الخميس، مارس 22، 2007

الابداع الثقافي والثرثرة المدمرة



بقلم : نبيل عودة
تطور الادب في حياة الشعوب ، كشكل من اشكال الوعي الاجتماعي وكأداة تعبير عن مكونات الانسان واحلامه. ونرى ان الادب ومشتقاته لعب دورا مركزيا في تاريخ المجتمعات البشرية وفي احداث الانعطافات الحاسمة في صيرورتها.حين يكتب الاديب المبدع نصا ادبيا ، لابد ان نجد فيه صور المجتمع والثقافة والتاريخ والانتماء ، بعيدا عن ذاتية المبدع بمفهومها العتيق , كحلقة مغلقة لا ينجح النص في تجاوزها .

الابداع الادبي الحقيقي لابد ان يضع الانسان (القاريء)في قمة اهتمامه ، فهو اولا واخيرا لا يكتب الى مجهول ، ولا يخاطب ذاته النرجسية ، وبالتالي يعطي القاريء خلطا من الثرثرة فقط ، لا تضيف للأدب شيئا، وتفتقد لابسط الشروط الجمالية في النص .. وهذه هي للأسف الظاهرة السائدة في الأدب العربي في اسرائيل اليوم ، هذا الأدب الذي كان قبل عقدين في مصاف ارقى الآداب , ليس فقط بارتباطه بقضايا شعبه ، انما ، وهذا اساسي جدا ، بجماليته ايضا وبقدراته التعبيرية الفنية ... وساهم في رفع شأن الثقافة العربية ، وليس بالصدفة ان يتحول سفير هذه الثقافة ( محمود درويش) الى احد الاسماء البارزة على الخارطة الثقافية العربية والدولية ، والذي قال عنه المفكراللبناني الكبير المرحوم حسين مروة في كلمة القاها في موسكو (1970) بانه "ابرز شاعر عربي" .

اقول بوضوح اننا في مرحلة "انهيار ثقافي " وفقدان المنطلقات الاساسية للابداع الأدبي الجيد وغياب الحلم الانساني الاجتماعي وراء النص. ويضاعف هذا الواقع ظواهر عدة . وكنت قد لاحظت في كتاباتي المختلفة عن المسألة الثقافية ، وجود ظواهر سلبية متعددة تساهم في تكريس الانهيار الثقافي ومسخ الابداع الادبي ، وابعاده عن ارتباطه بمجتمعه وانسانه وتاريخه وثقافته ايضا.

وهذا يذكرني بالصرخة التي اطلقها محمود درويش عندما كان محررا لمجلة " الجديد" الحيفاوية (1968)على اثر الانبهار غير المتوقع للعالم العربي بادبنا الفلسطيني داخل الحصار الاسرائيلي بقوله: " انقذونا من هذا الحب القاسي"... وللأسف هذه الصرخة العبقرية لم تساعد .. الأنبهار بأدبنا تجاوز حدود المنطق الأدبي البسيط .. وها نحن نلملم جراح الانبهار ونفشل في العودة الى توازننا الثقافي ، وتسود ثقافتنا حالة مرضية توهم كل من يصيغ جملة ادبية با نه محمود درويش آخر .. أو أكثر !!

لا بد للادب حتى يصبح مشروعا ثقافيا مؤثرا ان يكون انعكاسا فنيا للوعي والممارسة ، وليس مجرد " تنسيق" كلمات وافكار عقيمة ، انما القدرة على خلق اتجاهات وترك ترسبات . وبصدق وصف " غرامشي" الأدب بأنه : " الأرض التي يتحرك عليها الانسان ، يكتسب وعيه , ويحدد موقعه ويمارس نضاله" .

وفي حالتنا اضيف ان الأدب لا بد من ان يكون ايضا الأداة التي نمارس عبرها ، كأقلية قومية ، تعميق ترابطنا الاجتماعي ومواجهة الاضطهاد القومي والتمييز ومواجهة هيمنة الخطاب العنصري وأدواته اللاثقافية ، ومواجهة الخطاب الطائفي الغيبي الذي بدأ يرفع رأسه بحرية دون ان يتصدى له أحد مما يفرض ويسرع تعميق تفككنا الثقافي والاجتماعي ، والى المزيد من"ثقافة اللاجدوى" والتخبط الغيبي وغياب الفكر القادر على التصدي وطرح البديل العقلاني .لا شك ان أحزابنا المتدثرة بالشعارات القومية تتحمل قسطا كبيرا من هذا الانهيار، فهي مشغولة بتوزيع المكاسب البرلمانية والمناصب القيادية التي باتت مجالا لمستوى حياة أرقى وأنعم ، والجولات بين انظمة الفساد العربي لتحقيق الحظوة والفوائد المترتبة عليها ، لدرجة صرنا نتحدث عن زيارات خاطفة لهذا "الزعيم" أو "المفكر" للبلاد- فهم "يحملون" الهم العربي كله ولا يعرفون ما يدور في عقر دارهم الا بالتنظير في مؤتمرات " تنبهر" بعبقريتهم وجرأتهم البطولية في مواجهة السلطة العنصرية وفي طرح الانتقادات العنيفة ، ليس ضد الفساد العربي ، المأساة الاساسية للعالم العربي وشعوبه ، انما ضد اسرائيل فقط ، حتى لا يزعل الممولون ، وليت المثقفين في العالم العربي يتمتعون بجزء صغير من حرية النقد والتعبير الفكري والسياسي التي يتمتع بها " زعماء الثرثرة " ومبايعة انظمة الفساد المحلقون في الهواء والغائبون عن قضايا مجتمعهم العربي ، هنا في اسرائيل – ولكنه موضوع آخر .

للأسف النقد الادبي ايضا ، أوالنقد بمفهومه الشامل كظاهرة ادبية فكرية واجتماعية لا يقوم بدوره . في احسن الأحوال يتعامل مع النصوص بشكل انعزالي ، بمفهوم عزلها عن مجتمعها وقارئها... وعلى الأغلب المطلق ، هي كتابة لا تحمل من فكر النقد الا اسمه ، وتحول النقد في ادبنا الى ممارسة شكل من اشكال العلاقات الاجتماعية او الشخصية .. والأدب والنقد الأدبي هو اخر ما يخصها ... ويبدو ان الأدب في مفهوم هذا النقد ، نوع من الترف والمسامرة ، وكان سلامة موسى قد تحدث في وقته عن البعد الاجتماعي للأدب، مطالبا الأديب ( المبدع والناقد في حالتنا) بوعي اجتماعي خاص بظروف مجتمعه وبمتغيرات هذا المجتمع ، ورأى علاقة وثيقة بين الظروف الاجتماعية التي يصدر عنها الأديب ويتوجه اليها بادبه ، وبين طبيعة هذا الأدب ونوعيته، وأكد على تاريخية الأدب ، بمفهوم العلاقة مع الظروف التاريخية التي ينشأ فيها وبالمرحلة الزمنية التي يعبر عنها، وهو ما يلقي على الأديب مسؤولية التعبير عن الجماهير الصامتة . فهل من شيء مشترك بين أدبنا ونقدنا( العربي في اسرائيل) في مرحلته الراهنة ، وبين رؤية سلامة موسى العقلانية والصادقة لنشوء حركة ادبية حقيقية ؟! .. أو مع رؤية غرامشي الجوهرية ؟! الظاهرة البارزة اليوم في ادبنا ، واستعمل تعبير " ادبنا " بمفهومه المجازي ، لأني لا أرى أدبا ( الا في حالات نادرة ) ومعظم ما ينشر هو مجرد ثرثرة على صفحات الجرائد ، حتى لو جمعت في كتب ، الظاهرة البارزة هي تدفق عدد من المتقاعدين من سلك التعليم في السنوات الأخيرة الى حقل الأدب ، مكتشفين انفسهم بغفلة من الزمن ... وهو أمر ايجابي لو لمسنا ابداعا حقيقيا في ما ينشرونه.. عير اني للأسف ، لم استطيع الهبوط على جملة ادبية مفيدة .. نثرا او شعرا ، لذلك ما يجري هو المزيد من ظواهر الشيخوخة المبكرة لأدبنا وتعميق الانهيار الثقافي وتوسيع مساحة ادب اللاجدوى.. وتحويل الادب الى تسالي لمن صمتوا صمت اهل القبور .. خوفا على وظائفهم ، وبعضهم وقفوا بعدائية وفساد( وكانوا مجرد مخبرين ) ضد كل معلم رأى من واجبه تنوير طلابه وتعريفهم على تراثهم ونشر روح الاعتزاز بالانتماء القومي في نفوسهم ... واليوم يتحولون الى " شعراء " وطنيين جدا جدا "!!".. بل وينشرون في الصحف التي خافوا سابقا من النظر اليها ، وليس سرا ان الصحف ايضا اصبحت كزازيط تافهة فكريا واعلاميا .استطيع ان اقول بدون تردد ، ان الأدب يتحول الى نوع من التسالي على صفحات صحفنا ، مما يحجب الابداع الحقيقي ويعمق اليأس الثقافي .

وقد يكون هذا عاملا في ابتعاد القراء عن الثقافة وتعميق القطيعة بين الثقافة والناس الذين يفترض اننا نعبر عن واقعهم وتطلعاتهم. وهذا يدفعني مرة أخرى للعودة بذاكرتي الى مرحلة سابقة حين رأى الحزب الشيوعي في اسرائيل بقيادته التاريخية ، وعلى رأسهم طيبي الذكر اميل توما واميل حبيبي وفصيل كبير من المثقفين الشيوعيين ، ومعظمهم معلمين مفصولين في وقته ، لأن جهاز الحكم العسكري لم يرضى عنهم ... كانت رؤيتهم ان تطوير الثقافة العربية داخل الحصار الاسرائيلي هو احد أهم اسلحة النضال والحفاظ على الشخصية الوطنية والاعتزاز بهذا الانتماء ، وهو عامل مساعد في مواجهة سياسة التجهيل والعدمية القومية، وعنصر اساسي في التكامل الاجتماعي لبقايا شعب مقطع الاوصال ، فاصدروا مجلة "الجديد" التي لعبت ، الى جانب صحف الحزب الاخرى ، دورا رائدا في صياغة ثقافتنا وشخصيتنا الوطنية والثقافية ، وربما اندثار هذه المجلة الرائدة وتضعضع مكانة وقيمة الصحف الاخرى ، هو الاشارة لتغير النهج و"التعب " من النضال الفكري والثقافي والسياسي .

كيف نقيم من اكتشف نفسه بانه " شاعر وطني كبير " او ناقد "مرموق" (يفسر ما لايفهمه واضع النص نفسه) .. بعد ان تقاعد من سلك التعليم وأمن المعاش التقاعدي ؟؟ أين كان غائبا في السنوات الخمسين الماضية حين كان الأدب سلاحا من اسلحة شعبنا ، وقاد اجيالا من الادباء الى مواجهة أبشع أشكال الارهاب السلطوي ؟ جيلنا دفع ثمن الكلمة الحرة ، بحريتة وعمله ومستقبله المادي ، ولم نفعل ذلك لنحمل أحدا " جميلة" ، انما لقناعتنا بصحة خيارنا .. ولم اتوقع بأسوأ أحلامي أن يجيء اليوم الذي يتحول فيه " المتنعمون" والذين كانوا يرتعدون خوفا من مجرد قرأة مجلة حزبية او اللقاء العابر معنا ، الى الأدب ليكسبوا آخرتهم ايضا على حساب ثقافتنا .. وتتلخص اضافتهم بالمزيد من ثقافة اللاجدوى والمزيد من التخريب الثقافي .. وكل همهم الثقافي لا يتعدى ثقافة تهريج هم ابطالها ، وشكل من اشكال موائد المسامرة الثقافية, وينبري "الناقد " ليجعل "الشاعر" وحيد عصره في الابداع وكل كلمة يصيغها منزلة من السماء لم يسبق لها مثيل ... ويستعملون الاصطلاحات الثقافية دون فهم لمصادرها ولمعناها الحقيقي ، ويوزعون الألقاب بالجملة ، ان الملام ايضا صحافتنا الهزيلة التي لم يعد للثقافة فيها قيمة انما ما يعبيء فقرها الفكري والاعلامي ، وأجزم انه لايوجد في صحفنا اي محرر ادبي متخصص وقادر .

اما الصحافة التي صنعت اجيالا من الادباء البارزين فقد انتهى عهدها، وهذا ايضا من علامات الشيخوخة الأدبية المبكرة ويمكن القول الشيخوخة الفكرية والسياسية ايضا .لست ضد ان يساهم اي انسان وبأي جيل كان بالحياة الثقافية ، ابداعا وحوارا ، ولكني لا ارى الا عرض ازياء فات موعد تسويقها والمزيد من طلاء الميكياجات وتجنيد المصفقين باقناع المبتدئين انهم باتوا في القمة وسيصبحون اعلاما للشعر او للقصة رغم ان كل ابداعهم لايتعدى المحاولات الأولية . ان الظن ان تحويل فلسطين الى "فزاعة" دائمة في نصوصهم وتحويل هموم العالم العربي الى شيطان " ابداعهم "وممارسة النقد بلا مسؤولية وبتفاهة تبلغ درجة التهريج والثرثرة وتوزيع الالقاب والنياشين سيجعل منهم ادباء وطنيين، هو وهم لن يجدينا منه الا المزيد من الخراب الثقافي ، ويكسبون اجرا عظيما اذا عادوا الى ممارسة الصمت كما فعلوا في السنوات الخمسين الماضية. وتفعل صحافتنا خيرا اذا الغت الصفحات الثقافية التي تقلصت اصلا واضمحلت ثقافيا ، وخوت من المؤهلين على التعامل مع الابداع الأدبي بما يستحقه من تقييم واهتمام .

لا اتجنى على اي مبدع اذا كان حقا يستحق ان يحمل هذا اللقب الكبير ، فالأدب ليس وقفا على جيل محدد او اسماء محددة ، انما حركة حياة تصهر في بوتقتها المجتمع بكل تركيبته المتناقضة والمتنافرة ، غير ان ما يجري في أدبنا , لا علاقة له بمجتمعنا ولا بثقافتنا ولا بانساننا ولا بتاريخنا .. ولا اقصد اسما محددا في الابداع او النقد ، انما اعني اتجاهات , اعتبرها ظواهر أدبية عابرة ، غير اني ارى ان اسقاطاتها السلبية ستكون مدمرة وذات اثر رجعي عميق على تطورنا الثقافي.نبيل عودة – قاص ، روائي ، ناقد وكاتب سياسي / الناصرة
mostkbel@netvision.net.il

ليست هناك تعليقات: