الاثنين، مارس 26، 2007

الدرجات...


قصة


بقلم : نبيل عودة

- " ليرحمنا الله جميعا، خسارتك يا رافع .. وحياة والدك انزلني قرب الدرج.. آه هنا .. يلعن الموت وايامه، ما تشوف الا الخير يا ابني . كم ادفع لك ؟.. الحمدلله على كل شيء. تفضل يا ابني ,, يرحم الله امواتك . ما عاد قد ما مضى ، اين كنا واين اصبحنا ؟ المرض يهد الحيل .. انها مشيئته ، يختار من يشاء .. ولا نطلب الا رحمته . لماذا الباب يستعصي على الفتح ؟ .. آه ، ما عاد في اليد حيل ، يخلف غليك ويسلم ايديك .. وان شاء الله ما تشوف يوم اسود . هالبلاد من يوم ما تشرد اهلها ما عاد فيها خير .. أيوة .. راح الشباب وما عاد في البدن حيل .. ارحمنا يا رب .. ارحمنا وخلصنا .. وارفق بحالنا "
نزلت من سيارة الاجرة ووقفت تتأمل الدرج الممتد امامها الى الاعلى ، بشيء من الحيرة والاسى .
كانت شمس آب تشوي شيا . أمسكت بدرابزين الدرج والتفتت حولها تبحث عن مساعدة . كيف ستعلو كل هذه الدرجات لوحدها ؟!.. قالت لنفسها " ما في اليد حيلة " .. بحثت عن نسمة هواء تلطف بها عن نفسها من هذة الشمس الملتهبة . فتحت فمها واخذت نفسا عميقا حاولت به ان تبرد عن جسدها الممتلئة طياته بالعرق المتفصد الحار .. وبشيء من الاستسلام لامر مفروغ منه ، صممت على الصعود تاركة امرها لمن في يده الحل والربط..

الدرجة الاولى

على مهلك يا محروسة .. اطلعي درجة درجة .. صحتك على قدها .. كل شيء ولا تعب القلب .. ها .. خذي نفس ولطلعي .. عبئي صدرك بالهواء .. على راحتك .. من يوم ما شفناهم ما شفنا الراحة. انتبهي انتبهي .. تنفسي بعمق .. بعمق شديد . العجلة من الشيطان ، الله يلعنك يا عزرائيل ، ما بتتعب لا من طلوع دراج ولا من نزول دراج . طالع خفيف ونازل مليان . نازل فاضي وطالع حامل . لا هم لك الا الطيبين . خذ عنا اولاد السوء .. يا ربي ابعده عنا .. انت الغفور الرحيم .. انت الجبار المتمكن .. اشملنا بمحبتك ورحمتك يا عالما بالاسرار .هبنا من لدنك قوة . خذ اولاد الحرام .. ذهب الخير يوم جاءوا . خذي نفسك وعلى مهلك .. ايوه ..

الدرجة الثانية

الطبيب قال لك نزلي وزنك .. وانت يا محروسة بطنك فابركة .. ماكينة شغالة ليل نهار . يقبر الطب واللي اخترعوه .. هل نعيش بالحرمان حتى نرضي الطب والاطباء ؟ حتى لذة الاكل يستكثرونها علينا بعد ان فقدنا لذة الشباب . أيام زمان عاشوا فوق الميت سنة، وما عرفوا مرضا .. كانوا يطحنون الصخر ولا يشكون من الم الاضراس. لا يعرفون اوجاع المعدة ولا عسر الهضم . احترعوا الدواء ومرمروا اجسامنا وحياتنا به . حياة والدك كان ينطح جرة عسل وعمره ما قال شبعت .. ولا قال أخ .
عسل ايام زمان كان عسلا .. واليوم يا حسرة صار سكرا !!
من يوم ما شفناهم راح الخير .. الدنيا ما عاد فيها خير .. دوسي على عزرائيل .. ها..

الدرجة الثالثة

( مرمر زماني يا زماني مرمر )
عزرائيل مرمر ايامنا .. جاء بركابهم وقعد .. يصول ويجول دون وجل من حساب . هل صارت رقابنا رهن اشارته ؟
آه يا ام رافع يا مسكينة .. ماذا اقول لك ؟!
جئنا للتعزية .. حياة زفت . الموت دابك نهش بالبشر . شباب مثل ليرات الذهب يخطفها عزرائيل في غمضة عين . ماذا ستقولين لامه المسكينة ؟.. اعتمدي على الله يا ام رافع ..يا نحس ابعد عنا .. تفو على عزرائيل .. تفو عليه اعمى البصر والبصيرة .. هناك من هم احق بالموت والحرق . مرمروا ايامنا ولاد الحرام .
مصيبتك لا تحتمل يا ام رافع ... يا عاقلة، يا خدومة ، يا كريمة . تفو على عزرائيل .. الف تفو عليه وعلى ايامه .
على مهلك .. خذي نفسك .. ونفسا آخر اكثر عمقا يا محروسة . املأي صدرك بالهواء . . وعلى راحتك ..
اصعدي ، ايوه .. الله معك ..

الدرجة الرابعة

مات الخاير وترك اطفالا مثل العيدان الخضراء . القلب قتله .. قاتل الله الامراض .. عرض وطول ووجه مدور مثل القمر .. كل ام كانت تطمع بعريس مثله لابنتها .لا ينفع اللطم يا ام رافع .. اولاده صغار وبحاجة اليك .. دنيا لا تخضع الا للقوي .. وبعدنا عم نقول مشيئة الله ؟ هل مشيئته حقا تيتم اولاده وهم اطفال بحاجة الى رعايته ؟ ترميل زوجته وهي صبية بحاجة الى صدر يحميها ؟ ونقول الموت حق ؟ طز في هيك حق . حياة لا تسوى .. آه يا صدري .. قال مشيئة الله ؟ يلعن الدرج واللي يحبوه .يقطع النفس ويوجع القلب . . والواحد ما عاد فيه مروة .. يا ساتر .. كله من الاكل اللي يخترعوه .. خيار على شجر .. وبندورة على شجر ، كثير وقليل الخير ، لا يقوي جسما ولا يمنع مرضا .. ولا يقاوم موتا .. والهم والغم دافق ..

الدرجة الخامسة

وقفت برهة تلتقط انفاسها .. وصدرها يعلو ويهبط ارهاقا ، وعرقها يسح مالئا طيات لحمها المتثاقلة .
أخذت انفاسا سريعة متلاحقة، محركة الهواء امام وجهها بيدها .
تأملت ما تبقى من درجات امامها ، وهزت رأسها برثاء وعجز وحيرة ، وعلى محياها ارتسمت خطوط عابسة . ارتاح صدرها قليلا وهدأ تنفسها .. تأملت ما تبقى من درجات بحيرة . شدت قبضتها على الدرابزين حتى لا تفقد توازنها ويحدت ما يخيفها .. ليت احدا يعينها .. حتى هذه الامنية تستعصي بلحظة الشدة .. اخذت امرها بيدها . وصعدت .

الدرجة السادسة

الدرج طويل يا محروسة . ابنك قال لك " ارتاحي يا يما ما بيعتب عليك احد " . الطبيب امرك بالراحة ... ولكن الواجب مقدس وله حرمته .. جيل اليوم لا يعرف الواجب الا من خلال مصالحه .. النقود اكلت الاخلاق . كثيرة وما لها قيمة ..أيام الليرة العسملي كانت الليرة تنطح بقرة ، وليرة اليوم ما بتكفي ركبة حمار ... غيروا شكلها مرات . قطعوها ووصلوها وغيروا اسمها .. يرحمها الله .. ما عدت اميز بين الاوراق . كلها بلا قيمة . هي احق بالموت من شباب اليوم . لن يأسف عليها احد .. والأخلاق صارت زي الليرة .. تقلصت مع تقلصها .. قال ما بيعتب غليك أحد ؟ انت حر .. المواساة في الموت يا ابني ولا الاشتراك بالافراح . الله يساعدك يا ام رافع .. زوجك تركك صغيرة .. قتلوه الانكليز .. جاء النحس بركابهم .. خرجوا وما خرج .. عدوى لا فكاك منها .. وابنك يقتله عزرائيل النحس ، ولا يشفق على شبابه ، دنيا مقلوبة .
شعرت ببعض الارهاق فتمهلت تلتقط بعض الهواء .

الدرجة السابعة

بلغت نصف الدرج ولم تسمع لا حس ولا نس .. اهذه دار ميت ؟ !
ما الحكاية ؟ ولماذا هذا الصمت ؟!
نظرت الى الدرجات المتبقية امامها بألم وحيرة وقالت لنفسها : " يسكنون في العلالي من أجل وجع القلب "

الدرجة الثامنة

لا ترهقي نفسك يا محروسة .. حافظي على اعصابك .. وعلى مهلك .. حتى الباب مغلق ؟ ما الحكاية يا عالم ؟ ! ولا تبدو حركة في الساحة ..؟ ربما بكرت في القدوم ؟ .. ولكن انت مثل امه .. ارضعته مع ابنتك الكبرى .. ولولا ذلك لتزوجها .. الدنيا اسرار ، لا يعلم بالغيب الا صاحب الغيب نفسه . حتى قدماك تصبحان ثقيلتين . ارطال اللحم تضغطهما تحتها . قال خففي وزنك قال .. على آخر العمر ، دنيا ما بتسوى ، ركض وشقا والكل واصل للجورة .. صار الناس يترحموا على زمان الترللي بعد ما ذاقوا الامرين من حكام اليوم .كانت الدنيا بخير .. فانقلبت . رحمتك يا عالما بالغيب .. ها ...

الدرجة التاسعة

ها.. ركض وشقا والكل واصل للجورة..ما بيدوم غير عزرائيل ووجع القلب ونجار التوابيت . لماذا هذا الصمت والميت شاب ، تمزق اللوعة عليه القلوب ؟!
يا غراب البين .. ها .. هاه .. اف من هذا الحم وقلة الهواء .. ارتاحي لا تسرعي للموت برجليك . خذي نفسك وعلى مهلك .. تمسكي بالدرابزين .. اصعدي على راحتك .. لا احد وراك بعصى .. سوى عزرائيل ، لا احد وراك .. سنتين لم تزوري ام رافع .. منذ انتقلت لهذه الانحاء .، كادت تنقطع معرفة وجيرة عشرين سنة .عمر يمضي بغمضة عين . امس كان الاولاد يرضعون مع بعض .. دنيا !!

الدرجة العاشرة

( جينا الدار نسأل ع الحبايب )
( لقينا الدار بتبكي ع اللي غايب )
ارتاح من شرهم ، قلوبهم مثل الحجر .. ضرب الخناجر ولا حكم النذل . لولا انه الموت لقلت زاح الهم عن اكتافه . من يوم ما شفناهم والشباب يموتون بسبب وبلا سبب . حتى الامراض كثرت . شيء نعرفه وشيء لا نعرفه . جابوا الامراض عشان يشغلوا الاطباء .. رحمتك يا رب .. رحمتك وقوتك .
هانت .. بقي درجتين وتصبحين في الدار .. لا ترهقي روحك بالبكاء ، مع ان المرحوم بمقام ابنك .اللوعة في الصدر تنشف الريق وتغم البال . احترسي .. قلبك مهزوز ووراك عيلة .. بنتين مثل زرين قرنفل .. والعرسان كثار .. الله يبعث منهم من يشاء ومتى يشاء . نصيبهم بيده .. يرحم من يشاء ويهب من يشاء . ترحم بنا وابعد عنا النحس يا رب . تفو على عزرائيل .. درجتين لا غير ..

الدرجة الحادية عشرة

البيت هادئ كأنه مسكون .. الفأر بدأ يلعب بعبك .. ما هذه الحكاية ؟! انت في حلم ام في علم ..؟ لا حس ولا نس ؟ لا صوت ولا صراخ ..؟ لا بكاء ولا لطم ..؟ والميت مثل ليرة الذهب ..وام رافع ست من ناح ولطم ؟ فكيف والفقيد فلذة كبدها ؟؟
ولكن يا للعجب .. لا سمع ولا حركة ؟!
توكلي . . خذي نفسك .. والله معك ..

الدرجة الثانية عشرة

بقيت درجة والانفاس تقطعت .. خذي نفسك يا محروسة .. الخبر وراء الباب المغلق. عبئي صدرك وعلى مهلك .. عبئي صدرك هواء، أثمن شيء ببلاش .. اياك من المغلاة بقدرتك .. انا مثل اختك يا ام رافع .. ورافع ابني .. رضع حليبي يوم رماك المرض .. عمر يركض ويتركنا نلهث .. الحياة تهجرنا وتتركنا خرائب .. يا حسرة على ايام زمان .. وأكل زمان .. ما ذهب من عمر لا يعود .. حتى الارض خطفوها اولاد الحرام .. يا غراب البين .. يا غراب الشؤم .. تفو على عزرائيل .. يحرمنا من الفرح في آخر عمرنا .. كمان عزرائيل مع القوي .. تفو على عزرائيل ..

الدرجة الثالثة عشرة

الثالثة عشرة .. والأخيرة ،الحمد لله .. عدتهم بالتمام والكمال . رقم منحوس . من يوم آدم وهذا الرقم منحوس .. ما له نصيب .. لو نقصوها درجة..؟ او زادوها درجة ..؟ جئت اشاطرك حزنك يا ام رافع . آه من لوعتي .. كيف القاها وماذا اقول لها ؟.. كيف اطيب خاطرها بهذه المصيبة ؟ تحلي بالصبر .. هل عاد فينا صبر حتى نتحلى به ؟! طرقت الباب وهي تلهث منهكة مقطوعة الانفاس من التعب والحر واللوعة وصعود الدرج ...
أطلت بعد برهة فتاة صغيرة ، وقفت قبالتها صامتة تتأملها ، هل هي ابنة المرحوم ؟ اين قلبك يا عزرائيل ؟ نظرت للفتاة الصامتة والتي لا يبدو عليها امر خاص ..كأن الميت ليس والدها ؟ نظرت من الباب المفتوح الى الساحة امام البيت .. فلم ترى ما يشد نظرها او يشير الى وجود ميت . ما الخبر ؟!.. لا يبدو كبيت ميت ؟!
استولت عليها الحيرة وثار قلقها مما هي فيه .. او يكون الميت قد عاد الى الحياة ؟! سألت الفتاة وكأنها تسأل نفسها :
- بيت ام رافع يا عيوني ؟
ثقتها تقول ان هذا هو البيت ، لا يمكن ان تصعد كل هذه الدرجات هكذا لوجه الله .. ولكن الفتاة رغم صغر سنها .. الا انها ، كما يبدو ، فهمت المراد .. فها هي تتحمس وتطل نحو البيت على الجهة الاخرى من الشارع ، وتقول مشيرة اليه بيدها :
- الدرج المقابل يا خالتي !!

نبيل عودة –
mostkbel@netvision.net.il

ليست هناك تعليقات: