أحد عشر عاما على أسري الإجباري في رام الله، أشعر بالرهبة من القادم، وقد أشرت لذلك سابقا حين شبهت الحالة بحالة السجين الذين طال سجنه، لكنه وبمقدار شوقه للحرية يخشى منها، وقد كتبت لي صديقة من أقاصي وطننا العربي تقول في بعض ما كتبت عن رهبتي هذه: "ولأننا لا نبتغي التفكير في هذا المنتظر الآتي، إلى حين يباغتنا بما يشاء وحين ما يشاء، لنبقي ذاك الفرح يشهر في وجه المجهول، بالصباحات التي تفيض جمالا، حتى حين يؤجل الفرح الحزن أو حين يؤجل الحزن الفرح، حتى حين يلتقيان ليتشابكا في إحساس واحد، فنسأل: ما الشيء الذي سيفرحنا؟ ما الشيء الذي سيضنيننا؟ هو هذا الإحساس بالخوف، الخوف من المجهول أو من أن تؤذى مشاعرنا، حين تصفعنا مفاجآت لا نكون وضعنا لها أي حسبان، ممكن أن تكون الحرية عقوبة حين تخرجنا من طمأنينة ما، لكن تظل زياد يحمل الفرح أين ما وليت وجهك، سوى إلا أن تشظيك جهة ما، وفي كل الأحوال من يحمل الإنسان داخله هو القادر أن يحمل ذاكرة كلها وطنا وقلبا، وقلبك يسعى لاستقبال أي منتظر، سيكون لا محالة صباحا أجمل كصباحات رام الله، التي بدأت اعرفها صورا وأشجارا ومطرا وثلجا وربيعا، ستطل الخضرة من جديد وستظل العصافير تحوم في مكانها متى افتقدت روحك البيضاء، من يحمل كل هذا العشق داخله والإحساس الراقي للحياة لا يمكن أن تتشظى روحه".
هذا الإحساس الذي ينتابني من فكرة الحرية والسفر، يعيدني إلى ذلك الوقت الذي اضطررنا فيه لمغادرة الوطن بعد حرب حزيران للعام سبع وستين، فرغم أني كنت لم أتجاوز الثانية عشرة من عمري إلا بشهور قليلة، إلا أن ذاكرتي لم تنسى تلك الرهبة والألم ونحن نغادر رام الله بالقليل من حوائجنا، نرى في الطريق العربات العسكرية والمدنية المدمرة بفعل الحرب وقسوة الاحتلال، ومشاهدتنا لسيارة والدي وقد سحقتها الدبابات وزنرها الرصاص على أطراف مخيم عقبة جبر في أريحا، ووقوفنا ليومين في شمس الأغوار الحارقة بأوامر الاحتلال البشع، قبل أن نمر عبر الجسر المهدوم بغارة جوية إلى الضفة الأخرى، وأنا أقف في المسافة الأخيرة وقلبي يشتعل أني أغادر رام الله والوطن إلى فترة لا يعلم إلا الله مدتها، فترة طالت ثلاثون عاما حتى عدت ضمن من عادوا بالاتفاق التي عقدته القيادة الفلسطينية مع الاحتلال، وأجد نفسي رهينة رام الله رافضا مغادرتها رغم كل الضغط من جانب، والمغريات من جانب آخر، ورغم فرحة اللقاء بالوالد في عمان بعد أن عشنا فترة لا نعلم عنه شيئا، ورغم فرحة اللقاء بالجد الحنون والأقارب وأصدقاء طفولة المخيم، إلا أن الغصة لم تفارقني طوال تلك الأعوام جميعها حتى عدت إلى رام الله، رغم عشقي الكبير لمحبوبتي عمان التي لم أتخلى عن حبها حتى في أقسى الظروف التي عشتها فيها، فعمان ورام الله كنت احملهما في قلبي أينما ذهبت وحللت، في معتقل أو منفى أو سفر، ولا أظن يوما أني سأتخلى عن إحداهما.
صباحك أجمل يا رام الله التي أعشق، صباحك أجمل يا عمان التي أحب وأشتاق، صباحك أجمل يا طيفي الشقي الحلو يا ربيع خريف عمري ويا حروفي الخمسة المنـزرعة في القلب، فاللقاء أصبح قريب والحلم يوشك أن يتحقق، صباحك أجمل يا أمي التي صبرت كثيرا وتحملت الكثير مع أبنائها، وأنت تجولين بين معتقلات ومنافي وقواعد ضمت أبناؤك الأربعة الكبار، فما أن ترتاح روحك بالاطمئنان عن واحد منا إلا وأنت تعانين مع آخر، وقلبك يتمزق مابين حصار بيروت وابنين هناك، وحصار طرابلس وابن محاصر، واجتياح رام الله وأسر ابنين، ومعتقلات عديدة لم تترك منا واحد لم تضمه بين قضبانها، حتى تركت ندبات الألم والتعب والزمن أثارها عليك، فأصبحت نزيلة المشفى منذ شهرين أو يزيد، تحلمين باللحظة التي ألقاك بها بعد غياب أحد عشر عاما، فلك الشفاء ولك القدسية يا أمي الصابرة كما أمهات شعبنا.
ما زالت الحمائم والعصافير تغني بفرح، وقرنفلة قرمزية متبرعمة بحوض أزهاري، تجدد روحي وأملي الأجمل، وفيروز تشدو:
"جسر العودة، يا جسر الأحزان أنا سميتك جسر العودة، المأساة ارتفعت، اتسعت، وسعت، سطعت، بلغت حد الصلب، من صلبوا كل نبي صلبوا الليلة شعبي، العاثر ينهض، النازح يرجع، والمنتظرون يعودون وشريك الخيمة يرجع، يدخل ألاف الأطفال من كبروا الليلة في الخارج، حدود البحر من الخارج، ارجع بالعتمة معهم نصمد ونقاتل لا نرحل ونقيم كشجر لا يرحل، تقفون كشجر الزيتون كجذوع الزمن تقيمون كالزهرة كالصخرة في أرض الدار تقيمون، لهم الشمس ولهم القدس والنصر وساحات فلسطين".
صباحكم أجمل.
رام الله المحتلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق