قصة قصيرة
بقلم عيسى القنصل
كان الشارعُ فارغاً الا من بقايا فلول ِ الظلمة ِ الهاربة ِ امام اقدام اول
خيوط الفجر ِ .. وجميع الحوانيت ِ مطبْقة ُ افواهها في صمت هادى ِ ..فرداء الهدؤ
يغطى طولَ الشارع لا يقطعُه سوى صريرُ عجلات ِ لعربة ٍ حديديه تظهرُ خلفهــــا
بين الفينة ِ والاخرى قامة ُ (ابى غازى ) ..اذ كان ينحنى بين أونة واخرى يلتقــــــط ُ
بعض النفايات ِ والنى كان يجمعُها فى مكنسته الخشنْه الطويله ..ثم يسكبهُا بكل ِ هدؤ
وصبر ِ فى قلب ِ لبعربة الحديدية .. ثم يدفعُها امامه قليلا قليلا ليستأنف عملهُ وتنظيفه.
كان الصوت ُ الوحيد ُ فى الشارع صوتُ مكنسته ِ الخشنة ِ والذى اجفلْ
اكثرَ من قطة ِ اوكلب ِ ضال كان يبحثُ في بقايا النفايات عن طعام ما ...قبل َ ان يسمعَ
يناديه ((صباح َ الخير ِ يا ابا غازى .. اترك المكنسة َ قليلا ً .. وهيّا تناول معى كوبـاً
من الشاى )).
اسند عصا المكنسة الى العربةِ ومسح يديّه بسرواله الازرق الممزق وســارَ
نحو الصوتِ مُجُهْدَ الاجفان ِ والجسد ِ
ــ صباح َ الخير ِ يا ابا هانى ...
ــاهلا بك ..أجلس قليلا واسترح ْ ..لقد تاخرتَ اليوم عن موعدك ِ ..اكنتَ نائماً ً ام انك؟
وابتسم ابو هانى ابتسامة َ ذات معنى ..غير ان ابا غازى لم يلتفت اليه ِ انما اصدر مـن
صدرهِ تنهيدةَ حارة وقال : نائماََ َ؟ ايحقُ لامثالنا النوم َ يا اخى .. سامحك الله يا اخـى
لقد كانت ام غازى متوعكةً ً طوال الليل ..لم تنم ْ لحظة َ واحده ..وانشغلت ُ انا بها وفــى الاطفال ..وها انا مرهقُالاجفان ِ والاعصاب ِ ..آه من هذه الحياة .
قال ابو هانى وهو يقدمُ له كوباَ من الشاى ..ليكن ْ الله فى عونك ِ ..اصبر ..
ـــ وهو خير معين ..لا عزاءُ لنا غير صبرنا .
وانقضت لحظات ُ من السهوم ِ على ابى غازى وهو يرتشفُ فنجان الشاى الساخنِ
زحفت خلالها اقدامُ الصباح ِ الى اعماق الشارع ِ فانتبه من غفلتهِ وافرغَ َ بقية الفنجان فى فمه ِ وامسك المكنسة َ ليجرد بها بقية الشارع .
كان طويلُ القامة ِ نحيفُها ..لم يكنْ دميم الشكل ِ او زريّه ْ ..انما تدلُ تجاعيد ُ وجهــــهِ
عن قصة حزن ٍ حديثة ُ التكوين ِ..هو ليس بقديم ِ فى هذا الشارع ِ انما هو حديثُ حداثةُ
جعلتهُ يبدو نشيطا ً ونظيفا ً فى عمله ِ .. فاحبهُ كل تجار الشارع ِ .. اشفقوا على حالته ِ
وتحبب لهم ..فنال َ بعض َ عطاياهم .. فهو اب ُ لعائلة ِ بها حفنة ُ من الصغار ِ تتصارخ
افواههم كلما اطل َ على البيتِ فيوزع ُ عليهم ما جلبه لهم من فواكه او خضروات ......
وتذرف ُ عيناه ُ الدمعة َ اثر الدمعة ِ وهو يراهم يبتسمون بعد الشبع ..ثم يَلْهوْن َ ويلعبون
غيرَ حافلين بالم الكبار ِ وتعبهم .
كم َ فكر فى ترك هذه المهنة ِ والتى ما ظن يوما ً انه سيعمل ُ بها ..(( ولكن ما افعــلُ
امام جوع َ اطفالى ..ان الجوع َ اكبر ُ حجما ً من صرخة ِ كبريائه ))ز
الكل ُ فى الشارع ِ يعرفُ صمته ..ويلمح ُ حزنه ُ الدائم واطراقه ُ الابدى نحو الارض
كأنهُ يخجلُ من النظر فى وجه الغير . .. وثمة ُ دمعة ُ او اكثر مزروعةُ فى ثبات ِ على
أعلى وجنتيه ِ ..كأنها وشم ُ ابدى لا خلاص منه .. تستطيع ُ ان تراها عليه وهو يطلب ُ
منك اجرتهُ الاسبوعيّه ..انهُ ينتظر ُ هبتك ِ واحسانك ِ اليه بصبر وصمت حزين .ومهما
اتعبتهُ فى العمل فانت سامع ُ منه دعواته الحاره لك ..غائرَ العينين من سهره ِ الدائـــم
..يختزنُ كل َ احزان َ العالم فى نظراته ِيمكث طوال النهار فى الشارع التجارى ..صامتا ًينام ُ لحظات طويله على مكنسته ِ والكلُ يحترم ُ تعبه .....استطاع ابو
هانى صاحب المقهى ان يكسر صمته ُ ويزاملهُ.
ــ ما اسرع َ محبةَ َ البسطاءِ لبعضهم ..بعضا .
كان ابو غازى يجلس ُ الى المقهى كلما جال بخاطره كوبا ً من الشاى ..لم يحاول
ابو هانى ان ياخذَ َ منه قرشا َ ..والمقهى يبقى دائما فى نظافة ٍ مقبوله . يجلس ُ فى المقهى يتلمل ُ اللاعبين ..( الله ُ كم هم سعداء هولاء القوم .لا تعب ُ طوال الليل يلعبون الورق َ وطاولا ت الزهر ِ .. لا بد انهم اغنيا ء ترى هل يتاحُ
لى ان اشاركهم اللعب َ مرة ً واحدة ً ؟.. كأن يتاملهم ويتمنى فى قرارة ِ نفســـــــه
ان يجلس معهم لاعبا ً مرة واحدة لكى يشعر َ بلذة ِ ماضيه ..ان يجلس َ الى طاولة ِ
ما ..يصفق ُ فى يديه ِ ويطلب ُ شايا ً او اركيلة َ كما كان يفعلُ ايام زمان فى (اريحا)..كان فى ماضيه ِ احسن َ حالا ً منهم جميعا ً ..(( كنتُ اشفق ُ على المساكين ..امنحنهم ُ بعض َ العطاء ..( واريحا ) شاهدةُ على ذلك .. هى ليست بعيدة عنه ُ لو اغلق َ عينيه لاستراح فى بيتهِ هناك ..وسار فى شوارعها الفارعة
الطويلة ِ ..واسند ابو غازى رأسه على عصى مكنسته .......
كان متجرهُ المتجول ُ يسيرُ دائما امامه على عجلات اربع ..يدفعهُ من شارع ِالى
اخر واضعا فوقهُ اصنافاً من السندويشات ِ والمرطبات ..يربح ُ كل يومً مبلغا ً مـن
المال ِ يرضى بساطته ُ يسكنُ فى بيتِ بسيط عادى فى (اريحا)..وكم كان يشعـــرُ
في السعادة ِ حين يرى تدفق ُ الطالبات والطلاب حول عربتهِ كل ُيريدُ رغيفــــــا
او زجاجة كولا ..لم يكن يبخلُ عليهم بالرغيف .. فهو كريمُ يكتفى بالربحِ القليــلِ
..في الصباح الباكر يذهب ُ الى الفرن القريب من بيته ِ ياخذ ُ منه أرغفتــــــــــه
ثم يعرج ُ على
سوق ِ الخضار ِ يبتاع ُ البطاطا والبندوره ..وياخذُ من ام غازى
عجنة الفلافل ..ــــأواه ما كان انشطَ امُّ غازى في تحضير الحمّصِ ِ.. واعدادهُ
للفلافل ..ويسرع فى تحضير عربته ِ وينحدر بها من شارع لآخر ..يعرفُ مواعيد
الاستراحات فى اكثرَ من مدرسة ِ ..يحاولُ ان يجمع َ اكثر من واحدة ِ فالحياة ُ
تتكاثف مطالبهُا لا بدَ من مضاعفة ربحـه ِ ..غازى سيدخل ُ المدرسة ..ومنــــى
الطفلة ُ الجديده بحاجة ِ الى حليب ِ...و ..و..وصورُ لماضيّه تتوارد على ذهنه وهو ممسكُ بعصل مكنسته ِ باصرار وقوة ....
انه يرى كل شىء اكثر واشد وضوحاً ..شوارع اريحا .. المدرسة الثانويه ...وجوهُ
العديد من الطلاب والطالبات ِ (قصر هشام) ..الاشجار الطويلة ..لقد حاول فـــــى
اريحا أن يسير َ مع التطور ِ قليلا قليلا .. وحين خطرت على باله ِ فكرة َ انشا ء
مطعم َ صغيرا َ كانت ام غازى أشدّ حماسة َ منهُ .. باعت له بقيةَ َ ما تحمل ُ من مصاغِِ ِ .. واستدان بعض َ النقود .. وفتح محلا َ بسيطا َ فى مخيم ِ (عقبة جبر ) قرباحدى المدارس ..وبسرعة ِ لم يتوقعها اصبح صاحب مطعم حقيقى ..توسعت
اعماله .. واصبح مطَعَمُه مكانا ً للطلاب والعمال ِ البسطاء .. كان سعيدا ًجداًفى
هذه الحياة الجديده ..وحين اعاد لزوجته ِ مصاغها واعاد للناس الدّين َ ..نمـــــت
أزهار سعادته .. واكتسى غازى بالملابس الجديده .. وهللت (منى ) لعطايـــــا
ابيها المتزايده ..
وقبل ان يكتمل َ البدرُ فى سماءِ سعادته ِ..واذ به مجردُ من كل رداء .. طحنتهُ
نكبة ُ حزيران كحبة ِ قمح ٍ وحيدة ٍ تحت رحى الطاحون ..
كم كان غبياً ككل ابناْ ء جيله ِ ..ما فكّر فى المخّيم الا مكاناً للرزق ِ وليس مكاناً
فيه بشرُ شردتهمُ حرب ُ ما .. ابدا َ لم يفكر يوما في سبب اقامته ِ فى هذا المخيـم
ابداً لم يفكرُ يوما فى زواله او نقله لمكان اخر ..كان همّه ان يكون المعلم َ الوحيد
وان يبحث َ عن مكان رزقهِ فيه .
وداسته ُ الحرب ُ فاذا به يهرب ُ مع الهاربين حمل ما استطاع حمله ُ على عربتهِ
القديوم والتى كان يتجول ُفيها فى شوارع اريحا ..وحمل اولاده ُ وهرب .ولم يجد
عملا سوى عاملا للتنظيفات ِ فى احد الاسواق التجاريه فى عمان .. فالعمل عادى
بلا مهارةِ .. وان كان يطعّنُ فى كرامته ِ ولكنها اصوات ُ اطفاله الجائعة تسحــق ُ
كل كبريائه ِ وتجبُرهُ على اغلاق عيونهِ ... اواه ما اقسى الحقيقةُ حين استلم َ العربة َ الحديديه من (امانة العاصمة ) .. نفس ُ ماضيه يدور ُ ..عربةُ يدور بها من
شارع لاخر لكنه كان بالامس يعطى الناس شيئا ً .. واليوم يجمع من الارض نفاياتهم.... اواه ما اقساك ِ ايتها النكبة ..
ــــ ابا غازى .. ابا غازى ..أراك اليوم على غير عادتك ِ ز قالها ابو هانى وهو
يعطيه ِ كوبا ً اخراً من الشاى ..رشفهُ سريعا ً .. ادرك ان موعد عطايا التجـار
قد اقترب َفلملم بقية الاوساخ .. وركن قليلا يراقب ُ الناس ..وخطرت بباله فكرة ُ
((لماذا لا اعود ُ الى مهنتى الاولى :: ما الفرق ُ بين ماضيه ِ وحاضره ِ .. العربةُ
واحدة ُ وان اختلفت محتوياتها ؟بالامس كنت اعطى ..واليوم ُ اجمع بقاياهم ....
كنت ُ اعطيهم ُ ثم يجمع ُ غيرى ما يلقونه ُ على الارض ِ .. واليوم حولتنى النكبةُ
الى عامل تنظيفات لاجمع َ بقاياهم من الشوارع . حرمتنى النكبة ُ من نعمة العطاء
... لا ..لا المدارس ُ كثيرة ُ وسأجوب ُ مرة اخرى .. وبلا شعور راى نفسه يصيحُ
((ساندويش ..ساندويش .. فلافل ))
وفى المساءِ عندما عاد الى البيت ..كان اول ما قاله ُ لزوجته ِ (( ام ُ غازى....يا
ام ُ غازى ..كيف انت ِ والحمص ُ وعجينة ُ الفلافل ..لقد قررت ُ ان اعود الـــــــى
مهنتى الاولى ... تبسمت ام غازى فى حزن ِ صامت ٍ وتراكضت فى عروقهــــــا
الحماسة ُ والحب ُ والعزاءُ ..شعرت بان يديها قد استراحت بما فيها الكفايـــــــــــة
قالت له (( ولكّن الادوات .. )) اجابها ابو غازى بفخر ِ (( في زوايا هذا العالــم
المزدحم توجدُ بعض الطيبة ِ فى قلوب الناس .. لقد تبرع لي السوق ُ بمعظم مــــا
اريد ..أهم شىء الان العربه . سوف اصلحُها انها بحاجة الى عجلا ت .. بعض من الادهان ..ساصًلحها انا حياتنا بالامس .. والحلم ُ للغد .
ولم يسمع ابو غازى وهو مشغول ُ باصلاح عجلات عربته القديمه ..نشرة َ الاخبارِ ِ حين تضمنت ْ قرارا ً لوزير الصحة ِ بمنع بائعى العربات المتجولة من
ممارسة اعمالهم اعتبارا ً من الغد لاسباب صحيّه .
بقلم عيسى القنصل
كان الشارعُ فارغاً الا من بقايا فلول ِ الظلمة ِ الهاربة ِ امام اقدام اول
خيوط الفجر ِ .. وجميع الحوانيت ِ مطبْقة ُ افواهها في صمت هادى ِ ..فرداء الهدؤ
يغطى طولَ الشارع لا يقطعُه سوى صريرُ عجلات ِ لعربة ٍ حديديه تظهرُ خلفهــــا
بين الفينة ِ والاخرى قامة ُ (ابى غازى ) ..اذ كان ينحنى بين أونة واخرى يلتقــــــط ُ
بعض النفايات ِ والنى كان يجمعُها فى مكنسته الخشنْه الطويله ..ثم يسكبهُا بكل ِ هدؤ
وصبر ِ فى قلب ِ لبعربة الحديدية .. ثم يدفعُها امامه قليلا قليلا ليستأنف عملهُ وتنظيفه.
كان الصوت ُ الوحيد ُ فى الشارع صوتُ مكنسته ِ الخشنة ِ والذى اجفلْ
اكثرَ من قطة ِ اوكلب ِ ضال كان يبحثُ في بقايا النفايات عن طعام ما ...قبل َ ان يسمعَ
يناديه ((صباح َ الخير ِ يا ابا غازى .. اترك المكنسة َ قليلا ً .. وهيّا تناول معى كوبـاً
من الشاى )).
اسند عصا المكنسة الى العربةِ ومسح يديّه بسرواله الازرق الممزق وســارَ
نحو الصوتِ مُجُهْدَ الاجفان ِ والجسد ِ
ــ صباح َ الخير ِ يا ابا هانى ...
ــاهلا بك ..أجلس قليلا واسترح ْ ..لقد تاخرتَ اليوم عن موعدك ِ ..اكنتَ نائماً ً ام انك؟
وابتسم ابو هانى ابتسامة َ ذات معنى ..غير ان ابا غازى لم يلتفت اليه ِ انما اصدر مـن
صدرهِ تنهيدةَ حارة وقال : نائماََ َ؟ ايحقُ لامثالنا النوم َ يا اخى .. سامحك الله يا اخـى
لقد كانت ام غازى متوعكةً ً طوال الليل ..لم تنم ْ لحظة َ واحده ..وانشغلت ُ انا بها وفــى الاطفال ..وها انا مرهقُالاجفان ِ والاعصاب ِ ..آه من هذه الحياة .
قال ابو هانى وهو يقدمُ له كوباَ من الشاى ..ليكن ْ الله فى عونك ِ ..اصبر ..
ـــ وهو خير معين ..لا عزاءُ لنا غير صبرنا .
وانقضت لحظات ُ من السهوم ِ على ابى غازى وهو يرتشفُ فنجان الشاى الساخنِ
زحفت خلالها اقدامُ الصباح ِ الى اعماق الشارع ِ فانتبه من غفلتهِ وافرغَ َ بقية الفنجان فى فمه ِ وامسك المكنسة َ ليجرد بها بقية الشارع .
كان طويلُ القامة ِ نحيفُها ..لم يكنْ دميم الشكل ِ او زريّه ْ ..انما تدلُ تجاعيد ُ وجهــــهِ
عن قصة حزن ٍ حديثة ُ التكوين ِ..هو ليس بقديم ِ فى هذا الشارع ِ انما هو حديثُ حداثةُ
جعلتهُ يبدو نشيطا ً ونظيفا ً فى عمله ِ .. فاحبهُ كل تجار الشارع ِ .. اشفقوا على حالته ِ
وتحبب لهم ..فنال َ بعض َ عطاياهم .. فهو اب ُ لعائلة ِ بها حفنة ُ من الصغار ِ تتصارخ
افواههم كلما اطل َ على البيتِ فيوزع ُ عليهم ما جلبه لهم من فواكه او خضروات ......
وتذرف ُ عيناه ُ الدمعة َ اثر الدمعة ِ وهو يراهم يبتسمون بعد الشبع ..ثم يَلْهوْن َ ويلعبون
غيرَ حافلين بالم الكبار ِ وتعبهم .
كم َ فكر فى ترك هذه المهنة ِ والتى ما ظن يوما ً انه سيعمل ُ بها ..(( ولكن ما افعــلُ
امام جوع َ اطفالى ..ان الجوع َ اكبر ُ حجما ً من صرخة ِ كبريائه ))ز
الكل ُ فى الشارع ِ يعرفُ صمته ..ويلمح ُ حزنه ُ الدائم واطراقه ُ الابدى نحو الارض
كأنهُ يخجلُ من النظر فى وجه الغير . .. وثمة ُ دمعة ُ او اكثر مزروعةُ فى ثبات ِ على
أعلى وجنتيه ِ ..كأنها وشم ُ ابدى لا خلاص منه .. تستطيع ُ ان تراها عليه وهو يطلب ُ
منك اجرتهُ الاسبوعيّه ..انهُ ينتظر ُ هبتك ِ واحسانك ِ اليه بصبر وصمت حزين .ومهما
اتعبتهُ فى العمل فانت سامع ُ منه دعواته الحاره لك ..غائرَ العينين من سهره ِ الدائـــم
..يختزنُ كل َ احزان َ العالم فى نظراته ِيمكث طوال النهار فى الشارع التجارى ..صامتا ًينام ُ لحظات طويله على مكنسته ِ والكلُ يحترم ُ تعبه .....استطاع ابو
هانى صاحب المقهى ان يكسر صمته ُ ويزاملهُ.
ــ ما اسرع َ محبةَ َ البسطاءِ لبعضهم ..بعضا .
كان ابو غازى يجلس ُ الى المقهى كلما جال بخاطره كوبا ً من الشاى ..لم يحاول
ابو هانى ان ياخذَ َ منه قرشا َ ..والمقهى يبقى دائما فى نظافة ٍ مقبوله . يجلس ُ فى المقهى يتلمل ُ اللاعبين ..( الله ُ كم هم سعداء هولاء القوم .لا تعب ُ طوال الليل يلعبون الورق َ وطاولا ت الزهر ِ .. لا بد انهم اغنيا ء ترى هل يتاحُ
لى ان اشاركهم اللعب َ مرة ً واحدة ً ؟.. كأن يتاملهم ويتمنى فى قرارة ِ نفســـــــه
ان يجلس معهم لاعبا ً مرة واحدة لكى يشعر َ بلذة ِ ماضيه ..ان يجلس َ الى طاولة ِ
ما ..يصفق ُ فى يديه ِ ويطلب ُ شايا ً او اركيلة َ كما كان يفعلُ ايام زمان فى (اريحا)..كان فى ماضيه ِ احسن َ حالا ً منهم جميعا ً ..(( كنتُ اشفق ُ على المساكين ..امنحنهم ُ بعض َ العطاء ..( واريحا ) شاهدةُ على ذلك .. هى ليست بعيدة عنه ُ لو اغلق َ عينيه لاستراح فى بيتهِ هناك ..وسار فى شوارعها الفارعة
الطويلة ِ ..واسند ابو غازى رأسه على عصى مكنسته .......
كان متجرهُ المتجول ُ يسيرُ دائما امامه على عجلات اربع ..يدفعهُ من شارع ِالى
اخر واضعا فوقهُ اصنافاً من السندويشات ِ والمرطبات ..يربح ُ كل يومً مبلغا ً مـن
المال ِ يرضى بساطته ُ يسكنُ فى بيتِ بسيط عادى فى (اريحا)..وكم كان يشعـــرُ
في السعادة ِ حين يرى تدفق ُ الطالبات والطلاب حول عربتهِ كل ُيريدُ رغيفــــــا
او زجاجة كولا ..لم يكن يبخلُ عليهم بالرغيف .. فهو كريمُ يكتفى بالربحِ القليــلِ
..في الصباح الباكر يذهب ُ الى الفرن القريب من بيته ِ ياخذ ُ منه أرغفتــــــــــه
ثم يعرج ُ على
سوق ِ الخضار ِ يبتاع ُ البطاطا والبندوره ..وياخذُ من ام غازى
عجنة الفلافل ..ــــأواه ما كان انشطَ امُّ غازى في تحضير الحمّصِ ِ.. واعدادهُ
للفلافل ..ويسرع فى تحضير عربته ِ وينحدر بها من شارع لآخر ..يعرفُ مواعيد
الاستراحات فى اكثرَ من مدرسة ِ ..يحاولُ ان يجمع َ اكثر من واحدة ِ فالحياة ُ
تتكاثف مطالبهُا لا بدَ من مضاعفة ربحـه ِ ..غازى سيدخل ُ المدرسة ..ومنــــى
الطفلة ُ الجديده بحاجة ِ الى حليب ِ...و ..و..وصورُ لماضيّه تتوارد على ذهنه وهو ممسكُ بعصل مكنسته ِ باصرار وقوة ....
انه يرى كل شىء اكثر واشد وضوحاً ..شوارع اريحا .. المدرسة الثانويه ...وجوهُ
العديد من الطلاب والطالبات ِ (قصر هشام) ..الاشجار الطويلة ..لقد حاول فـــــى
اريحا أن يسير َ مع التطور ِ قليلا قليلا .. وحين خطرت على باله ِ فكرة َ انشا ء
مطعم َ صغيرا َ كانت ام غازى أشدّ حماسة َ منهُ .. باعت له بقيةَ َ ما تحمل ُ من مصاغِِ ِ .. واستدان بعض َ النقود .. وفتح محلا َ بسيطا َ فى مخيم ِ (عقبة جبر ) قرباحدى المدارس ..وبسرعة ِ لم يتوقعها اصبح صاحب مطعم حقيقى ..توسعت
اعماله .. واصبح مطَعَمُه مكانا ً للطلاب والعمال ِ البسطاء .. كان سعيدا ًجداًفى
هذه الحياة الجديده ..وحين اعاد لزوجته ِ مصاغها واعاد للناس الدّين َ ..نمـــــت
أزهار سعادته .. واكتسى غازى بالملابس الجديده .. وهللت (منى ) لعطايـــــا
ابيها المتزايده ..
وقبل ان يكتمل َ البدرُ فى سماءِ سعادته ِ..واذ به مجردُ من كل رداء .. طحنتهُ
نكبة ُ حزيران كحبة ِ قمح ٍ وحيدة ٍ تحت رحى الطاحون ..
كم كان غبياً ككل ابناْ ء جيله ِ ..ما فكّر فى المخّيم الا مكاناً للرزق ِ وليس مكاناً
فيه بشرُ شردتهمُ حرب ُ ما .. ابدا َ لم يفكر يوما في سبب اقامته ِ فى هذا المخيـم
ابداً لم يفكرُ يوما فى زواله او نقله لمكان اخر ..كان همّه ان يكون المعلم َ الوحيد
وان يبحث َ عن مكان رزقهِ فيه .
وداسته ُ الحرب ُ فاذا به يهرب ُ مع الهاربين حمل ما استطاع حمله ُ على عربتهِ
القديوم والتى كان يتجول ُفيها فى شوارع اريحا ..وحمل اولاده ُ وهرب .ولم يجد
عملا سوى عاملا للتنظيفات ِ فى احد الاسواق التجاريه فى عمان .. فالعمل عادى
بلا مهارةِ .. وان كان يطعّنُ فى كرامته ِ ولكنها اصوات ُ اطفاله الجائعة تسحــق ُ
كل كبريائه ِ وتجبُرهُ على اغلاق عيونهِ ... اواه ما اقسى الحقيقةُ حين استلم َ العربة َ الحديديه من (امانة العاصمة ) .. نفس ُ ماضيه يدور ُ ..عربةُ يدور بها من
شارع لاخر لكنه كان بالامس يعطى الناس شيئا ً .. واليوم يجمع من الارض نفاياتهم.... اواه ما اقساك ِ ايتها النكبة ..
ــــ ابا غازى .. ابا غازى ..أراك اليوم على غير عادتك ِ ز قالها ابو هانى وهو
يعطيه ِ كوبا ً اخراً من الشاى ..رشفهُ سريعا ً .. ادرك ان موعد عطايا التجـار
قد اقترب َفلملم بقية الاوساخ .. وركن قليلا يراقب ُ الناس ..وخطرت بباله فكرة ُ
((لماذا لا اعود ُ الى مهنتى الاولى :: ما الفرق ُ بين ماضيه ِ وحاضره ِ .. العربةُ
واحدة ُ وان اختلفت محتوياتها ؟بالامس كنت اعطى ..واليوم ُ اجمع بقاياهم ....
كنت ُ اعطيهم ُ ثم يجمع ُ غيرى ما يلقونه ُ على الارض ِ .. واليوم حولتنى النكبةُ
الى عامل تنظيفات لاجمع َ بقاياهم من الشوارع . حرمتنى النكبة ُ من نعمة العطاء
... لا ..لا المدارس ُ كثيرة ُ وسأجوب ُ مرة اخرى .. وبلا شعور راى نفسه يصيحُ
((ساندويش ..ساندويش .. فلافل ))
وفى المساءِ عندما عاد الى البيت ..كان اول ما قاله ُ لزوجته ِ (( ام ُ غازى....يا
ام ُ غازى ..كيف انت ِ والحمص ُ وعجينة ُ الفلافل ..لقد قررت ُ ان اعود الـــــــى
مهنتى الاولى ... تبسمت ام غازى فى حزن ِ صامت ٍ وتراكضت فى عروقهــــــا
الحماسة ُ والحب ُ والعزاءُ ..شعرت بان يديها قد استراحت بما فيها الكفايـــــــــــة
قالت له (( ولكّن الادوات .. )) اجابها ابو غازى بفخر ِ (( في زوايا هذا العالــم
المزدحم توجدُ بعض الطيبة ِ فى قلوب الناس .. لقد تبرع لي السوق ُ بمعظم مــــا
اريد ..أهم شىء الان العربه . سوف اصلحُها انها بحاجة الى عجلا ت .. بعض من الادهان ..ساصًلحها انا حياتنا بالامس .. والحلم ُ للغد .
ولم يسمع ابو غازى وهو مشغول ُ باصلاح عجلات عربته القديمه ..نشرة َ الاخبارِ ِ حين تضمنت ْ قرارا ً لوزير الصحة ِ بمنع بائعى العربات المتجولة من
ممارسة اعمالهم اعتبارا ً من الغد لاسباب صحيّه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق