سامي العامري
---------
حديث مع رَبّة الشفاء
ما زال نداءٌ في سحيق أغواري :
مَهما تضافَرَتْ مآسي العُمْرِ هنا
ومَهما افتَنَّتْ أفانينُها فلا تَعُدْ
وإنْ عُدتَ فخاطِراً او صلاةً فحسب
فاشْهَدي أيتها الغيومُ النازفِةُ كألفِ قلب
وها هو رُبْعُ قرنٍ
على اندلاعِ مَنفاي
وما زالَ يهتف :
يا ذوي الكيان الضئيل
حين تَتَهيَّبون من دافع البسمة في الوجود
سيفكرُ أنْ يعود !
-------------
مع انفلاتِ آخر نور من الشمس وتمددهِ كالغيمة ومن ثم تَفَرُّقه كان المغيب يعلن عن شروقٍ آخرَ ثَناهُ على الأرض قدومُ الربة وعن يمين نافذة المستشفى طائر ناعسٌ يستيقظ لامعاً كالرمح ويوقظ ما حوله لأسمع حفيفاً ورفيفاً ففي هذا الطقس لا شيء ينبغي له أن ينام .
قالت مبتسمة : استقبلتْني كلماتك فأجفلتُ !
قلتُ : كنتُ أقرأ لكاتبٍ يُصرِّح بأنَّ الإنسان في بلده لديه خبرة في كل شؤون الدنيا إلاّ في الغربة فهذا الإنسان عاشق لتربتهِ ولم تقسُ الأزمات السياسة فتضطره للنزوح ومن المصادفات الحسنة أنه لم تكن هناك كوارث طبيعية كبيرة تضغط باتجاه الهجرة , فتذكرتُ إنسان بلدي فقد قال عنه العديد من الكتاب ما هو قريب من هذا وأعني حبه للعيش في أرضه مع فارق أن بلدي لم تبارحه الأزمات السياسية عِبْر تأريخهِ قَط ففكرتُ هل هذا راجعٌ الى عشقهِ لأرضه ام الى عشقه للأزمات !
قالت الربة : كلاهما يمكن أن يكون صحيحاً وقد يكون السبب أن حبه لأرضه يدفعه لتحمل مصاعبها وأزماتها.
قلتُ : هذا تأريخياً أما الآن فالسمة الغالبة هي المنفى والهجرة وهذا يعني أنَّ تحولاً كبيراً طرأ على نفسية هذا الإنسان حتى رحتُ أسأل العكس : هل هذا راجع الى عشقهِ للهجرة ام الى عشقه لأزمات هذه الهجرة !؟ الأسئلة من هذه الناحية كثيراً ما تكون صعبة ومدوخة ثم هناك المثقف المنفي في الداخل والخارج وشعور البعض بوجود مَنافٍ أخرى ... الخ ,
قالت الربة بثقةٍ : كلما ازداد وعيك ازداد نفيك .
قلتُ : جميل وصائب وبالنسبة لي عدا صباي لم أعرف شيئاً عن الراحة في الوطن , انا أنتمي الى إنسانهِ الذي ما أن فتح عينيه على الدنيا وهي تتألق في شبابه المبكر حتى خاطتهما الحرب بخيوط الدخان فهو أعمى ولا يرى إلاّ ظلمة الخنادق , ومسمعُهُ تعوَّد على أن يحسب كل موسيقى سوى أزيز الرصاص نشازاً وحتى استطعتُ أن أغنّي أغنية غير شاكية توجَّبَ عليَّ أن أُمرِّن حنجرتي لسنواتٍ طويلة على تقليد كل الأصوات التي فقدتها منذ صباي كهزيم الرعد وشدو البلابل ونثيث المطر !
سألتْ الربة بصوتٍ يحفُّه البِشْر : وماذا تقول في الغناء ؟
قلتُ : الشكوى في الغناء تكون دافئة ومحببة حين تنطلق من نفسٍ تغمرها السكينة
أمّا الشكوى من القدر الذي جعلك تولد في هذا الوطن بالذات فهي ليست شكوى وإنما تمزُّقٌ وهذا ما عشته وعاشه كثيرون .
انا حقيقيةً كثير التفكير ببلدي أمّا الحنين له فهو شيء رائع ولكنه لا يحملني إلاّ في مناخات محددة واذا حملني فلا يبرحني إلاّ وقد ألقى في أحضان روحي قصيدة :
وأرى الهوانَ
يعلِّمُ الحَجَرَ الطِعانَ !
يثيرني فانا المُخَيَّرُ
والعذابُ هو الخيارْ !
فرميتُ أحقابي ورائي
مثلَ أكوازٍ من الفَخّارْ
وأتيتُ حُورَ مدينتي
ومرَرْتُ من خَلَلِ السِّوارْ !
قد أرتجي قنصَ الهواءْ
او أشتهي من يائسٍ بعضَ الغناءْ
هو ذا فؤادي لا يبارحُ وهمَهُ
لكنهُ ذو حُجَّةٍ
فلطالما في وهمهِ قاد الحَيارى
كالأسارى
نحو أوكار الضياءْ !
-----------
قالت الربة : أفهمُ من مقطعك الأول حول النداء في أغوارك أن شكواك محصورة بأناسٍ معينين .
قلتُ مؤكِّداً : نعم إنني لا أشكو من الوطن .
قالت : أراك ترتجف .
إبتسمتُ قائلاً : لا بسبب ضعفٍ وإنما هيبة ضيائك ! انا لا أعرف مَن انا إلاّ معك حتى أحس أحياناً بصدقٍ كلما تأملتُ في حياة البشر بأنني زائد عن الحاجة !
علَّقتْ بودٍّ : ليكُنْ ! فهذا أفضل بكثير من أن يكون البشر بحاجة ماسة اليك فيتحولَ حنينك الطبيعي الى أشيائك الأثيرة الى حنينٍ لسلامة أعصابك !
قلتُ : ربما , وقد أغض النظر عن هذا لكنْ حقيقةً أرى فرقاً شاسعاً بين أولويات الناس عندنا قبل عقود عديدة وبين أولوياتهم منذ ارتطامهم بصخرة الحروب المتكررة وانا أتحدث عن الكثير من أبناء بلدي الذين ينتمون لهذا الجيل , فما من قاسم مشترك بينهم إلا الحيرة .
قالت الربة : دائماً في أوقات الحروب وما بعدها ينشأ جيل يحتاج الى أجيال حتى يستعيد توازنه ! فتظهر إثر ذلك أنماط من العلاقات وحتى الطبائع تتصف أحياناً بالريب , بالحيرة وهذه الحيرة قد توصلهم الى اللامبالاة وهذا راجع أساساً لرؤيتهم الموت وجهاً لوجه فلم يعد لديهم ما يخافونه بعد أن تنفسوا الموت وتقاسموه لسنواتٍ وسنواتٍ كالزاد . إنهم أحوج ما يكونون الى مَن يعيد لهم الدهشة .
حلَّ وقت تناول طعام العشاء , لم أنتبه لتساقط المطر ووجوب إغلاق النافذة إلاّ عندما ربَّتَ على كتفي زميلٌ مستغرباً من عدم شعوري بالبلل الذي راح يلامس يدي وثيابي :
وهل ألقاكَ مُغتَسِلاً بلا ذنْبٍ
وكلُّ خطيئةٍ ذكرى ؟
قطعتُ اليكَ أجيالاً من الفَلَواتِ
يندى صُدْغُها جَمرا
وما من صخرةٍ إلاّ امتطتْها لهفتي مُهْرا
انا لم يبقَ لي ماضٍ
سوى التحديقِ في الرُّقَمِ
انا لم يبقَ لي زمنٌ سوى الكاساتِ في الظُّلَمِ !
انا لم يبقَ لي أبداً سوى حُلُمي
وأحلمُ ,
والكواكبُ مثل مِسبَحةٍ أُقلِّبُها
وتَبنيني المواجِعُ عالياً
هَرَماً على هَرَمِ !
----------------------------
(*) نصٌّ من كتاب يجمع بين القصِّ والنثر الأدبي والشعر يحمل عنوان : حديث مع ربة الشفاء .
----
كولونيا - 2008
alamiri84@yahoo.de
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق