الأحد، فبراير 28، 2010

ندوة تكريمية للناقد نجيب العوفي

إبراهيم الحجري_ الرباط

القصة القصيرة المغربية وآفاق التحول السردي


احتضنت جامعة محمد الخامس بالرباط مؤخرا ندوة تكريمية للناقد المغربي نجيب العوفي تكريسا لثقافة العرفان والامتنان ووفاء لما قدمه الرجل للدرس الجامعي من خدمات ناهيك عن أياديه البيضاء في خدمة جنس القصة القصيرة بالمغرب نقدا ومتابعة وإبداعا. ودامت هذه الندوة، التي حضرها عدد كبير من أهم الأسماء التي تنشغل بجنس القصة القصيرة إبداعا ونقدا، يومين تخللتها عدة جلسات وقراءات قصصية. وفتح السجال والتداول في قضايا القصة القصيرة المغربية أسئلة هامة من شأنها أن تعيد للدرس النقدي حول هذا الفن خاصة الأكاديمي منه بريقه المفقود.

افتتحت الجلسة الأولى بكلمات لكل من عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية الأستاذ عبد الرحيم بنحادة ورئيس شعبة اللغة العربية الأستاذ محمد الظريف ورئيس اللجنة التنظيمية الأستاذ سعيد يقطين، وكلها بينت أهمية المحتفى به الأستاذ نجيب العوفي في المشهد النقدي المغربي وما قدمه للدرس الأكاديمي من خدمات جليلة. كما أكدت على قيمة تكريس ثقافة العرفان، وما لها من دور في التحفيز على بذل المزيد من الجهد وتحريض الأجيال الجديدة على العمل. كما كشفت المداخلات عن السياق الذي اقترحت فيه القصة القصيرة جدا وأهمية فتح النقاش في هذا الجنس على المستوى الأكاديمي بعد ما ظل لعقود خارج أسوار الجامعة.

في الجلسة الثانية التي ترأسها الأستاذ أحمد بوحسن ناقش المتدخلون القصة القصيرة المغربية من خلال الواقع والنوع والتاريخ. حيث حدد الكاتب محمد عز الدين التازي شروط ومعايير النصوص القصصية الجيدة التي تأسر القارئ وتصمد في ذاكرته، مركزا على الكثافة واختزال العالم والحكي الأخاذ مع العمل على لمس الشحنة القصصية، خاتما مداخلته بكون القصة لا تملك وصفة ناجزة، بل إن النصوص الاستثنائية هي القادرة على تحديد معايير الجودة فيها بحكم قبضها على قلب القارئ وأسره. وبعد ذلك قارب الأستاذ بشير القمري شعرية القصة القصيرة من خلال الكتابة والمتخيل: مقاربة نظرية. حيث اعتبر الكتابة مؤسسة رمزية من خلالها كانت القصة في السبعينيات تمتلك منظورا شموليا عبر إنصاتها للواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي مجربة للقوالب بشكل متوازن عكس القصة التسعينية التي هدمت كل عناصر المؤسسة مغامرة في التجريب إلى أقصى الحدود، وهي ظاهرة -أكد المتدخل- تحتاج إلى وقفات تأملية نقدية تقوم مواقع الانزلاق إلى متاهات الترهل الدلالي والأجناسي. ورأى الأستاذ بشير أن مراجعة ما كتب من نصوص قصصية في العقود الماضية وما وازى ذلك من دراسات نقدية جديرة بإلقاء الضوء على الكثير من مناطق الخلل في التجارب الآنية والقادمة. في حين أن الناقد عبد الرحيم مودن تناول موضوع العناوين من خلال بيبليوغرافيا قام بإعدادها الراحل محمد القاسمي تناولا إحصائيا. وقرأ هذه العناوين وفق تصور يمنحها الدلالات المستوحاة من المؤشرات الملازمة لها بناء على تأويل معانيها الأولية التي يمكن أن تضيء النصوص، كما يمكن أن تحمل بصمتها المستقلة في التدليل والترميز. وختمت الجلسة بمداخلة محمد عزيز المصباحي الذي تطرق للقصة القصيرة من خلال وضع ست نقط على الحروف: طغيان المنهج التاريخي على الأدب المغربي عامة بما فيه القصة القصيرة، توجه النقد إلى التجارب المشرقية محاباة وولاء، تراجع الحكاية أمام التجريب، القصة الجديد تعبير عن إنسان مغربي مأزوم قهره التغريب والإقصاء والتهميش، عقدة المغاربة التأرجح بين النمطين المغربي والمشرقي، أهمية وعي الجيل الجديد القضية الثقافية المتنورة.

أما الجلسة الثالثة فقد انصبت حول القصة القصيرة من خلال الكتابة واللغة والمرأة وسير الجلسة نيابة عن الأستاذ قاسم الحسيني الأستاذ محمد التعمارتي. وسعى أول متدخل في الجلسة الأستاذ محمد حجو نيابة عن الأستاذ الحسن المودن إلى دراسة الحلم في قصص محمد عز الدين التازي نظرا لأهميته في إبراز المفكر فيه والممنوع والمقموع والكامن في اللاوعي. وقد بين الباحث أن الحلم في قصص التازي ليست جزئية، بل هي جوهرية لأن القصة كلها عبارة عن حلم. في تناول محمد تنفو قضية الألوان والرموز في القصة المغربية كاشفا بعض دلالتها في علاقاتها بالمتخيل والمعرفي والثقافي لدى المحيط التي تتعالق معه في شبكة من التقاطعات. أما الناقد محمد معتصم فقد تناول صورة المرأة في ديوان السندباد لأحمد بوزفور مؤكدا أنها لم تأت كموضوعة، بل كرؤية سردية وفكرية، وأنها تتعدد بين الأم والمحبوبة والخطيبة وزوجة الأب والقاتلة. وختمت القاصة مليكة نجيب الجلسة بموضوع المرأة والكتابة مستعرضة في قالب مشهدي سردي معاناة المرأة ونضالها من أجل أن تنال حق التعبير بالكتابة الذي صادره منها المجتمع البرطريكي.

وسير الجلسة الرابعة التي دارت حول جنس القصة القصيرة جدا الأستاذ بشير القمري الذي طرح إشكالات الجنس الأدبي وما يستتبعه من نقاش يمكنه فيما بعد إفراز أنماط جديدة تحافظ على خصيصات نوعية وتستحدث أخرى. وفي هذا الباب اعتبرت الناقدة سعاد مسكين القصة القصيرة جدا نوعا مستقلا بذاته، له خصائص مميزة عن القصة القصيرة، كما أطرت السياق العام الذي ظهر فيه هذا النمط السردي في المغرب، والذي يشرعن تمسك الجيل الجديد به، فضلا عن ذلك جردت دور المؤسسات في رعاية هذا النمط من الحكي متمثلة في الإنترنت والجمعيات الثقافية والمؤسسة الجامعية. في الوقت الذي عارض فيه الناقد مصطفى جباري القول باستقلالية هذا النمط السردي معتبرا إياه مجرد تحول للنص القصصي أو تنويع على هامشه لأن مسألة القصر هنا نسبية وغير مضبوطة، كما أن هذا النوع من الكتابة لم يستقل بذاته حتى في البلدان التي استلفنا نحن منها هذه الصيغة من الحكي. أما القاص إسماعيل البويحياوي فقد اعتبر القصة القصيرة جدا نوعا تخييليا سرديا جديدا له عناصر تشكله ومقوماته الفنية وأسس ظهوره، مستعرضا المراجع الأولى التي نظرت بالعربية لهذا النوع من القص.

في صبيحة اليوم الثاني استؤنفت الندوة بجلسة خامسة حملت عنوان "القصة القصيرة والتحول" بتسيير من القاص محمد عزيز المصباحي، وكانت أول المتدخلين القاصة والناقدة زهور كرام التي تناولت موضوعة التجريبية والترابطية في قصص أنيس الرافعي ومحمد اشويكة مبينة مظاهر التحول على مستوى تمثل الأدوات السردية والصوغ الفني للقصة القصيرة، وما يقتضيه من تحول على مستوى الرؤية والتلقي تبعا لتحول الوسائط والحوامل. وبعد ذلك استعرض الناقد إبراهيم الحجري ملامح المغايرة وآفاق التجريب في القصة المغربية من خلال نماذج تسعينية، وهي ملامح خلقتها صيرورة من التحولات والتغييرات المتلاحقة التي ساهمت فيها كل الأجيال. أما القاص محمد اشويكة فقد تكهن بمستقبل القصة القصيرة في أفق ما تعرفه الوسائط من تغييرا متسارعة، مؤكدا على أهمية التفكير في كيفية نشر وتوزيع المنجزات القصصية وترجمتها، منبها كتاب القصة إلى ضرورة الانفتاح على العلوم الإنسانية وعدم حصر الذات في القصة فحسب. وختم الناقد سعيد يقطين الجلسة بمداخلة حول "تشكل وعي جديد في القصة القصيرة" مبرزا الدور الريادي الذي يلعبه الإنترنت في مجال التواصل، وحتمية التعامل معه من أجل توصيل أدبنا بما فيه القصة، حاضا على ضرورة عادة تنظيم الأعمال المكتوبة بما يسمح لها بالتحول إلى نصوص ترابطية يسهل التعامل معها بالحاسوب والحوامل الإلكترونية، وهذا يتطلب جهدا مضاعفا من طرف القاص والمتلقي معا.

وخُتمت الندوة بشهادات في حق المحتفى به نجيب العوفي من طرف ثلة من زميلاته وزملائه في مجال العمل والكتابة، وهم على التوالي: نجاة المريني، نعيمة مني، عبد الله الدخيسي، وجاء دور القصاصين كي يتحفوا الحضور الملتف حول المكرم العوفي، حيث قرأ كل من الأساتذة: أحمد المديني، محمد عز التازي، ربيعة ريحان، حسن البقالي، عبد الحميد الغرباوي، أحمد بوزفور، أنيس الرافعي، والأردني محمود الريماوي. وقدم الأستاذ نجيب العوفي، في الختام، كلمة شكر فيها الجهة المنظمة والحضور الذي التف حوله في هذا التكريم مستعرضا مساره الشخصي كأستاذ وكناقد. وقد لعب الأستاذ الناقد سعيد يقطين مجهودات مضاعفة من أجل إنجاح هذا النشاط مكرسا بذلك تقليدا جميلا يتمثل في ثقافة العرفان فضلا عن رغبته في انفتاح الجامعة والدرس الأكاديمي على الأجناس الأدبية والأسئلة الإبداعية المتعالقة معها في الواقع والمتخيل.

قراءة في ديوان (فوضى المكان) للشاعرة رسمية محيبس زاير

أمجد نجم الزيدي

المثيرات الكتابية وافتراضية القراءة


عندما نقرأ اي نص في المجالات المختلفة للكتابة، نكون قد عبرنا منطقة افتراضية بين متنين هما الوجود الفيزيائي للكتابة كمدونة بصرية الى وجود قائم في ذهن القارئ، وهو متشكل انعكاسي يأخذ مداه من التداعيات التي يولدها فعل القراءة، وهذه المنطقة ترتكز على المثيرات الكتابية التي يولدها النص، حيث تكون عبارة عن (مجال شبحي/مخلق) كما يصفها محمد علي النصراوي في كتابه (طيف المنطقة المقدسة)، (فأنها في حالة الكشف عنها تعد الذخيرة الحية مادة اولية خام بيد مكتشفها القارئ وهي هنا بمثابة مراكز / أو بنى افتراضية لتدعيم الحدث وتحريكة داخل نسقه الاشاري اللغوي)* وتختلف هذه المثيرات تبعا للاختلاف نوع الكتابة، وقدرة القارئ على الوصول الى تلك المراكز الكامنة، والتي تحتاج الى قارئ استثنائي ليتمكن من استنفاذها، من خلال التفاعل مابينها وبين مايحمله من خزين معرفي وخبرة بالتعامل مع النصوص، وخاصة النصوص الابداعية من شعر وقصة وغيرها..
فالشعر -على سبيل المثال لا الحصر- عندما يتخلق كمدونة كتابية، ينتقل من حضور افتراضي تشكله ذات خلاقة الى حضور عياني وفي قالب خطابي اجناسي محدد ومعين، بيد ان النص الشعري يختلف ربما عن باقي الاجناس الكتابية، بأن دلالاته أو مراكزه الاشارية تتمرد على وجودها الكتابي المقولب ضمن النسق اللغوي، وتخرق طبيعتها كعلامة لغوية اتصالية، بأن تتشكل خارج اطار اللغة فضاءات هلامية، تتفاعل وتقترن مع الفضاءات التي يقترحها القارئ، لا لأكتشاف تلك المراكز أو الدلالات وانما لتوليد نص أخر وفضاءات اخرى، بمديين: مدى اقتراني يستبدل نص سلطة الكتابة بسلطة القراءة، ومدى طيفي يستعصي على تلك السلطة، ليظل سابحا خارج تلك الانساق ليكون حاضنة لتشكلات افتراضية قرائية اخرى، تبقى كامنة لقراءات جديدة..
ولنأخذ ديوان (فوضى المكان) للشاعرة رسمية محيبس زاير، الصادر عن مؤسسة الفكر الجديد2008 ،نموذجا تطبيقيا للأفتراضنا السابق وتفحصنا نصوصه كنص (من عبث بأبجدية الجمال) وأخذنا منه المقطع التالي:

أنا النجمة تشظيت. أنا مكتظة بعويل أخرس
الغيمة تحجبني. وزخة مطر تسد علي الطريق
أنا غارقة في التأملات بينما القمر،...
يطوف على الاشجار والبنايات
على الادغال والبحيرات

فبقراءة هذا المقطع نرى بأن العلاقات المتحكمة، والتي يحاول النص ببنيته الكتابية من وضعها وهي الاندماج مابين عناصر الطبيعة والتي هي: (النجمة، الغيمة، المطر، الاشجار، الادغال، البحيرات)، وهي تعبير عن الوجود الخارجي أو الاطار الكوني اللام، والنفس البشرية والتي تظهر من خلال (التشظي، العويل، الأخرس، الحجب، سد الطريق، التأمل) والذات المتكلمة وهي (أنا)، وساعدت هذه العلاقات النص الكتابي بزرع عدة مثيرات في المقاربات القرائية للنص، تحيل الى انتاج عدة علاقات افتراضية جديدة، ربما تندمج مع مقاربات الكتابة الاولية أو تعارضها، أو ربما تنتج لها وجودا مستقلا ومفارقا، حيث تكون تلك المقابلة مابين (أنا) كوجود مؤسس للنص على اعتبار انه عتبة تقود الى داخل (أنا النص)، بمنلوج يعكس صورتها البدئية المقترنة بالنجمة التي تتفاعل و تتشكل صورتها من خلال التماهي أو الوقوف أمام أو بالضد من الافعال التالية ( تشظيت، تحجب، تسد)، وما توحيه الكلمات الاتية من أفعال او صفات (مكتظة وغارقة) لتنتج لنا مفهوما مغايرا وذلك يتضح من خلال المقابلة بين (أنا النجمة ) و(القمر) والاختلاف مابين حركتيهما المستند على تداولية تلك الدلالات، اذ ان حركة القمر هي حركية خارجية من خلال الفعل (يطوف) بينما (النجمة) ساكنة وحركيتها داخلية تظهر من خلال (غارقة في التأملات)، ولكن النص يقلب تلك العقدية التداولية ، اذ تأخذ (النجمة) بأرتباطاتها السابقة، بكسر مرجعيتها التداولية، وان حافظت على سكونيتها الخارجية، الا انها استبدت داخل النص بحركية باذخة، حتى انها صادرت الحركية الفاعلة (للقمر)، التي ربما كان يوحي بها المقطع السابق:

يتأملني الراحلون في الحيرة
يفترشون معي الطرق والسطوح المهجورة
يتصورني صياد حفنة عقيق
اجمع النجوم، اروي لهن ما على الارض

وأيضا:

كان الاولاد يسهرون وقد استبد بهم القمر
يزحفون اليه بعد ان تكون المدينة قد رقدت
والبنات دخلن واغلقت الابواب
كنت اسمع شعرا وأغان بيض مجنحة

اما لو أخذنا نص ( أنا بحاجة للبكاء) وأخذنا منه المقطع التالي:

لقد كان الورد يتفرس في جراحنا ويضحك
كان دمنا يضيء
دون حدود ولا مخافر او شرطة
منه امتلأت الجرار
وفاض العبير
وترملت القوافي

لرأينا بأن هذا المقطع يقوم على علاقات كتابية بين عبارة (الورد يتفرس في جراحنا ويضحك) والتداعيات التي تأتي بعدها، وهي علاقات تفسيرية مبنية على مايعرف بالسرد/شعري من خلال التزامنية التي يوحيها الفعل الناقص (كان) في (كان الورد) و (كان دمنا)، وينتج ايضا علاقات قرائية افتراضية مبنية على عدة مثيرات ربما تقود الى ايجاد تناصات مضمرة، ربما تقودنا لربطها مع شخصية الشاعر الشهيد (لوركا)، وذلك بالعلاقة مابين (الورد) و (الدم)، وعبارة (دون حدود ولا مخافر أو شرطة) ، وايضا (ترملت القوافي)، وتستند هذه المثيرات على الايحاء الذي تولده عبارة (الورد يتفرس في جراحنا) وهي بأعتقادي التي ولدت تلك التقابلات المقترحة والتي ذكرناها قبل قليل مابين (الورد والدم ...الخ)..
أما نص (يقظة متأخرة) فيقوم ببنيته الكتابية على الربط مابين العنوان وهو ثريا النص والمتن من خلال الارتباط المحوري مابينهما والمتمثل بعبارة (لم يوقظني احد في بهو المنتظرين)، والتي تعتبر ركيزة النص وسداه، بينما القراءة تقسم النص الى بنيتين قرائيتين هما بنية (الحلم) و (الواقع) حيث يكون فعل الاستيقاظ هو المحرك والمولد للدلالات، اذ تتجسد تداعيات الحلم مع حصيلتها التداولية، على اعتبار ان (الحلم)، تعويض لواقع ما، اذ يظهر المتن الاول في المقطع التالي:

هذا ليس آوان ندى
أو مطر يلثم أوراق الروح
الدرب هنا اضيق من حلم
والاشجار...
صارت كنساء بمظلات خضراء
يتأملن مرور اللحظات
قامات نخيل مثقلة بالطلع جسور تختصر الكون
مقهى يستيقظ فجأة

والمتن الاخر (الواقع) فيظهر من خلال المقطع التالي:-
ها اني استيقظ
واحس برائحة الصيف الفائت
تعبق في روحية
أتذكر أن قطارا
غادر في منتصف الليل
ولم يوقظني أحد في بهو المنتظرين
ولهذا
ولأجل نهار أخر يأتي
سأحرض الف ربيع في قلبي
وأغني
أم أني سأواصل أحلامي
حتى يأتي من يوقظني

وهذا لم يأتي لتعزيز الافتراضات التي قام عليها النص الكتابي الاولي بعلاقاته التداوليةن بل انه غاير تلك العلاقات، بأن جاءت لتنقض ذلك الافتراض، مما ينقض بنية الحلم من خلال نقض هذه الدوال ومغايرة نسقها اللاظم الحلم (هذا آوان ندى) و ( الدرب هنا اضيق من حلم)، وايضا التأكيد الذي يأتي في الفضاء الاخر المقابل والمقترح وهو الواقع:

ولأجل نهار اخر يأتي
سأحرض الف ربيع في قلبي
وأغني
أم اني سأواصل أحلامي
حتى يأتي من يوقظني

اما نص (هكذا تنطفئ النجوم) المهدى الى روح الشاعر رعد عبد القادر، يحاول ان يتمثل رؤيته الكتابية من خلال التماهي مع جملة الاهداء وذلك بالتشكيل الصوري، الذي يرسمه النص وايضا التوجه المباشر نحو تلك الدالة بـ(أما رأيت النهر كم كان/ وادعا)، حيث تضعنا القراءة في مواجهة افتراضية بين هذه التشكيل الصوري الذي يحيل الى الاهداء، والمثيرات القرائية التي تظهر خالقة جوا مشحونا للنص، وذلك يظهر من خلال المقابلات مابين ( أما رايت النهر كم كان /وادعا / وهو يستمع الى غيابك) و(بك امتلأ وقد كان فارغا) وايضا المقابلة الاخرى مابين (ما انضر هذه الورقة/ ما ارق هذا الصوت وهو يتسلق الاغصان/ منذ سنين وانا اصطفي الماء/ واصطفي الغيوم)، وبين هذا المقطع ( لكني انطفئ في عتمة المساء / وخضرتي تندحر الى صفرة تحاكي الذهب)، وهذا الجو الذي تخلقه هذه المقابلات يتعزز ويتشكل كمثير قرائي افتراضي، ويصنع خيطا يلظم دلالاتها الكتابية (النهر الوادع)، (الرنين الخافت يتصاعد كلما انطفأت الريح) ليمر بـ (نضارة الورقة) و (الصوت الذي يتسلق الاغصان) الى (النجمة التي اسرتها الافاق القصية) و (الصرخة التي تمزق جسد السكون) الى اخر الافتراضات المتقابلة بين تشكيلات النص التي تقود الى انتاج نص القراءة، بعد ان تحتك تلك المثيرات التي هي رؤية كامنة داخل النص مع فعل القراءة الذي ينتج تلك الاطياف..

اما نص ( العندليب) الذي نأخذ منه المقطع التالي:

حين مات عبد الحليم
خيل لي ان عقربا
لدغ القمر
فسال الدم الابيض
حتى غطى السماء

فنلاحظ تلك المجاورة الكتابية بين (عبد الحليم) و (العقرب) و (القمر) والتي تولد عدة افتراضات قرائية تتولد من العلاقة الغرائبية بين العقرب والقمر كمثير ينتج افتراضات تبنى على الاحالات المرجعية لكلا الدلالتين بمدياتهما القرائية، حيث يكون ( عبد الحليم) هي الدالة اللاظمة والموجهة لفعل القراءة كأجراء، ومثير مرتبط بعبارتي ( حين مات) و (خيل لي)..


* طيف المنطقة المقدسة-حفريات مابعد الحداثة .مجمد علي النصراوي. دار الشؤون الثقافية العامة. طـ1 بغداد2006 ص11

محترف راشيا يحتفي بإصداراته الأدبية لمناسبة بيروت عاصمة عالمية للكتاب




جائزة فيصل العمر الأدبية في إحتفال أقيم في قصر الأونيسكو بيروت وبحضور شخصيات رسمية وإجتماعية.


لمناسبة إعلان بيروت عاصمة عالمية للكتاب وجائزة فيصل العمر الأدبية وبالتعاون مع وزارة الثقافة اللبنانية ومنظمة الأونيسكو أطلقت"جمعية محترف الفن التشكيلي للثقافة والفنون" راشيا إصداراتها الأدبية للعام 2009- 2010 في إحتفال كبير أقيم في قاعة قصر الأونيسكو بيروت بحضور ممثل فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان ممثلاً بمدير عام وزارة التربية فادي يرق وممثل الرئيس سليم الحص حسن موسى وممثل رئيس تكتل التغيير والإصلاح النيابي النائب العماد ميشال عون الدكتورة جورجيت حداد وممثل قائد الجيش اللبناني العماد جان قهوجي ممثلاً بالعقيد فادي لبكي وممثل مدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي العقيد الياس حبيب وممثل مدير عام أمن الدولة العميد الياس كعيكاتي الرائد أيمن محمود والمطران الياس كفوري والأب مارون عطالله والنواب السابقين اللواء سامي الخطيب وفيصل الداوود والسفير رياض القنطار والشاعر جورج جرداق والفنان زياد بطرس ومانح الجائزة الأدبية الكويتي السيد فيصل العمر وأمين عام تجمع البيوت الثقافية البروفسور جورج طربيه ورئيس جمعية محترف راشيا الفنان شوقي دلال والكتاب الفائزين في الجائزة الفنان عارف أبو لطيف والشاعر نبيل أبو عبدو والشاعرة ندى أبو حيدر طربيه والشاعر غازي قيس وممثلي أحزاب لبنانية وحشد كبير من رؤساء بلديات ومخاتير ونقابيين وشعراء وكُتّاب وفنانين من مختلف المناطق اللبنانية .


بداية مع النشيد الوطني اللبناني ثم إفتتح المهرجان رئيس جمعية محترف راشيا شوقي دلال بكلمة قال فيها " من يدرك لبنان الأرز والجبال والجباه السمر ، من يدرك الخير والعطاء في تراب لبنان ، من يدرك فناً وأدباً وشعراً في هذا اللقاء ، يدرك ما تفعله الأعاصير بالمدى والريح بقلب الغاب ، والعصافير الزقزقات بطلوع الفجر ، وشهي الحب مع الصفصاف ، وأضاف دلال .. نطلق اليوم كوكبة جديدة من النتاج الشعري والأدبي في جمعيتنا محترف الفن التشكيلي للثقافة والفنون راشيا ومن كافة المناطق اللبنانية من خلال جائزة فيصل العمر الأدبية وهي خطوة أردناها هدية لبيروت عاصمة عالمية للكتاب لنؤكد على تميز حركة الفكر والإبداع في لبنان وبإذن الله سوف نستمر بطباعة خمسة كتب سنوية وإقامة حفل توقيع للكتب دون أي كلفة يتكبدها الكاتب "..

وإلى كلمة مانح الجائزة السيد فيصل العمر حيث قال " لبنان الحبيب هو الوطن الثاني لكل مواطن كويتي لما لهذا البلد الجميل بطبيعته وناسه الطيبين من مودة ومعزة في قلوبنا حتى أضحت عواصم لبنانية كحمانا وبحمدون وعاليه عواصم كويتية في لبنان ، وها أنا اليوم بين أهلي أقف مسروراً بكتاب وشعراء لبنانيين طالتهم الجائزة الأدبية وهو فضل يعود بالدرجة الأولى لله عز وجل ولرئيس جمعية محترف راشيا الفنان شوقي دلال وعمله الحثيث لأنجاح هذه الفكرة والتي ستستمر في المستقبل بإذن الله ، كما أن سعادتي اليوم بهذه الجائزة في لبنان تأتي متزامنة مع العيد الوطني في الكويت وعيد التحرير فتحية من القلب من إبن الكويت لكافة أبناء وطني الثاني لبنان "...

بعده كلمة الأدباء والشعراء الفائزين ألقاها الشاعر غازي قيس وقصيدة للشاعرة ندى طربيه ، وفي الختام قدم رئيس الجمعية شوقي دلال للعمر درع وفاء وتقدير ومن ثم وقع الكتاب والشعراء كتبهم الفائزة وهي كتاب للفنان عارف أبو لطيف بعنوان "حين يتكلم الطين" وكتاب للشاعر نبيل أبو عبدو باللغة الفرنسية وديوان شعر لندى طربيه بعنوان "عطر الندى" ورواية للشاعر غازي قيس بعنوان "قناديل المدينة" وتم توزيع كتاب جمعية محترف راشيا والذي أرشف لنشاطات الجمعية منذ العام 1992 ولغاية 2009 وكتاب الجمعية عن الصداقة اللبنانية الكندية بالقلم والريشة.


شوقي دلال – رئيس الجمعية

من سن القلم: يتيم

عادل عطية


كيف يعيش الانسان في أمومة كونية ، ويشعر باليتم ؟!

الإجابة بالنسبة لي ، وباختزال شديد ، وألم أشد :

انه بالرغم من وجود أمهات الكتب في المعارض ، إلا اننى لا اتمكن من اقتنائها ؛ لارتفاع اسعارها !

ومع انني أعيش على أرض أمي الحبيبة مصر ، إلا أنني لا أستطيع التمتع بخيراتها ، والتمتع بجمالها بفضل الذين ينهبون ثرواتها ، ويخربون كيانها ، ويهربون !

أما أمي التي ولدتني بالجسد ، فقد رحلت عن أم خباب " الدنيا "

ولم أجد سوى : أم ربيق " الحرب "

لأزداد مع اليتم يتماً !

مَوْلـِـــــــدُ الْيُسْرْ

يسر فوزي

تاريــخُ مِيْــلادَكِ
مَوْعِــدُ ... حَبَاتِ الْمَطَرِ
بَيْنَ ألْيــافِ الْشَـجَرِ
على أبْــوابِ رَبيْـعِ
شَــذَى عِطْرِهِ
وَقَّــعَ لَحْنَـهُ
على أنْغَــامِ القَـدَرِ
فَكَانَ مَوْلِــدُ الْيُسْرِ
وَمْــضَ صُبْـحٍ
يَرْشِفُ ضَــوْءَ الْقَمَـرِ

يَا فَاكِــهَةَ الْمَـوَاسِمِ
ألْــثُمُ رَبِيْـعَ عُمْرٍ
يُـزْهِرُ دِفْئَاً بَيْنَ راحَـتَيْكِ
تَـغْتَسِلُ حِمَـمُ حُـزْنى
مِنْ شَــدْوِ اللَحْظِ
بَيْنَ ضِيَــاءِ مُقْلَـتَيْكِ
أَغْمُرُ دَفْـقَةَ الْفَـجْرِ
وَأرْتَـشِفُ الْفَـرَحَ
مِنْ وَرْدِ شَفَـتَيْكِ

يا حُـوْرِيَةَ الأبْـرَاجِ الْفَلَكِـيَةِ
تَتَـمَاوَجُ زُهُـورُكِ الْقَمَـرِيَةُ
على شِغَـافِ القـلبِ
فَتَنْـثُرُ نَسَائِـمَ عِشْقٍ نديـةً
تُبَـلِلُ مَيَـاسِمَ الـرُوحِ
بِالْقُـبَلِ الْمَـوَاطِـرِ
وَ تَرْسِمُ رَواسِيْ الأمَـانِ
على وَقْـعِ هَسْهَسَاتِ الْمَحـارِ
وَتَرَاتـيلِ الْمَحَـبَةِ الشَّجيَةِ

أمِيرتـــى الْصَغيـرةُ
إذا وَقَّـعَت خَطْــواً
يُـغَّرِدُ الطيـرُ شـدواً
هديــة ُالوَرْدِ وَالْمَطَـرِ
حُلْـــوَةُ الْبَرَاعِــم ...ِ
الْيَــوْمُ مَوْلِــدُكِ
تَدَلَلِــي
تَغَنَجِــي
إعْـزِفي لَحْـنَ الْخُلُـودِ
على تَـقَاسِيمِ الْعُمْـرِ
وَ انْثُرى بَيْنَ الْمَسَّامَـاتِ
زَهْــوَ الْرَبيـعِ
بِعِـطْرِ وُرُودِهِ الْمُنْهَـمِرِ

كُلُ عَـــامٍ وَ أنْتِ مَلاّكــيَ
يا قِــبْلَةَ الْــرُوحِ
وَ ضِيــاءَ الْبَــدْرِ
كُلُ عَــامٍ وَ أنْتِ أمِـيْرَتِـــي
يا قُــرَةَ الْعَــيْنِ
وَ إشْرَاقَــةَ الْفَجْــرْ

الشكوك

د. نوري الوائلي

ما اكثر الشكوك في نفس الأنسان حول الخالق عز وجل وحول خلق الكون . ان السبب الأساسئ هو قصور الذهن البشري وقصور الأدرك والحواس وقلة المعرفة العلمية في الوقت الحاضر وجهد الشيطان الذي ليس له سلطان الا على الجاهلين والكافرين.

جهلاءُ دهري لم يعوا التفسيرا = وتوهّموا في شكّهم تبريرا
وتجرّعوا سوءَ الشكوك كأنّهم = في رملةٍ يتوجّسون غديرا
وتمضْمضوا كالظامئين بمرتعٍ = ماءَ المبازل مغسِلاً وعصيرا
فإذا بهم ساروا لكلّ رذيلةٍ = وتوسّدوا كاليائسين عسيرا
عجباً لمقتنع بأنّ وجودنا = من صدفةٍ جاءت به تحويرا
إنْ كان هذا الخلق منبع صدفةٍ = فالعدل أن ندنوا لها تكبيرا
بل تستحقُ بأنْ نمجّد قدرها = ولها نخرُّ مذلّةً وشكورا
إنْ كان خلق الكائنات بصدفةٍ = منْ أنشأ الأولى لها تسخيرا
كم صدفة يحتاجُ خلق خليّة = قد حيّرت في خلقها التفكيرا
كيف الجمال وسحره قد أينعا = من صدفةٍ لا تملك التقديرا
ألعقلُ دوماً حين يبحرُ حوله = لم يكتشفْ في الكائنات فطورا
حاولتُ في نفسي تخيّل خالقي = وحدودَ كونٍ رقعةً وعصورا
وسألتُ نفسي والوساوس ديدني = من كان من قبل الوجود ظهيرا
هل جاءَ من عدم فيفنى بعده = أو كان قبلاً أوّلاً وأخيرا
فإذا بعقلي بل كياني كلّه = كالطالبين من الدجى تنويرا
وشعرت أنّي لم يعدْ في ذاكري = إلّا شرودا فارغاً وقصورا
وتصاغرت نفسي كأنّ بروحها = بين الترائب لا تجيد زفيرا
إنْ متّ يومي والشكوك وساوسي = ماذا أحاورُ منكراً ونكيرا
لا للشكوك وإنْ يوسوس جاهداً = أبليسُ في قلبي دجى وشرورا
من عاش أعمى في الحياة ونائماً = يصحو على جرس الممات بصيرا
لن يلبس الإلحادَ إلّا جاهلاً = قد عاشَ في وهج الدليل ضريرا
من قال إنّ الخلق فعل طبيعةٍ = تبري العليلَ وتنشئ ألتأثيرا
أين الطبيعة من صغائر ذرّة = إنْ تنشطرْ تعلُ السماءَ سعيرا
هل جاء من بيض الدجاجة ثعلبٌ = أو يُعطنا رحم الغزال بعيرا
هلّا سألت النفسَ كيف توازنت = نسبُ الأناث مع الذكور دهورا
هذي الطبيعة إنّما قد خُلّقت = فيها الصفات تسايرُ التطويرا
ألعلمُ يثلجُ في الصدور أدلّةً = تعلو , وتبقى للعليم سفيرا
ألعلمُ ينبئنا بصدق حقيقةٍ = يحتاجُ خلق الكائنات قديرا
رغم العلوم فلا تزال سلالة = ترجو بصوت الملحدين زئيرا
لكنّ صوتهمو نعيقُ بهائم = ويجولُ فوق النائمين شخيرا
ونظرتُ حولي لم أجدْ في عالمي = إلّا جهولاً يهتدي وفقيرا
فعرفتُ أنّك للوجود ضرورة = ورأيتُ نورك في الوجود منيرا
ورأيتُ رحمتك الوجودَ تصوغه = ورأيتُ حلمك في النفوس مُجيرا
ورأيتك المولى , بخلقك منصف = ورأيتُ سترك للعباد مصيرا
وقهرتَ دونك بالفناء وأنّهم = منذ الولادة يحفرون قبورا
ولقد عرفتك عند كلّ خليقةٍ = فبها رأيتك مرشداً وأميرا
وعرفتُ أنّك للخلائق عروة = فالكلّ يجري مُحكماً وأسيرا
ورأيت من حولي نعيمك رافداً = للعالمين مودّةً ونشورا
ورزقت دون مُسائلٍ أو طالبٍ = ونشرت رزقكَ للوجود وفيرا
وخلقت بالحرفين كلّ خليقةٍ = من قبل أنْ كان الدّخان سديرا
وغفرت إلّا الشرك لم تغفرْ له = ووصفت نفسك للمسيء غفورا
ووجدتُ حولي كلّ شيء ناطقاً = قد خاب من عاش الدليل كفورا
ما كان خلقك للوجود لحاجةٍ = بل كان خلقك منّةً وطهورا
وإذا رأيت فهل رأيت تفاوتاً = في الكائنات وهل رأيت قصورا
وإذا عزمت بأن تبرهن ناقصاً = يرتدّ عزمك خاسئاً وحسيرا
إنْ كنت في شكٍ وقلبك حائر = فاسألْ لمعرفة الجواب خبيرا
ينبيك أن الخلق قدرة خالق = فاقَ الوجودَ مساحةً وحضورا
من عاشَ يلحدُ والنعيم يحفّه = نكرَ الجميل وقاحةً وفجورا
ورحمت خلقك رغم سوء فعالهم = وبعثت فيهم مرشداً وبشيرا
فإذا همو سيف يجاهر نسله = رسلَ السّماء ومن يقوم نذيرا
من ذا أكون ومن أكون لأدّعي = أنّ الزراعة لا تريد بذورا
فلتشهد الأكوان أبقى مسلماً = وموحداً , عرفَ الجليلَ فطورا
وإذا مَررتُ على المعاصي ساهياً = ستجيرني بمصيبةٍ تذكيرا
فصبرتُ فيها وأرتجوتك راضياً = فوجدتك الكافي بها ونصيرا
تبّاً لقلبي إنْ دعوتك موجساً = ألاّ تكون الى الضروع مجيرا
سلّمتُ أمري للعزيز وإنّني = بالغيب أؤمن واثقاً وقريرا
أنت البقاء وما سواك بخالدٍ = وعلوت خلقك قاهراً وكبيرا
لن يستمرّ الكون في ميزانه = إنْ كان يحوي للعزيز نظيرا
ألنارُ مثوى المشركين ودارهم = فبها أذيقوا خسّة وثبورا
سبحان من خلقَ الوجودَ وما له = ندّ ينازعه العُلا تدبيرا
سبحان مَنْ جمُّ العطاء يزيده = جوداً , فيغني عائلاً وفقيرا
سبحانه عمّا تغلغل في النفو= س من الشكوك تساؤلاً وغرورا

وتتساءَلينَ.. بأيَّةِ لعْنةٍ قُتِلْ

ناظم حسون



قلتُ:
أَلا فاغْفِري لِطَيْشِ مُدْمِنِكِ
وتَرَفّقي بِعبْدِكِ المُؤمنِ
قُلْتِ:
هنيئًا لنا ذنوبُ ليْلِنا الثَّمِلِ
هنيئًا لنا صلاةُ فَجْرِنا المَسفوكِ
وأنفاسُ خطيئةٍ تَهُزُّ جِذْعَيْنا حُبًّا
ونتساقطُ أعنابَ مَسَرَّة

مُذْ ذُقْتُ نبْضَ قدَري..
ذُبْتُ في لُجَّةِ الخَطايا
هِمْتُ في خَمائِلِ وَصْلِكِ
تَنْتَشِلُني مِن نِداءاتِ لهيبِ الاشتياقِ
وما زال نايُ مَسائي يَعزفُ احتواءَكِ..
مُناجِيًا القمرَ

كأسي الهوْجاءُ تتوَهَّجُ بِغِوايَةِ ريحٍ
تُضيءُ غُيومَ السّاقية
تَسْتَثيرُ قُدومَ عاصفة
أنا.. بَعْثرَني أَرَقُ الهَذَيانِ
وامتطيتُ بأوهامي المثقوبةِ صهوةَ دمْعةٍ
تائهًا في سراديبِ شَعرِكِ اللّيْليِّ




كانَ بينَنا موعِدٌ مُخمَلِيٌّ.. وعطرُ عناق
يُضيءُ شموعَ القُبَلِ
يُنيرُ ليلَ حانَتِنا الحمراءَ...
يَسْفَحُ روحَيْنا في نشوةِ احتفالٍ

كأسِيَ الهوجاءَ امْلئيها مَواقيتَ حُبٍّ
أجيجَ لَيْلٍ
كم وَمَضْتُ فرَحًا!!
إذ أبْرَقَ طيفُكِ في سَماءِ تَرَقُّبي...
بجدائِلِهِ الخجلى يُكبِّلُني
بعيونٍ فاتنةٍ يسْبيني
بابتسامةٍ موسيقيّةٍ
تختالُ على ثَغْرِكِ القيثار
تَعزِفُني

كم أسْدَلْتِ ستائرَ أنفاسِكِ العَطِرَةِ
تراتيلَ جَمْرٍ تَفوحُ بنبيذِ الكلامِ
وتلذّذْتُ بشرابٍ بَرِّيٍّ... بلونِ شِعرِكِ
وَجْدُ أناملي تَشابَكَ في دَلالِكِ الجامح
يتعثّرُ بينَ قُيودِ مِعطفِكِ الشّقِيِّ
وأزقَّةٍ عاريةٍ تُطيحُ بزنّارٍ وثيابٍ
وتَفيضُ عصافيرُكِ زقزقةً على الصّدرِ
يَشُدُّنا للهاويةِ الحنينُ
ويتوهُ بنا اللّيلُ

كم هزّني الحنينُ لأهفُوَ إليكِ
أستنزفُ لذّتَكِ وتستنزفينَ آهاتي
تَهْدأُ ثورةُ أشواقِنا
وما انطفأَ بَعْدُ لهيبٌ يَتلظّى

ومَضَيْتِ في اختزالي
ذئابُ ليلٍ ترصّدَتْ ملامحَ تاريخي
تناثَرَتْ أشعارُ جنوني
في ثَغْرِ الكأسِ
مضيْتِ.. واختنقَ حُلمي بطلاسمِ هجْرِكِ
يسكُبُ الآهاتِ في فجواتِ ضياعي
وطيفُكِ الآسرُ ما زالَ....
يُضَلِّلُ شهيدَ حُبِّكِ والكأسِ
وتتساءَلينَ: بأيَّةِ لعنةٍ قُتِلْ!؟


ندوة الحوارِ الثّقافيّ حولَ "صهيل" للشّاعر يحيى عطالله



آمال عوّاد رضوان

في جاليري مركز تراث البادية عسفيا، أقام منتدى الحوار الثّقافيّ ندوةً تحت عنوان "صهيل الشّاعر يحيى عطالله"، وذلك يوم الخميس الموافق 25-2-2010، بحضور كوكبةٍ من الشّعراء والمثقّفين، مُستهِلاّ اللّقاء الشّاعر رشدي الماضي بكلمةٍ ترحيبيّةٍ بالحضور، وبضيفةِ المنتدى القاصّة "دينا سليم"، ومباركة بمناسبة عيد المولد النّبويّ الشّريف لدى المسلمين، وبداية الصّوم الأربعينيّ لدى المسيحيّين، ومباركة بباكورة أعمال الشاعر يحيى عطا الله، مستشهدًا بما قدّمتْهُ الأديبة راوية بربارة للكتاب:

"إنّه ينبئ ببدايةِ مسيرةٍ شعريّةٍ، ستجدُ لها مكانًا ومكانةً في شِعرنا المحلّيّ والعربيّ".

د. فهد أبو خضرة: القصائدُ تراوحُ بينَ الكلاسيكيّة والرّومانسيّة وامتداد لهما، يحاول الشّاعرُ أن يُعبّرَ عن ذاتِهِ كفردٍ، ومن ناحيةٍ أخرى كفرد من أفرادِ الأمّة العربيّة، فكثيرًا ما يتّخذُ ضميرَ الأمّة، فيتحدّث عن كثير من المشاكل السّياسيّةِ والوطنيّة، بما تواكبُ مِن أحداثٍ بشكل موفّق، وبأسلوبٍ خطابيّ مباشر يحاولُ قوْلَ الأشياء بوضوح، ويعنيهِ أن يصلَ صوتُهُ للمتلقّي وهذه سمةٌ أساسيّةٌ بالكلاسيكيّة، يصل للمعنى الّذي يريدُهُ، فهل هذا سيّء أم جيّد؟ لمصلحةِ الشّعر أم ضدّه؟ وكيف نُحدّدُ ماهيّة الشّعر؟ عند العرب الكلاسيكيّين الشّعرُ من جهةِ الشّكلِ والأسلوبِ هو كلامٌ موزونٌ ومُقفّى ويدلّ على معنى. أمّا الباحثون غير المتعصّبين للكلاسيكيّة فيقولون، الشّعرُ هو مِن صُنْع الكلماتِ وليس مِن صُنع الأفكار وإلاّ تحوّلَ إلى مقال، فهل حقًّا لو أخرجنا الوزنَ والقافيةَ مِن النّصّ صار الشّعرُ خطبةً سياسيّة؟ يقولُ الرّومانسيّون الإنجليز: الشّعرُ لا يمكنُ أن يخلو مِن الصّور الجماليّة، فهو أجملُ الكلام في أجمل نسق، أمّا الحداثيّون فيُركّزونَ على قضيّةِ الغموض، لأنّ الوضوحَ هو نثر يحاول اتّخاذ شكل الشّعر، أمّا الشّعر فهو إيحاءٌ لا يبدأ مِن التّحديد، فهل الشّعر العربيّ القديم في معظمِهِ يبدأ مِنَ التّحديدِ والكلام المنظوم ثمّ يتّجهُ باتّجاهِ الإيحاء؟ وماذا عن الشّاعر أبي تمّام مثلا؟ الشّعرُ فيه إيحاءٌ وغموض، وإيصالُه يتطلّبُ صورًا فنّيّةً جميلةً تحملُ إثراءً، لأنّ المتلقّي يكون حينئذ فعّالاً ومشاركًا، أمّا في "صهيل" فيغلبُ أن يكون دوْرُ المتلقّي سلبيًّا، يتلقّى وينفعلُ ولا يشاركُ في بناء النّصّ. وبالنّسبةِ للشّعر العربيّ ككلّ أتساءل: ما هو مستقبلُ الشّعر العربيّ؟ لا أظنُّهُ في طريقِهِ للعودةِ إلى القديم، إنّما هو متّجهٌ أكثر مع الحداثة، وأظنّهُ يحتاجُ إلى معادلةٍ تجمعُ بينَ القديم والحداثيّ، شرْطَ أن يستخدمَ الغموضَ الشّفّاف وليس الوضوحَ ولا الإبهام.

ناظم حسّون: "صهيل" الشّاعر يحيى عطا الله يرنُّ في سمْع الورى/

إنّ الفاحصَ المدقّقَ لن يضلَّ الطّريقَ إلى شخصيّةِ شاعرِنا، مِن خلالِ قصائدِهِ الّتي تجمعُ بينَ أصالةِ القديم وروعةِ الحديث، فطابعُ شخصيّتِهِ لا يُفارقُ أشعارَهُ، وشِعرُهُ يشفُّ عن شخصيّتِهِ الّتي تعتبرُ صدًى لحياتِهِ المتمرّدةِ، ولمشاعرِهِ الّتي انطلقتْ بها مختزناتُهُ الباطنيّةُ لواقع الحياةِ وشجونِها، وردّاتٍ لانفعالاتٍ عاشَها، وعبّرَ عنها بخصائصَ تثيرُ في القارئ عاطفةً وجدانيّة. لشعرِ يحيى عطا الله مجاهرةٌ واضحة، بعيدةٌ كلَّ البعدِ عن الغموضِ والتّعتيم، وأسلوبُهُ يجنحُ إلى السّهولةِ واليُسر، فنراهُ عنيفًا أحيانًا، ورومانسيًّا أحيانًا أخرى، وهذه فضيلةُ التّناقضِ الّتي تُميّزُ الإنسانَ الحُرَّ والأصيل. فشاعرُنا متمكِّنٌ ومُلمٌّ جدًّا باللّغةِ التي أحبّها، مع إتقانٍ في الوزن ورنينٍ عذبٍ في القافية، وقد استطاعَ مِن خلال ثقافتِهِ وفِكرِهِ تطويعَ اللّغةِ لتأديةِ أغراض عديدة في معظم قصائدِهِ، ونجحَ في ذلك، فتعاملَ مع الفِكرة كما يشعرُ بها في داخلِهِ وسلوكِهِ، فوصلتْ للمتلقّي بنفسِ الإحساسِ الذي عايشَهُ، فانفردتْ قصائدُهُ بروعةٍ لا يدانيهِ فيها إلاّ القليلُ مِن شعراءِ هذه البلاد. وإذا نظرنا إلى عنوان الدّيوان "صهيل"، فما الذي يريدُ إيصالَهُ شاعرُنا للقارئ؟ الجوابُ صيحةٌ يسمعُها الورى، وقد جاءَ في نهايةِ القصيدة الّتي تحملُ عنوانَ الدّيوان.

"ما الشّعرُ إنْ لم يَسَتفِزَّ وما القصيدةُ يا تُرى/ إنْ لم تكنْ مثلَ الصّهيلِ يرنُّ في سمْعِ الوَرى"

الكتابُ الشعريُّ "صهيل" يحوي بين دفّتيْهِ 29 قصيدة، ويقعُ في 112 صفحة من الحجم المتوسّطِ، وكلُّ القصائدِ جاءتْ مؤرَّخةً بتاريخ كتابةِ القصيدة مع وجودِ تفاوتٍ زمنيٍّ بينَ تواريخ كتابةِ القصائد، والّتي امتدّتْ بينَ الأعوام 1986 حتى 2009. وعدا عن بعضِ القصائد، فيمكنُ تقسيمُ "صهيل" إلى قسمين: قصائد وطنيّة، وقصائد غزليّة. ورغم خوْض شاعرنا قصيدة النّثر إلاّ انّ شيئًا ما يشدُّها إلى التّفعيلة، حتّى وإن لم تستقم أحيانًا على بحر واحد، لكن الموسيقا انسابتْ بشكل فنّيّ تشدُّ القارئَ ليتماهى مع الصّور الشّعريّةِ بكلّ أحاسيسِهِ، فجاءتْ مخالفةً للنّظام الغالب على نماذج شاعرنا المألوفة، مثل "وجه الغريبة"، و"حبق ونعنعة"، و"الرّسالة"، و"دعابةٌ جريئة"، و"دعيني"، ونرى أنّ جميعَها كُتبتْ حديثًا في الأعوام 2008 و2009، ونشهدُ هناك تحوّلاً ما، مِن الشّعرِ العموديّ لصالح الشّعر الحديث.

يؤمنُ عددٌ مِن النّقّادِ أنّ أهمّيّةَ شاعرٍ ما، تكمنُ في قدرةِ شِعرِهِ على تصوير عصرِهِ، وعلى تصويرِ نفسِهِ كإنسانٍ وكائنٍ حيٍّ، يشاهدُ ويتعذّبُ ويتألّمُ ويُحبُّ، ويثورُ ويغضبُ ويَبكي ويَضحكُ، وقصائدُ "صهيل" تؤكّدُ مشاركةَ وانخراطَ شاعرِنا في واقع عصرِهِ الاجتماعيِّ والسّياسيِّ، فيعلو صهيلُ فرسِهِ الجامحِ بحرارةٍ كحرارةِ البارود، حاملاً كلّ ما تزدحمُ به هذه البقعةُ مِن قلق وتوتّر، فاتّسمتْ تجربتُهُ بروح التّمرّد ليغوصَ في الأعماق، ويتحفَنا بنصوص مكثّفة مِن الشّعر والشّعور المفرَط في التّفاعل، مع الأحداث الموجعة للواقع السّياسيّ والاجتماعي المنخور مِن الدّاخل والخارج، فجاءتْ قصائدُهُ مواجهة ضدّ التّيّار، وقفَ فيها موقفًا صادقًا وشجاعًا في التّعبير عن مظاهر التّمييز والتّفرقة ضدّ أبناءِ شعبهِ ووطنه، وقد أنهكَتْهُ محنةُ الاستعمار بواقعها المؤلم، لتعلو صيحتُهُ مدوّيةً في وجهِ الجور والوحشيّةِ والاستبدادِ مِن قِبلِ النّظُم السّياسيّةِ والاجتماعيّة، ليُطلقَ عنانَ فرسِهِ الجامح ليستنهضَ الهمم، ويرفعَ لواءَ التّمرّد والعصيان في وجهِ الغاشم بصورةِ التّعبيرِ المباشر، ورغمَ أنّ هذا الأسلوبَ يخلو مِن الإثارةِ والغموض، إلاّ أنّه بحماسِهِ بالغ النّزْفِ نسَجَ بحروفٍ من نار ونورٍ أبهى القصائد، كقولِهِ في قصيدة: "ستون" ص8

لا تفرحوا / وأمامكم كلّ الوثائق/ فلتنظروا ولتسمعوا/ ولتقرؤوا غضبَ الجريح

تقبّلوا ألمَ الحقائق/ مَن ليس يُفهمه الكلام/ فسوف تُفهمه البنادق

قليلاً ما نجد شاعرًا بهذه الجراءة، يتحدّى السّلطةَ التي تتجاهلُ كلّ المبادئ والقيم الإنسانيّة، فجاءَ ليثأرَ لكرامةِ عروبتِهِ المغتصَبة، وهو يدري أنّ الحرّيّةَ لن تُؤخذَ بغير الدّم والسّلاح، فيَصِلُ به الحالُ في بعض القصائد أن يتعالى صوتُهُ، ليصلَ درجة الصّراخ الذي يستثيرُ التّأمّلَ والتّفكيرَ في الواقع الكئيب. وفي قصيدةِ "قفا نبكِ" نجدُ النّقدَ الشّعريّ في تساؤل شاعرنا عن القيم الإنسانيّةِ والكرامة، تمزّقُ الأقنعةَ الزّائفةَ عن وجوهِ الحكّام العرب، فصوّرَ لوعتَهُ ورسمَ صورةً جريئةً للحياة والصّراع في المجتمع العربيّ البائس، فيقول ص 13

"عربٌ بحجمِ شعارِهم/ عربٌ بوزنِ نعالِهِم/ عربٌ بعرضِ عباءةٍ/ وبِطولِ عشر لسانِهم/ أينَ الكرامة يا ترى؟!"

وهنا تحضرُني صرخة الشّاعر(مظفّر النوّاب): "القدسُ عروسُ عروبتِكم/ فلماذا أدخلتم كلَّ زناةِ اللّيل إلى حجرتِها؟ ووقفتم تستمعونَ وراءَ الباب لصرخاتِ بكارتِها/ وسحبتم كلَّ خناجركم/ وتنافختم شرفًا/ وصرختم فيها أن تسكتَ صونًا للعِرض/ فما أشرفكم / أولاد القحبة هل تسكتُ مغتصَبَة؟"

و تعلو صرخة يحيى عطاالله في ص 17

القدسُ عاصمتي أنا/ لكن معراج النّبيِّ لكلّنا/ الله أكبر يا مواجعَ أمّتي/ النّصرُ نصرُكِ/ والشّهادة لي أنا

كثيرًا ما تكونُ حياةُ الشّاعر متحدّيةً لواقعٍ أو موقفٍ ما، ففي هذا الخطابِ الشّعريّ يتحوّلُ مِن رقيقٍ إلى نسرٍ كاسح، يُخاطبُ قلوبَ جيلٍ بكاملِهِ بعباراتٍ غاضبة، ويَحثُّهُ على الانتقام مِن الغاصبِ واسترجاع الفردوس المفقود (القدس)، فهذا الارتباط والتّعلّقُ بالوطن جعلَ شاعرَنا يطلبُ الشّهادة، ويهدي النّصرَ لشعبِهِ الذي أحبّهُ مِن كلّ عروق القلب.

القسمُ الثّاني مِن الكتابِ ينحصرُ في قصائد الغزل، تتخلّلهُ الصّورُ المجرّدةُ والحسّيّة، وهو يخاطب الحبيبة، ويتحدّثُ عن ذاته بأشجانها المتمرّدة بنبرة حماسيّة، تفيضُ بعفويّةِ إحساسٍ يعبقُ بالمشاعر العميقة، فتثيرُ في القارئ بهجةً ودهشة بصورٍ أخّاذة، ومشاعر دافئة وفطرة صادقة، كيف لا وشاعرُنا عاشقٌ وثائرٌ، سكبَ حِبرَهُ العبقَ فأروى "الصّهيل" برحيقِ الكلام العذب الصّافي، سواءً في قصائدِهِ الغزليّةِ أو الوطنيّة. في قصيدة "أنا"

هذا أنا/ آتي إليك بما أنا/ وكما أنا/ لا آخر لي في الحياة/ وليس لي بعض هناك وبعضِيَ الثّاني هُنا

في هذا المطلع نُحسّ التّعبيرَ بالصّورة للإنسان واثق الخطوة، يبثّ مشاعرَهُ بصورة جميلة تحملُ ما تزخرُ به مِن مشاعرَ وأحاسيس صادقة، عندما يخاطبها ص.74 / مهما عذلت وغرر منك الكلام/ فلن أكون سوى أنا

وفي قصيدة "حتّى متى" ص.75 / حتّى متى سيظلّ وجهُك غائبًا/ وإلى متى تبقين عنّي مدبرة

هنا كما في كثير من الصّور يستعمل التّعبير المباشر في حديثه مع الحبيبة محاولاً إرضاءَها، ثمّ ينادي ص.59/ يا يوسف الحقني بمعجزة تُغيّرُ حَالتي

المباشرةُ والأسلوبُ النّثريّ الذي استعملهُ هنا، وعلى الرّغم مِن مهارتِهِ اللّفظيّة وقدرتِهِ على إحكام الأوزان، إلاّ أن التّعبيرَ يظلُّ واضحًا بعيدًا عن الإيماء والتّمويه، ونرى ذلك جليًّا أيضًا في قصيدة "دعيني"، و"اعشقيني"، وَهيَ من أجمل قصائد المجموعة، يفتحُ الشّاعر صدرَهُ للحبيبة ويُناجيها بنمطٍ موسيقيٍّ وفق إيقاعٍ ينبض بإحساس، وبصورٍ تستهويكَ بإغرائِها وكلماتها الرّومانسيّة السّاحرة، وتمنحُ عاشقها شعورًا بالخدر ص75

جرعةٌ أخرى وأثملُ/ فاعشقيني مِن شغافِ الرّوح ِ/ واحتلّي كياني/ إنّني ظمأُ الهوى/ وهواكِ للظّمآنِ جدولُ

لكن سرعانَ ما تنبعثُ هذه الصّورةُ الجميلةُ للحبيبةُ بصورةِ الوطن فيقول ص 78: ثوري/ واعشقيني ثائرًا/ أستلُّ سيفي مِن فمي/ أستلُّ عشقي مِن دمي/ أنا جارفٌ كالسّيلِ عشقي/ جامحٌ كالعاصفة/ هاتي صلاتَكِ/ واعشقيني عابدًا

شاعرُنا استعملَ المفرداتٍ: ثوري، أستلُّ سيفي، دمي، جارفٌ كالسّيل، جامحٌ كالعاصفة، وهذه المفرداتُ قليلاً ما تستعملُ عادةً في التّغزّل بالحبيبة، لكن صورة الحبيبة هنا حملتْ إيماءاتٍ فنّيّةً ورموزًا غنيّةً مشبعةً بالهمّ، انتفضتْ لتنبعثَ في صورة الوطن. وفي ص 100 يقول: فإنْ تتورّدْ خدودُكِ عندَ الهجيرِ/ لشمس انتظار طويل/ فنسمةُ حبّي عند البحار ستأتي إليكِ/ لتلفحَ خدَّكِ/ تمحو الهجيرَ/ وتبقي التّورّدَ في وجنتيْك

هذا هو يحيى عطا الله، وهذا هو الحبُّ المحتشم، إنّه يُغري الحبيبةَ، لكنّه لا يهتك ستر الحبّ. لشاعرِنا صورٌ ذهنيّةٌ مبتكرةٌ تزخرُ ببراعةِ المعاني، صاغها بإتقانٍ:

الجرحُ أكبرُ مِن دمي، لي أخوةٌ عدد الحصى، صلّيتُ في أقداسِ عشقي ، سليلَ هزيمةٍ، لكلّ ذئبٍ حصّةٌ في لحمِكم، أقصيتِ غيمكِ عن سماءِ مواسمي، جرعةٌ أخرى وأثملُ، أدمنتكَ حتّى أدمنتَ شفاهي.

وفي النّهاية، لا بدّ مِن كلمةِ تقدير لمقدّمة الدّيوان الكاتبة راوية بربارة، التي أثنتْ وبكلماتٍ شاعريّةٍ على شعر يحيى عطا الله، ووصفته بأنّه يهزُّ بعضَ الثّوابتِ وبعضَ المفاهيم الملتصقةِ بالأذهان، ويُراوح بينَ عموديّةٍ تقليديّةٍ وحداثةٍ لها ما بعدها. هذا "الصّهيلُ" كان كافيًا لإشباع فضولي، فكلُّ التّقدير لشاعرنا الموهوب يحيى عطا الله، وإلى المزيدِ من التّألّقِ والإبداع.

د.بطرس دلة: الشّعرُ ديوانُ العربِ ومبعثُ الطّرب، لأنّهُ يدخلُ شغافَ القلوب فيشبقُها رقّةً وإحساسًا ومتعةً، خاصّة عندما تنسجمُ كلماتُ الشّاعر في نشيدٍ سماويٍّ تطربُ له الملائكة، ويهتزُّ الوجدانُ إذا ما رنّ في مسامع الورى، كما يقولُ شاعرُنا في ديوانه على الغلاف الأخير:

ما الشّعرُ إن لم يستفزَّ وما القصيدةُ يا ترى/ إن لم تكنْ مثلَ الصّهيل يرنُّ في سمْع الورى

هذا الدّيوانُ الصّغيرُ حجمًا والكبيرُ نوعًا هو انعكاسٌ لصهيلِ فارس مِن فرسان الكلمة، فارسٌ في قوْلِ الشّعر وفارسٌ حقيقيٌّ في حياتِهِ اليوميّة، لذلك عندما يتحدّث الى "ابن العتاق" مناجيًا إيّاه، فإنّه يقصدُ حصانَهُ المدلّلَ الّذي يمتطي صهوتَهُ يوميًّا، ليطيرَ به إلى ربوع "يركا" والطّبيعةِ الخلاّبة المحيطةِ بهذا البلد، والمشرفةِ على المنطقة كلّها مِن علٍ حتّى البحر المتوسط، في شطحاتٍ يجدُ فيها فارسُنا متعةً ما بعْدَها متعة، لأنّ أعزّ مكان في الدّنى سَرجٌ سابحٌ، وهو إذ يعتزّ بالكتاب فإنّه يعرفُ جيّدًا أنّ خيرَ جليس في الزّمان كتاب، مِن هنا ومِن على صهوة الجوادِ جاءتْ حروفُ هذا الكتاب، كلعلعةِ البرق وحِمم البراكين وهزيم الرّعدِ وهديرِ البحر، وحتمًا صفير الأعاصير وزئير الأسود والنّمور، ولكنّه إلى جانب هذا الصّخب الهائل نجدُ فيه قلبًا رقيقًا، يُصلّي في محرابِ الحُبّ وفي حقول وهضابِ الوطن، فيهزجُ مع العصافير على كلّ فنن، ويهمسُ حينًا كما توشوشُ زنبقةٌ صغيرةٌ جارتَها، ويرفعُ يدَهُ في تحيّةٍ تشبهُ تحيّةَ السّحابِ للتّراب، فيرويهِ مِن عذْبِ مائِهِ ويبعثُ الحياةَ في البذور، كي تنبتَ فيأتي الرّبيعُ مُهلهِلاً ضاحكًا.

في صريرِ الكلمةِ وتوتّرِ أوتارِهِ تسيلُ روحُهُ عذوبةً وشعرًا رائعًا، ونغمًا فيهِ الكثير مِن الرّجولة، ولونًا قل هو لون مِن ألوان الفراديس، ليفيضَ الكلامُ مع أوزان الخليل وبحورِهِ متدفّقًا بعذوبةٍ خاصّة، لأنّ شاعرَنا إنسانٌ كبيرٌ ينسجمُ مع اللّحنِ وروعةِ الفنّ بكلّ ما تحملُهُ هذه الكلمةُ مِن معانِ، ولمّا كانَ حصانُه "ابن العتاق"، فمعنى ذلك أنّهُ حصانٌ أصيلٌ، وهو يؤكّدُ ذلك في شهادةِ الانتماءِ إلى عائلةِ الأصالةِ للخيول العربيّةِ الشّهيرة في العالم كلّهِ، ومع أنّهُ لم يذكر اسمَ حصانِهِ ولا حتّى مرّة واحدة طوالَ ديوانِه، إلاّ أنّه يشعرُ بشيءٍ كبيرٍ مِن الاعتزاز والحماس حيث يقول ص 48:لا فارس غيري اعتلاك مهلهلا / ومرتّلاً ألحانَ بادية جديدة

أنا يا حصاني ما اقتنيتُكَ مترفًا/ بل مسرفًا في عشق رنّات الصّهيل

يتغزّلُ بصهيلِ حصانِهِ وبهمهمتِهِ، أي ضبْحِهِ الّذي يرنّ في أذنيْهِ، فيشعرُ أنّه سيظلُّ في علياءِ متْنِهِ فارسًا بالرّغم مِن نزق الشّكيمة؛ أي عندما يحرنُ الجوادُ فلا يُطيعُ صاحبَه.

الطّابعُ الوطنيُّ لقصائدِ القسم الأوّل مِن الدّيوان:

لم يقعْ اختيار القصائد الاولى صدفة، بل اختارَها لتُغطّي حوالي ثلثَ مساحة الدّيوان مِن الشّعر الحماسيّ الوطنيّ، والثّائر على أوضاع الأمّة العربيّةِ وعلى أدوارِ المُلوكِ والرّؤساءِ العرب المُتخاذِلينَ إزاءَ سياسةِ المُحتلّ، وحضارةِ العولمةِ الّتي تتّهمُ حضارتَنا العربيّةَ الإسلاميّةَ بأنّها حضارةُ عنفٍ وإرهاب، خاصّةً بعْدَ سقوطِ البُرجيْن الشّهيريْن؛ أي بورصة نيويورك بأيدي طيّارين مسلمين، درّبَهم وموّلَ نشاطَهم الثّائر أسامة بن لادن، والّذي تبحثُ عنه أمريكا بطائراتِها وشبكاتِ تجَسُّسِها منذ تسع سنواتٍ ولا تجدُهُ.

ولا ينسى المُحتلّ الإسرائيليّ لأرض الوطن، حيثُ مرّ على نكْبتِنا أكثرّ مِن ستّين عامًا، وتمّ تشريدُ القسم الأكبر مِن الشّعب العربيّ الفلسطينيّ في خيام الذلّ والغربة، فباتتْ قضيّةُ اللاّجئينَ القضيّةَ الوحيدةَ الّتي خلقتْها حرب 1948، ولم تجد الأوساطُ الدّوليّةُ لها حلاًّ يُرضي الطّرفيْن، فتآمرتْ على أرض فلسطين وضمنتْ قيامَ الدّولةِ الإسرائيليّة، على حسابِ حقوق الشّعب الفلسطينيِّ في تقريرِ مصيرِهِ! فكلُّ قضايا اللاّجئينَ الّتي ثارتْ بينَ الحربيْن العالميّتيْن وجدتْ لها حلولاً، إلاّ قضيّة شعب فلسطين الّذي يشعرُ بالغربةِ حيثُما حلَّ، وما زالتْ سلطاتُ إسرائيل تقتلعُ الورْدَ مِن أحضانِ حدائقِنا، وما زالتْ أعيادُ المُحتلِّ الغاصِب فيها أفراح العواصف، فإذا ما عيّدَ هذا الغاصب كانَ العيدُ للإنسانِ العربيِّ احتراقًا لهُ لهيبُ المحرقة، لذلك نجدُ شاعرَنا يخرُجُ مِن لغةِ الشّرح الإخباريِّ إلى لغةِ التّهديدِ والوعيد، لأنّهُ إذا لم تفد المفاوضات، فإنّ البنادقَ كفيلةٌ بتفهيم المُحتلِّ كيفَ ولماذا يجب أن يَعدلَ عن سياستِهِ الغاشمة.

نحن لا نوافق الشّاعرَ فيما خلُصَ إليهِ مِن ضرورةِ اللّجوءِ إلى السّلاح للتّوصّل إلى الحلّ المُرْضي، وذلك لأنّ مَن ليس له كيف يلجأ للسّلاح؟ ولا ننكرُ أنّ شاعرَنا يقولُ كلمتَهُ بجرأةٍ وصراحةٍ وبطولةٍ نادرة، وكأنّهُ يُعيدُ ما كان القائد جمال عبد النّاصر يؤكّدُهُ في معظم خطاباته، (إنّ ما أُخِذ بالقوّة لا يُستَرَدُّ إلاّ بالقوّة)، إلاّ أنّ هذا الفكرَ باتَ غيرَ مُجْدٍ إزاءَ الأمر الرّاهن، والواقع الّذي نعيشُهُ كعربٍ تحتَ ظلِّ السّلطةِ الإسرائيليّةِ الغاشمةِ والمغتصِبة، ناهيك عن أنّ لغةَ القوّةِ والحلول العسكريّةِ والاغتيالات باتتْ مِن مُخلّفاتِ الماضي الّذي لا تقبلُهُ مجتمعاتُ القرن العشرين، ولا الأوساطُ الدّوليّةُ ذات الوزن في كلّ صراع، هذا على الرّغم مِن أنّ هذه الأوساط تلجأ بنفسِها إلى قوّة السّلاح، كما حصل في كوريا وفيتنام وكمبوديا والعراق، والخطر الدّاهم الّذي يهدّدُ سوريا وإيران حاليًّا. إنّ اللّجوءَ إلى السّلاح والاحتكام لمنطق العنفِ والقوّةِ باتَ مُستنكَرًا ومَمجوجًا ومرفوضا، مِن قِبلِ جميع مُحبّي السّلام في العالم الأرحب.

في قصيدتِهِ "قفا نبْكِ" يعلنُ ثورتَهُ إلى حدّ التّماهي مع عروبتِهِ، إلى جانب نقمَتِهِ على العروشِ العربيّةِ الّتي باتتْ متأمركةً، فيَخلُصُ بنتيجةٍ واحدة هي أنّهُ ليس للفلسطينيِّ إلاّ أن يأخذَ مصيرَهُ بيديْه، لتظلَّ القدس عاصمةً لدولتِهِ، وسلاحُهُ البكرُ هو الحجرُ الأبكمُ الأصمُّ الّذي نطقَ ثورةً وكبرياءً في أيدي أطفالِ الحجارة الشّجعان، ليتحوّلَ كلٌّ منهم إلى داوود، ومقلاعُهُ مقابلَ سطوةِ الجبّار عملاق الرّدى، وليبقى الفلسطينيُّ وحيدًا لأنّهُ لم يبْقَ في وادي الشّرِّ أُسدٌ سواه، كلُّ ذلك على الرّغم مِن أنّ إخوتَهُ كثيرون بعددِ الحجارةِ الثّائرة، ولكنّهم لا يُساندونَ هذا الشّعب إلاّ بالكلماتِ، وهكذا سيمضي وحيدًا، فسلاحُهُ الحجارةُ وإيمانُهُ بعدالةِ قضيّتِهِ، ولمّا كانَ يرى في قضيّةِ العراق قضيّةً فلسطينيّة، وهو الإنسانُ المؤمنُ بعروبتِهِ إيمانًا وثيقًا وراسخًا فيه طُهرُ العروبةِ المقهورةِ والمهزومة، فإنّه يرجو خَلاصَها مِن نيرِ الاحتلال بكلِّ ثمن، وبالمقابل يشنُّ هجومًا عنيفًا على قادةِ وزعماءِ العالم العربيّ، فيُسمّيهم "عرب الطّزّ" و"لعنة الأمّة"، ممّن أتخمَهُم شحمُ النّفط فنَسَوْا أمّهاتهم، حتّى أنّ أقفيَتَهم باتتْ لا يُدفئُها سوى كراسي الحُكم. من هنا فإنّهُ لا يؤمنُ باجتماعاتِ رؤساءِ العرب ولا بقراراتِهم، خاصّة وأنّ كلّ إنسان يعي صعوبةَ اتّخاذ القراراتِ المصيريّة الّتي ستقفُ كلّ دول العالم ضدّها.

فؤاد السّنيورة هو رئيس حكومة لبنان، بكى وهو يطرحُ موضوعَ العدوان الإسرائيليّ على لبنان، بينما تقف الدّولُ العربيّةُ متفرّجةً، حيث يقولُ للسنيورة: أنا يا فؤاد أمام عينيْكَ أنحني وأُجِلُّ دمعَكَ مِن صميم فؤادي

فانظرْ إليه يتلاعبُ بالكلمات، فؤاد سنيورة وفؤاده هو في جناس تامّ، وينتقلُ خلالَ القصيدةِ إلى تناصٍّ خاصٍّ عندما يذكرُ أرضَ الميعادِ الّتي وَعدَ بها الله أبانا إبراهيم الخليل بقولِهِ:

ستّين عامًا في فلسطينَ استُبِحْنا كالشّياهِ لصاحبِ الميعاد

ويلجأ ثانية الى التّناص في صفحة 78 في قصيدتِهِ "اعشقيني" حيث يقول: اعشقيني حافزا للرّاجفة. والرّاجفة كما يُبيّن في الهامش هي النّفحة الأولى في الصّور يومَ القيامة، وبالرّغم مِن موضوع الوطنيّة الّذي نحن بصددِهِ، إلاّ أنّ ذلك لم يمنعْهُ مِن اللّجوءِ إلى لغةٍ فنّيّةٍ رفيعةِ المستوى، حيث يلجأ إلى المُحسّناتِ البليغةِ فيقول في نفس قصيدته لفؤاد السّنيورة: والآن غزة تستحمُّ بدمِها وتنوءُ تحتَ القاصفِ الهداد/ أعلافُ أمريكا تبطّر خيلَهُ وتمدُّهُ بتفوّق وعتاد/

ويجدُ عذرًا لدموع السّنيورة بقولِهِ: لا غرو إن غرقَ الرّجالُ بدمْعِهم وتلفّعتْ كلُّ النّسا بسواد

فكيف تستحمُّ غزة بدمِها وكيفَ يغرقُ الرّجالُ بدمعِهم؟ كنتُ أفضّلُ كلمة يَشرَقُ بدلاً مِن (يغرق)، وهو إذ يرى دموعَ السّنيورة إزاءَ الوزراء العرب الّذين لا حول ولا قوّة لهم، يدعو فؤاد إلى نزْفِ دموعِهِ بقولِهِ:

فاذرفْ دموعكَ يا فؤاد فإنها فيضُ الأسى من مهجةٍ وفؤاد

أمّا في قصيدتِهِ إلى أحرار الجولان ص 37، فيكثر من التّلاعب بالكلمات والبلاغة بالجناس:

في مجدل الشّمس ارتقتْ وترعرتْ في الشّمس من أسمائهم أسماء (جناس تام)

وبعين قِنيا لا تلينُ قناتهم وبسعد "مسعدة" هم السّعداء (جناس غير تام)

أمّا إذا بسط السّلام بساطَهُ تحتَ الرّبيع فشعبك المعطاء (وهذه محسّنات لفظيّة بليغة)

مِن هنا نستطيع أن نفهمَ لماذا اختارَ شاعرُنا اسمَ "صهيل" يتوّج به ديوانه، لأنّ كلمة الصّهيل تُعيدنا إلى أمجادِ العرب القدامى الّذين اعتنَوْا بالخيل وربّوها، واعتلَوْا صهواتِها في حروبِهم منذُ فجرِ الإسلام، ولأنّ الحصانَ كانَ دبّابةَ العصورِ القديمةِ والوسطى حتّى مطلع العشرين.

ديوان صهيل والحداثة:

الدّيوانُ الممّيز هو ذلك الدّيوان الّذي يقرؤُكَ إذ أنتَ تقرؤُهُ، فلا تأتي على آخر فصْلٍ مِن فصولِهِ حتّى تحسّ أنّك كنتَ جدولاً فأصبحتَ نهرًا، أو كنتَ نهرًا فأصبحت بحرًا، أو كنتَ تُفتّشُ عن بابٍ فانفتحتْ في وجهِكَ عدّةُ أبوابٍ، وتُفتّشُ عن أفقٍ واسعٍ فتنكشفُ لكَ آفاقٌ تُتاخمُ الأزلَ وأبدَ الآبدينَ على حدّ تعبيرِ ميخائيل نعيمة في كتابِهِ "الغربال الجديد" ص 203.

أمّا الكتابُ الّذي تنشرُهُ فيطويكَ، ويأخذُ منكَ ولا يُعطيكَ ويَسلبُكَ فيُضلُّكَ، فهو كتابٌ سوادُهُ على بياضِ أوراقِهِ وعلى السّاعاتِ والأيّام المهدورةِ في تصنيفِهِ وطبْعِهِ وتصديفِه، والفنُّ الشّعريُّ يجبُ أن ينضحَ بالحيويّةِ والحركةِ، وأن يضجَّ بالحياةِ بأوسع مفهوم لها بدلاً مِن الرّكودِ والسّكون، والصّهيلُ هو الحياةُ الصّاخبةُ الّتي عشناها مع هذا الدّيوان، وهو ككلِّ عِلم يُساعدُنا في معرفةِ أنفسِنا لِما فيه مِن دخانٍ ونورٍ ونارٍ متوهّجةٍ،

وصهيلُ هذا الدّيوان مليءٌ بالوهج والنّور الدّافقِ المُعبّأ بالفراشات على ألحان الخليل دونَ تكلّفٍ أو صناعةٍ، فيخلقُ نفسَهُ مِن خلال قصائدِهِ، ولو لم يعمل ذلك لجاءَ شعرُهُ سخيفًا وفارغًا بلا معنى وبلا قيمة، ومِن خلال الصّراع بين الكلاسيكيّ والمُحدَث، يصنّفُ شاعرُنا نفسَهُ مع الصّنف الأوّل، وهو الشّعر على طريقةِ بحور وقوافي الخليل بن أحمد، ولا يرضى ولا يطيقُ الشّعرَ على طريقةِ الحداثة والحداثيّين.

في فلسفةِ الحياة:

في قصيدتِهِ "أهيمُ ملءَ جنوني" الّتي هي من أروع قصائدِ هذا الكتاب، وجدتُ شاعرًا وفيلسوفًا ومُفكّرًا تأخذُهُ القوافي وبحورُ الشّعر إلى مسافاتٍ بعيدةِ المدى، فيسرحُ فيه الخيالُ إلى عالم الأوهام والسّحر، فيَصُفُّها على الورقِ سطرًا سطرًا، لتأتي قصائدُهُ عنقاءَ مُطهّمةً تعدو وتصهل في حوماتيّة الشّعر، ثم يتساءلُ، ألا تستطيع الخيلُ الرّقيّ إلى القمم العاليةِ، وهي معشوقة النّسور حيثُ يهوى الإقامة هناك بينَ القمم، كي يُشفي ما بنفسِهِ من داء؟ يبدأ قصيدتَه بقوله: أهيمُ مِلْءَ جنوني في سفرٍ مرّ المسافة بينَ الرّوح والحبر

ونحن نسألُهُ عن هذه المسافة بين الرّوح والحبر كم تكون، بالأمتار أم بالأميال؟ ثمّ لماذا يهيمُ ملءَ الجنون؟ ثمّ في هذه المسافةِ يُتابعُ رحلتَهُ في بحور الشّعر، فتأخذُهُ الهواجسُ ليرتقي إلى الجبال العالية، لأنّ القصيدةَ عندَهُ تشبهُ عناقَ الخيل إلى حدٍّ بعيد، فالقصيدةُ عنقاءُ مطهّمةٌ وهذهِ صفاتُ الخيل. ولكن في غزليّاتِهِ وحسب التّواريخ الّتي ذيّل بها قصائدّهُ، كان قد كتبَ معظمَ غزليّاتِهِ في فترة الشّباب والصِّبا، فإذا كانَ هذا صحيحًا، أي أنّ بعض القصائد كُتبت قبل حوالي 20-25 سنة، فلماذا أدخلَها في هذا الدّيوان ولديهِ مِن الشّعر الشّيء الكبير؟ فهل هو الخجلُ مِن العشق وقد تجاوزَ العشرين عامًا بقليل؟ أم حقيقة؟ فقصيدة "اعشقيني" كُتبتْ عام 1986، و"تنتظرين" عام 1981، أي عندما كانَ في العشرينات مِن عمره، ومع ذلك فغزليّاتُهُ الأخرى تعودُ إلى الأعوام 2006 و2008 وهلمّ جرّا.. وأنا لا أرى في القصائد الغزليّةِ غضاضةً مطلقًا، فالغزلُ يكتبُهُ الكهولُ كما يكتبُهُ الشّباب، والصّبايا الحِسانُ يعشقنَ شعرَ الغزل على قول أحدهم: والغواني يغرّهنّ الثناء!

في هذا الدّيوان يبدو صاحبُنا متعصّبًا للقصيدةِ الكلاسيكيّةِ على بحور الخليل بن أحمد، بعيدًا عن الشّعر الحُرّ وشعر الحداثة، حتّى أنّه يهزأ بهذا النّوع مِن الشّعر الدّخيل على اللّغة العربيّة، فيخاطب حصانه ص 48 بقوله في قصيدة صهيل: الخيلُ مِن فجر الدنى كانتْ خميرَ خرافة/ كانت نفيسة أهلها وشعار بادية كريمة/ كانتْ فتيلَ حماسة وصديقة الشعر الحميمة/ كانت وقودَ قصائد الفرسان/ تحملُهم إلى عزّ النّشيد إلى لهيب قصيدة/ والآن في برد الحداثة أين اسمُك يا حصان؟/ وأين رسْمُك في القريض وأنت رمز حماسة؟

إذًا هو يريدُ الشّعر الموزون المقفى، ولذلك يتابعُ أسلوبَهُ على الموزون المقفّى على الغلافِ الخارجيِّ الخلفيّ للدّيوان، وهناك عدّة دوافع تجعلُ الشّاعر يكتبُ باللكلاسيكيّة: لأنّ الشّعرَ الموزونَ المقفّى أسهل للحفظ/ لأنّ إلقاءَ القصيدة الكلاسيكيّة أقربُ إلى القلب بسبب جَرْسِها الموسيقيّ/ لأنّ هذا الشّعر له رنينٌ خاصٌّ في الأذن/ لأنّ أصحابَهُ يعتقدونَ أنّ الشّعرَ المُحدَثَ هو شعرٌ غريبٌ على اللّغة العربيّة ومستورَدٌ، لذلك يجبُ عدم الاهتمام به، لأنّ شاعرَنا يريد أن تكونَ القصيدةَ رنّانةً خطابيّة، يسمعُها السّامعُ فيطربُ لدى سماعِها،

ومع عدم محبّتِهِ لشِعر الحداثةِ إلاّ أنّه في قصيدته "أنا" يعود فيكتبُ الشّعر المُحدَث، ولكن بدون تعميةٍ أو إبهام، وقد يكتب القصيدة المحدثة مع كونِهِ ينتمي إلى الطّائفة المعروفيّة، إلاّ أنّه يعاقرُ الخمرةَ حتى ويتغزّل بها. وأخيرا يخرج الشّاعر في قصيدتِهِ الأخيرة عن اللّغةِ الفصحى "زهر اللوز" ص 109، في أغنيةٍ للشّاعر محمود درويش وباللّغة العامّيّة. هذه القصيدة غنائيّة وتصلح للتّلحين، فهي على البحر المحدث الّذي تفعيلاته فاعلن أو فاعل أربع مرات في كل شطر، وهي تبدو راقصةً حيث تنسابُ الكلماتُ مع اللّحن النّاعم في انسجامٍ تامّ، ومع كونِها أغنية راقصة إلاّ أنّ بين سطورها الشّيءَ الكثير من الوطنيّة الصّادقة، مع أمل أن يعودَ اللاّجئون إلى قراهم وأوطانِهم، فالشّاعر محمود درويش عاشَ الغربةَ عن مسقط رأسه "البروة" في الجليل، ومن حقّ أبناء البروة وغير البروة من الفلسطينيّين الّذين يعيشون في خيام الذّلّ والتّشرّد العودةَ إلى ديارهم، تمشيًا مع قرارات هيئة الأمم المتّحدة الّتي تضمنُ حقّ تقرير المصير. أخيرًا نقول للأستاذ يحيى عطالله تحياتنا لك أيّها الشّاعر المجيد، وليبْقَ قلمُكَ سيّالاً وشعرُكَ صهيلاً مُهلهلاً، يدخلُ شغافَ القلوب فيُطربُها في حماسٍ كلّهُ متعة وبهجة!



الشاعر جورج جريس فرح: قراءة عابرة في مجموعة "صهيل" للشاعر يحيى عطالله

يقع ديوان شاعرنا يحيى عطالله في 112 صفحة من القطع المتوسط ويشمل 29 قصيدة. قدّمت له الأديبة الباحثة راوية بربارة، فاستهلّت بقولها: هو حبرٌ تأخر فوحُ طيبه، لكنَّ أريجَ المسكِ يفضحُ صاحبَه.

اختار شاعرنا تسمية ديوانه "صهيل" وهو عنوان قصيدة من المجموعة وردت في صفحة 72 يختتمها بقوله:

ما الشعرُ إن لم يستفزَّ؟ وما القصـيدة ياترى؟/ إن لم تكن مثلَ الصهيلِ، يرنُّ في سمعِ الورى؟

يستدعي الشاعر كلماته مما ينسجم مع حالته الوجدانية، فجاء صهيلهُ في قصائدة التي طرق فيها مختلف المواضيع صارخًا مدويًا، صادقًا وشفافًا. وقد صهل متألمًا لما آلت إليه الأمة من هوانٍ، فقال في قصيدة "قفا نبكِ"، التي يذكّرنا عنوانها بمعلقة امرئ القيس:

أين الكرامة يا ترى؟ / أتُرى يطيب مقامُها في أمّةٍ/ ما زال فيها الخبز أكبرَ مسألةْ؟/ والسقفُ أصعَبَ مُعضِلَة؟

وصهل في قصيدة "يا فرات" متألمًا لما حل بالعراق من تفكك وتشرذم:

أُثقِلتَ بالدفـقِ المريرِ وقد غـدا فيكَ الخريرُ قصيدة الأحزانِ

لا تشكُ من بغيِ الغريب بقدرِ ما تشكو من الأخواتِ والإخوانِ

ماذا يضير الشمسَ لو من حولِها قمرٌ وحيـدٌ دارَ أو قمرانِ؟

وصهل مُطلقًا صرخته، متهكّمًا في "قمَة ماذا؟":

يا عربَ "الطزِّ"، ويا لَعنةَ هذي الأمَّةْ/ يا من يُتخمُكمْ شحمُ النفطِ / فينسى الواحدُ منكم أمَّه!

وصهلَ متألمًا لألم لبنان حين بكى الرئيس سنيورة، وللإخوة المقتتلين في غزّة، وصهلَ للجولان في عيد الجلاء، وللولد في قصيدة "يا بني"، وصهل معاتبًا دنياه في قصيدة "حتى متى؟" وصهل حاثًا المرأة في قصيدة "تعلَمي": إني رأيتكِ في اوراقِ داليةٍ فهل أراكِ على أعتابِ مُختَبَرِ؟

إلى أن يقول: يا نصفَ أمتنا المهدورَ طاقتُهُ يا نصفَ أغنيةٍ ينأى عن الوترِ

وفي هذه القصيدة ذاتها يتناول الشاعر تقاعص الأمة وتخاذلها عن مواكبة روح العصر:

من الخليجِ إلى إفريقيا دولٌ ما عندها مصنعٌ للشمعِ والإبَرِ

وأمة لبست من غير مغزلها واستوردت لبنًا من أغربِ البقَرِ

واستوردت دمها من قلبِ مَثلَجَةٍ واستجلبت فِكَرًا من تاجر الفِكَرِ

وهنا لا بد من وقفة للإشارة إلى أن بعض القصائد لا يخلو من الهِنات، فمثلاً: عجز البيت الأخير من الأبيات أعلاه ورد في الكتاب: واستجلبت فِكرَها من تاجر الفِكَرِ. الكلمة "فكرها" تخلّ بالوزن، لذا فقد قرأتها: "واستجلبت فِكَرًا" لتتجانس مع "واستوردَت لبَنًا".

وأما مضمون الأبيات ذاتها، فإنه يحيلنا إلى جبران خليل جبران في قوله: ويل لأمة تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع، وتشرب مما لا تعصر.

والتناصُّ في بعض قصائد يحيى يستدعينا لاستحضار صور من التراث الشعري الأصيل.

فمثلاً، البيت: هل كان دمعُكَ في الحوادث غاليًا لتهلّه في حضرةِ الأوغادِ؟

يستحضر أبا فراس الحمداني في القصيدة التي يقول فيها:

لقد كنت أولى بالدمع منك مقلة لكن دمعي في الحوادث غالِ

وفي نفس القصيدة بيت قال فيه:

لمن اشتكيتَ؟ لمن بكيتَ؟ أما تعي أن لا حياةَ لمن ترى وتنادي

بهذا يستحضر البيت الشائع:

لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيًّا ولكن لا حياة لمن تنادي

وهو بيت اختلف الناس في نسبه إلى شاعر محدد. فمنهم من نسبه إلى عمر بن مَعْدي كرب بن ربيعة الزبيدي، ومنهم من نسبه إلى كُثَير بن عبد الرحمن بن الأسود (كثير عزَّة)، كما ورد البيت مُقتبسًا في قصائد لكبار الشعراء مثل بشار بن برد وعبد الرحمن بن الحكم وغيرهما.

في قصيدة أنا، تتجلّى عِزَّة نفس الشاعر وإبائه واعتداده بخصاله ونقاء سريرته، وشجبه للرياء والنفاق:

وليسَ لي بعضٌ هناكَ وبعضي الثاني هنا... هذا أنا!

ويختتم القصيدة بقوله:

لكنّما،/ مهما تُغرّرُكِ المُنى/ مهما عَذَلتِ ، وعضَّني منك المَلامُ/ فلن أكونَ سِوى أنا.

يقتحم علينا الشاعر فجأة، وبكل جرأة في قصيدة "دعابة جريئة"، ليقدم لآدم العزاء بفقدان الجنة، وليطمئن الرجل بأنه الرابح من تلك الصفقة، إذ فاز بحواء وأصبح يرى جمالها ومحاسنها، بعد أن كان يراها مجرد جذع شجرة: في الجنة / أنت ترى حواء كأنك تبصر جذع شجرة/ وترى نفسك /تجهل أنك ذكرٌ!

وهو يرى في حب حواء وعشقها، واحترامها، المفتاح بل جواز السفر، للعودة إلى الجنة:

إن كنتَ تحنُّ إلى مثواك الأول... أحبِب حواء أكثر... اطلب حواء.. أنصف حواء... اعشق حواء... علّم حواء.. بجّل.. قدّس...إلخ.

لغة الشاعر سهلة رقيقة، وأما المعاني فقريبة المأخذ، سهلة التداول، خالية من الترميز والتعقيد، معبرة عما أراده الشاعر بكل جلاء ووضوح.

وردت في المجموعة بعض الأخطاء التي أرجو أن تكون مجرد أخطاء طباعية، على سبيل المثال لا الحصر:

1- ص 35 أم يدعوا بقطع بنانكم– والصحيح: أم يدعو (بدون الألف) لأن الواو من أصل الفعل وليست واو الجماعة.

2- ص 69 أصبو إلى حل الظفيرة – والصحيح الضفيرة، فالضفيرة هي جديلة الشعر بينما الظفيرة هي المرأة التي تظفر بكل ما تريد.

3- ص 74 مهما يُغررك المنى – والصحيح مهما تُغررك المنى، فالمنى جمع تكسير، مفردها الأمنية، مؤنث.

عمومًا، لا يسع من يقرأ باكورة إصدارات شاعرنا إلا أن يقرّ بأنه يتحكم بناصية الشعر ويُبحِرُ في غمار بحوره، ويبرز ذلك في قصائده العمودية بشكل خاص. مع أصدق التمنيات له بدوام الصحة والمزيد من العطاء والإبداع.



محمّد علي سعيد: للشّاعر موقفٌ من قضيّة اللّغةِ والأوزانِ والبحور، ولهُ الحقّ أن يتحرّرَ ولا ينجرفَ إلى الحداثة، بشرطٍ أساسيٍّ أن يكون هناك تقدّمٌ في الكتاب القادم. في نصوصِهِ الكثير من التناصّ ،وهناك صورٌ مبتكرةٌ في قصيدة أمّي، كحفرة تعطي وكومة التّراب تزداد في العطاء. وقد لفتَ انتباهي الصّدقُ الفنّيّ والحياتيّ، وليس مجرّد شعارات أنّما يُعاني أكثر من غيره من قضايا شعبِهِ منذ عام 1948 حتىّ الآن، مُعبّرًا عن ذلك بصدق انتمائِهِ إلى إطار خدمةِ شعبِهِ، فيصرخُ صرختَهُ المُدوّيةَ بشكلٍ واضحٍ وصارخ شِعريًّا.

وهيب وهبة: على القصيدةِ أن تحملَ الإيحاءَ وأن تدخلَ في الحداثة، لأنّنا نتحدّثُ اليومَ عن القصيدة الّتي تحملُ أهمّيّةَ الإنسان في هذا الوجود ومكمونِهِ، والقصيدةُ تخضعُ إلى ثقافاتٍ عديدةٍ بحيث علينا مواكبة العصر الّذي نحياه بكلّ تفاصيلِهِ، أمّا قصائد "صهيل" فتحملُ المباشرةَ والنّزعةَ الخطابيّةَ الموجَّهة، والشّعر بجوهرِهِ قد تخلّى عن كلِّ هذه التّفاصيل واضحةِ المعاني.

نايف خوري: أحببتُ مجموعةَ "صهيل" وقصائدَها، لأنّها كُتبتْ بصدق، فلكلّ فردٍ وشاعرٍ أسلوبٌ ومنبرٌ ومنصّة، فيقول ما يشاءُ وكيفما يشاء، لكن الأهمّ هو الإيحاءُ الكامل السّليم والمضمون، بما يتجلّى في روحِهِ ويداعبُ العاطفة.

نزيه حسون: بالرّغم من أنّ شهادتي قد تكون مجروحة، لأنّ يحيى عطاالله صديق وأخ، إلاّ أنّني وبكلّ موضوعيّةٍ أقول، بأنّه يملكُ موهبةً شعريّة ومتمكّنٌ من أدواتِهِ اللّغويّةِ والنّحويّةِ والعروضيّة، أمّا بخصوص ما طُرحَ مِن قضيّةِ الحداثة، فإنّني أعتقدُ أنّها لا تتوقّفُ على أوزان وقافية وإنّما تتعدّى ذلك، فكما لا يمكنُ أن نلغي حداثة جبران خليل جبران والجواهري ونزار قباني؛ الذين كتبوا شعرًا موزونًا ومُقفّى، فالقصيدة حالةٌ وجدانيّةٌ شاعريّةٌ تعطي للمتلقّي إيحاءً ولغةً شعريّةً جميلةً وتخلق لديهِ حالةً جماليّة، فأقولُ للشّاعر يحيى عطالله اكتب كما أنت، فالشّاعرُ الحقيقيّ هو الّذي يعكسُ نفسَهُ على الورق.

هيام مصطفى قبلان: حيّت الشّاعر يحيى عطالله وأشادت بلغتِهِ وتمكّنِهِ مِن بحور الشّعر والوزن، ولمستْ صوتَهُ الشّعريَّ (صوتَ الرّعد)، فقصائدُهُ لا تحملُ الهمّ الذّاتيَّ فقط بل الهمّ العامّ خارجَ إطار الذّات، مِن همٍّ اجتماعيٍّ ووطنيٍّ يحملُ جرحَ الوطنِ العربيِّ من فلسطين إلى العراق، وعقّبتْ هيام على أنّ اللّغةَ العربيّةَ ليستْ ثابتةً ولا هي جماد، وإنّما على المبدع الذّكيّ والماهر أن يؤدّي إلى الدّهشة في المتلقّي بابتكاراتِهِ وخروجِهِ مِن جمودِ اللّغةِ ويباسِها، وأنّ القصيدةَ الكلاسيكيّةَ هي الأصل، ومِن المحبّذ أن يكونَ الشّاعرُ مطّلعًا على الأوزان والبحور، حتّى يختار أيّ نوع من أنواع الفنون الشّعريّة، وأنّها مع الحداثة تكتبُ التّفعيلة وقصيدة النّثر، ولا داعي لفتح النّقاش حول جودةِ القصيدة، إنّما الشّعر ما يدخلُ إلى النّفس ويسكنُها ويتركُ بها أثرا، وليس كلّ ما يُكتب مِن نظمٍ هو شعر، وليستْ كلّ قصيدةِ نثر هي شعر، وسيبقى الجدل بين القديم والحديث إلى ما لا نهاية، لأنّ اللّغةَ متناميةٌ وليس لها حدود!

آمال عوّاد رضوان: لا تهمّ المسمّياتُ ولا التّصنيفات في التّقييم الأدبيّ، ولا يكفي الصّدق بالكتابة فقط لنجعلَ النّصّ إبداعيًّا أو شعريًّا او أدبيًّا، فهناك مقوّمات وملكاتٌ أساسيّة أخرى يجب أن تتوفّر بالنّصّ إضافةً إلى الموهبة، (كاللّغة السّليمةِ والأسلوب والصّور الجديدة والتكثيف وعنصر التّشويق السّلس، وأهمّها الابتكار وعدم التّكرار والاجترار لما سبق)، كي يكونَ الإبداعُ ثريًّا ماطرًا، تحملُ سُحُبُهُ دلالاتٍ جماليّةً، تبعثُ على الدّهشة والإيحاء والاستمراريّة ومُعاوَدة القراءة مرّاتٍ، ومن خلال زوايا متعدّدة الرّؤية.

جودت عيد: الحداثةُ في النّصّ تجعلُنا نشعرُ بانطلاقٍ وحرّيّة، ممّا يضيفُ متعةً لكتابةِ النّصّ. والتّجديد الّذي وردَ في كتابِ الشّاعر يحيى عطالله يدعم فِكر التّجديد، بواسطة الدّمج الّذي أدخلَهُ بقدرةٍ لغويّةٍ ما بين الحداثة والتقليديّة، ممّا يُشجّعنا على الانسياب في الكتابة والانطلاق مع القلم بالحفاظ على ثوابت اللّغة، ولكن دون التّردّد في خلق صور جديدة وفكر جديد، حول الإنسان وكينونته. عند كتابةِ النّصّ وإن كان يميلُ إلى الإيحاء كشعر أو إلى التّحديد كنثر، ففي آخر الأمر هو نصّ يطرح فكرةً وتجربة، وتبقى تسميةُ النّصّ تُشكّلُ عائقًا أمامَ الإبداع في بعض الأحيان. أوافق رأي د. محمد خليل حول الحداثة وضرورة الكتابة من أجل الكتابة والإبداع دونَ الالتفافِ حولَ تعريفاتٍ أو تسميات، إنّما معاصرة التّغيير والتّجديد. أحيّي الشّاعر لهذا الثّراء اللّغويّ وقدرته على الاستعمالات المتعدّدة في النّصّ، ممّا يدعم الفكر في الدّمج بالذّات.

سماهر نجار: ها أنا جئتُ مِن بابِ الشّعر أطرقُ قولَ الكلمة، ربّما تحي النّور في بحور النّقد! هكذا تبدأ الكلمة من غصّة الحنين عند احتراق شعلةِ الشّعر، من شاعر يحنّ الى ماضٍ يعيش به أطلالَ العشق ليعبثَ بالحِبر، يُصوّرُ الفِكر والقلب، حقّا استطعتَ بلمساتِ الحروف، أن تنقلَ ما تحملُ مِن نبض الكرامةِ والعزّة تارة، واصطحاب الدّمع تارةً أخرلى. لغةُ الشّعر سلسة المآقي، جعلتِ الفكر يُخالط الحسَّ دون أن تفسحَ لعبثِ الأسئلة أو للنّقاش، تبدو واضحًا تنقلُ زمنَ الفكر الجليّ، وصاحب الموقفِ الواحد الصّريح، قادرٌ على إصدارِ صرخةِ الانتماء معلنها لكلّ عربيّ فلسطينيّ، مُكلِّلا هذا الانتماءَ بشموخ الجولان الّذي يشبهُ شموخَ "الأنا" لديك، وما لهذا الشّموخ سوى أن ينقلَ فرحَ الحياة، وأيّ حياة تتحدّث عنها عندما تقول: "خذني إلى فرح الجمال فإنّني سأظلُّ في علياءِ متنِكَ فارسًا وتطلُّ منّي صهوةُ العمر السّعيد".

أمّا المرأةُ أيّها الشّاعر فهي تشبه الشّعرَ في وعيِك، فكلاهما يحضران في نشوةِ النّظم، لشِعرك العابثِ بقلب العاشق الّذي يقول: "وكم سهرتُ على عنّات قافيتي والنّظمُ شاغلني عن طلعة الفجر".

لتنقلَنا الى الحلّةِ ذاتها في (اعشقيني): أدمنتُ عينيْكِ واحترتُ في لهفي إليكِ واحترفت الانتظارَ على دروبِك"

وقد جاء هذا التّشابهُ ليجعلَ الشّعرَ يغوصُ أكثر الى أعماقه في سطورك، وحتمًا مهما شربت من كؤوسه "لن يوصلك الى الحفة"، بل سيحي روحَ القلم ثانية في قصيدة كأسي. وأخيرًا أدعوك دعوةَ صدقٍ إلى خوض مغامرةٍ شعريّةٍ جديدة، إلى فنجان قهوة من القراءات، لتأتي لنا بمزيد من الشّعر، لنُحاكي معك أحلامَنا وحاضرَنا، وكي نغوصَ في عُمق اللّغة والقوافي، ونُبحرَ في بحور الشّعر والذّكريات، ولن ننسى أيّها الشّاعر شكرك وتقديرك وأنتَ تقدّمُ الشّعر لكلّ مَن يقرأ ولا يقرأ.

د. محمد خليل: أوّلاً بالنّسبةِ لموضوعةِ المقاومة، فأعتقدُ أنّها مسألةٌ محسومةٌ، ولم يعُدْ يختلفُ اثنان بأنّ المقاومةَ حقٌّ مشروعٌ للشّعوبِ المقموعةِ والمقهورة، فما بالُنا بالنّسبة للشّعوب المحتلّة؟ فهذا حقٌّ وواجبٌ تُقرُّهُ القوانينُ الشّرعيّةُ والوضعيّةُ على السّواء. بأيّ حقٍّ أو تبرير يحقُّ لأيّ طرفٍ كان احتلالَ طرفٍ آخر وقمْعِهِ وسلْبِهِ حرّيّته وكرامته، وانتهاكَ أرضِهِ وعرضِهِ ومقدّساتِهِ؟ هذا غير معقولٍ وغير مقبولٍ البتّة. إنّ كلّ شعب يحتلُّ شعبًا آخر هو نفسُه لا يكون شعبًا حُرًّا ولا ديمقراطيًّا، وكلُّ ادّعاءاتٍ أخرى هي مجرّدُ شعاراتٍ جوفاء خالية من أيّ مضمون. مِن حقّ الشّعوبِ أن تحيا بكرامةٍ وحرّيّةٍ ومحبّةٍ وسلام، وهذه قواعد تُقرُّها وتؤيّدُها البشريّةُ جمعاء. وإلى الآن لا يعرفُ التّاريخُ مكانًا احتلَّ مِن قِبل الغريبِ أو الدّخيل ولم يَجدْ مقاومة. إنّ الحرّيّةَ تُؤخذُ ولا تُعطى هكذا علّمنا التّاريخ .أمّا بالنّسبةِ لموضوعةِ الحداثة فأقول: لقد أصبحنا نعيشُ في القرن الحادي والعشرين، والغريبُ أنّه ما زلنا نجدُ بيننا إلى الآن مَن يعترضُ أو يُعارضُ رياحَ الحداثة الّتي بدأتْ تهبُّ ناحيتَنا متأخّرة، نحن نعلم أنّ الحداثةَ بدأتْ تتمظهرُ في العالم الغربيّ مع أواخر القرن التّاسع عشر، ولم يعُدْ بإمكان أحد أن يقفَ في وجهِها أو يصدّها، إنّها رياحٌ عالميّةٌ لا سيطرةَ لأحد عليها، والجميعُ يعلمُ أنّ سِمَتَي التّأثير والتّأثّر موجودتان على أرض الواقع بالفعل وبالقوّة، شئنا ذلك أم أبيْنا، والعالمُ اليومَ أصبحَ قريةً كونيّةً صغيرةً، ولا يمكن ولا نستطيعُ أن ننعزلَ عن العالم ونبقى وحدَنا نعيشُ في عزلةٍ عن سائرِ البشر. وأشَدُّ ما يؤسف أنّ بعضَهم ما زال يَرغبُ ويتمسّكُ ويتغنّى بالماضي لا لشيء، إلاّ لأنّه هو المبجّلُ والمقدّس في نظرِهِ، ونسيَ أنّ الحاضرَ والمستقبلَ يفرضُ عليه تحدّياتٍ جديدةً ومسؤوليّاتٍ كبرى وإشكاليّاتٍ معقّدةً ومركّبةً، لا يمكنُ مواجهتَها بالوقوف على الآثارِ الدّارسةِ والبكاءِ على الأطلال. لقد حانَ الوقتُ أن يَبرحَ هؤلاء أمكنتَهم ولا يتمسّكوا بمواقفِهم المسبقة، الّتي ترفضُ مجرّدَ التّفكيرِ في الحداثة. الحداثةُ الحقيقيّةُ حداثةُ العقل والتّفكير والإبداع والانطلاق، لا التّكرارُ والتّلقينُ والاتّباع والجمود. الحداثةُ عالمُ التّغيير والمحاولة، طبعًا إلى الأجمل والأفضل، في كلّ لحظةٍ لا في كلِّ ساعةٍ فقط، الحداثةُ عالمٌ مُبهِرٌ وساحرٌ بكلِّ ما للكلمةِ مِن معنى.

نظير شمالي: الأدبُ عامّةً لا يقبلُ التّأطيرَ والقوْلبةَ وخاصّةً الشِّعر، فأعطِني شِعرًا جيّدًا، ولا يهمُّني إن كان تقليديًّا حداثيًّا رومنسيًّا واقعيًّا تكعيبيًّا أو تعبيريًّا، فالشّعرُ الجميلُ هو الذي يفجؤُكَ ويُدهشُكَ ويؤثّرُ فيك، فكم من قصيدةِ عموديّةٍ ميّتةٍ لاحياةَ فيها، وكم من قصيدةٍ عموديّةٍ أدهشتْنا ولا تزال، وكم من قصيدةٍ حداثيّةٍ ميّتة لم تستطعْ أن تمدَّ إلينا جسرَ حوار، وكم من قصيدةٍ حداثيّةٍ أدهشتْنا وأبهرتْنا وشدّتْنا إليها بقوّة.

الزّجليّ شحادة خوري أتحفَ الحضورَ بعذبِ وصلةٍ زجليّة مهداة للشّعر وللشّاعر يحيى عطالله.

يحيى عطالله: شكرَ الحضورَ وأثنى على القائمينَ على إحياء هذه النّدوة والمتكلّمين بها، تحدّث بنبذةٍ قصيرةٍ عن سيرتِهِ الذّاتيّةِ ومُنطلقاتِهِ الوطنيّة، وقد اعترض على تخييرِهِ بينَ اللّونيْن الحداثيِّ والكلاسيكيّ، أو التّنازل عن ذلك الجمال التّراثيّ العروضيّ، وان كان الحكم على الشّعر العربيّ الكلاسيكيّ أنّه نظمٌ، فله الفخرُ أن يكونَ نظّامًا، لأنّه يكتبُ بالأساس ليُرضي نفسه أوّلاً وآخرا، وإن كان تقليديًّا فهو ليس مُقلِّدا.

الجمعة، فبراير 26، 2010

قصـــة : الضـــــــيـــــــاع-1

أنطوني ولسن

أستراليا


زغرودة المرأة التي تطلقها في ليلة الزفاف، تعلن بها الفرحة عالية مدوية، حتى يعرف الحاضرون والقريبون من مكان الاحتفال، ان الليلة ليلة فرح وهناء.. لهذا تتبارى كل امرأة من الحاضرات القادرات على اطلاق الزغاريد في إعلاء صوت زغرودتها على الآخريات.

في تلك الليلة بالذات.. ليلة زفاف عفاف، تحولت اصوات تلك الزغاريد الى اصوات مدافع رشاشة، تطلق الرصاص عليها لتقتلها. فكل زغرودة تنطلق، كانت الطلقات تخرج منها في اتجاه واحد لتقضي على عفاف.. طلقت تصيب رأسها فتترنح، وطلقة تصيب قلبها فيتوقف عن النبض، واخرى تصيب ساقيها، فلا تقدر على الوقوف. انها ليلة زفافها الى رجل، حاولت المستيحل، ان تهرب منها، ولكنها مثل الذبيحة المقدسة التي تقدم على مذبح التضحية لتفدي غيرها وتموت هي. . تموت هي لتعود الحياة الى والدها.

عندما تقدم لها ذلك الرجل الذي يكبرها بحوالى خمسة عشر عاماً لم تشعر بارتياح عند رؤيته لأول مرة وهي تقدم له فنجان القهوة، نظرته اليها ناعسة خبيثة.

ارتجفت جفناها عندما اصطدمت عيناه بعينيه، بعد ان قدمت القهوة، أدارت ظهرها وهمت بالخروج من الغرفة. لكن والدها طلب منها الانتظار والجلوس.

منذ ذلك اليوم، والاحداث تجري بسرعة، لان العريس يريد الزواج قبل ان تنتهي فترة إجازته التي جاء ليقضيها بين أهله واصدقائه، وفي الوقت نفسه، الزواج.. اذا وفقه الله من بنت حلال، ليعود الى استراليا بعروس جميلة يفوق جمالها أجمل الجميلات هناك.

تحدد موعد الزفاف. لم تره بعد تلك الليلة سوى مرات قليلة، خارجا فيها مع أفراد العائلة لشراء الشبكة وحاجات الفرح. الحديث بينهما قليل.. لا تعرف ماذا تقول، وهو يحاول ان يظهر بمظهر الرجل العاقل الرصين القليل الكلام، عله بهذه الهالة يضفي على نفسه صفة الحكمة والتعقل والترفع عن مستوى البشر العاديين كثيري الكلام في أي موضوع. وعلى الرغم من ذلك فقد لاحظت انه لم يعط فرصة لاحد في اختيار اي شيء بل كان هو الذي يختار، مما أدهش العروس، وجعلها تشعر ببخله، لكنها لم تفتح فمها.. وإلا..!!

قبل الزفاف باسبوع انتهزت فرصة وجود والدها بمفرده.. فتضرعت اليه وسألته ان لا يتعجل بالزفاف. فهي لا تعرف العريس، وتريد ان تستمر في دراستها. لكن لسوء حظها لم تدر في ذلك اليوم ان والدها شعر بوعكة صحية منعته من الذهاب الى العمل. لذلك، واثناء حديثها معه إزداد نبض قلبه، وارتفع ضغطه واحمرت عيناه، وانحشر لسانه في فمه ولم ينبس بكلمة واحدة مما جعلها تجري الى والدتها التي ما ان رأته على تلك الحالة، حتى أخذت تولول وتصرخ صرخات حادة عالية، دفعت باحد الجيران الى الاسراع اليها وطلب الاسعاف.

نجا والدها من تلك النوبة القلبية بأعجوبة، لامت نفسها واعتقدت انها المسبب لتلك النوبة القلبية التي كادت تودي بحياة والدها، عندما كشفت مكنونات فؤادها، لذلك اثرت الصمت، وانساقت الى المذبح قرباناً طاهراً ، هدفها الاول والأخير نجاة والدها من الموت.

لم يعرفها زوجها لمدة ثلاثة ايام بلياليها. أخبرته في الليلة الاولى انها مجهدة وتريد ان تستريح، وفي الليلة الثانية حاولت المستحيل ان تتجاوب معه، لكنها فشلت وانتابها فزع شديد جعله يخاف منها ويبتعد عنها. وفي الليلة الثالثة حاول ان يقترب منها، لكنها في كل مرة تلامس يده بشرتها، تشعر بقشعريرة غريبة تسري في عروقها. قشعريرة لم تعرفها من قبل. حاول إحتضانها وهي نائمة، فزعت منه ونهضت مرتجفة، وجلست القرفصاء وهي تنظر اليه وكأنها تستعطفه وترجوه ان يتركها وشأنها. ومع تضرعها إستشاط غضبا وصفعها على وجهها متهما اياها بأنها قد اقترفت الفحشاء، وانها فقدت عذريتها. لهذا لا تريده ان يلمسها ولا ان يقترب منها.

بكت وأقسمت له أنها عذراء لم يلمسها رجل من قبل. ولكنها خائفة، ولا تعرف مما تخاف، هذا شعورها، وليس باستطاعتها أن تجد تحليلاً واحداً لهذا الخوف الذي يعتريها كلما اقترب منها.

شعر بصدق حديثها من الدمع المنهمر بغزارة من عينيها، ولكنه رجل ويريد حقوقه كاملة وهي زوجته وله حق الزوج عليها في كل شيء.

خرج تلك الليلة ولم يعد الا مع شروق شمس صباح اليوم التالي. قضى ليلته مع رفاقه القدامى، يشرب الخرم ويدخن (الجوزة) التي تشبه النرجيلة تماما ولم يكن التدخين خاليا من (الحشيش). شرب ودخن حتى ينسى انه جاء ليتزوج، وليقضي وقتاً سعيداً قبل رجوعه الى أستراليا، الى عمله الشاق.

كان يتمنى ان يعوضه هذا الزواج عن ايام الوحدة والضياع التي قضاها في النوادي الليلية وأماكن الدعارة والميسر. في تلك الليلة ، لاحظ صديق قديم إفراطه الشديد في الشرب والتدخين، وان صمتا مضجرا يلف عينيه بمسحة من الحزن. سأله ما به؟ فلم يبح له باحزانه كي لا يسخر والشلة منه. فهو كبير بالسن نسبة لعروسه الشابة الجميلة، والتي يعرف اهل الحارة مدى استقامتها على الرغم من تهافت الكثير من شبان الحي عليها. وانها والحق يقال لم تشجع احدهم ولو لمرة واحدة على الاسترسال في معاكستها. لم يلح الصديق في طلبه. بل تركه للخمرة كي تحل عقدة لسانه. والحشيش كي يعمل على اخراج احزانه.

وما هي الا لحظات حتى لعبت الخمرة برأسه، وادمع الدخان عينيه، فأخذ صاحبه الى ركن قصي في الغرفة، بعيدا عن الشلة، حتى لا يسمعهما احد.. وأخذ يقص عليه مراجله في استراليا.. كيف النساء يرتمين عند قدميه.. نسوان خواجات من أحلى النسوان اللي في الدنيا. مقارنا بينهن وبين هذه التلميذة التي لا تطيق لمسة يده.

صمت الصديق محمود فترة ليست بالقصيرة، مما اثار غضب فريد. لكنه وقف واشار اليه ان يبقى في مكانه ريثما يعود. فتوجه الى حيث كانا يجلسان من قبل، وعاد وفي يده زجاجة الخمر وبدأ يمثل امامه دور السكران ويقول:

- اسمع يا فريد.. يا صاحبي.. بصّ وشوف ايه اللي في ايدي.. خمرة.. والشاعر قال عن الخمرة انها علاج.. وداويها بالتي هي الداء. يعني يا سي فريد.. الخمرة هي الدواء لداء مراتك.

- يعني أسكرها!

- عندك حل تاني؟

- لا.. لكن إزاي ودّي بنت باين عليها غلبانه، ومش بتاعة كده؟

هنا، عاد محمود الى حديثه الطبيعي:

- هي من ناحية غلبانه، هي فعلاً بنت متربية وبنت ناس. ولكن يا صديقي لكل داء دواء. حتى تستطيع ان تحصل على حقوقك الزوجية. لا تستعمل معها العنف او التهديد. بل استعمل الحكمة والهدوء.

- ازاي يا طبيب العيله؟

- بسيطة يا مريض العيلة. يا بتاع أستراليا ونسوان أستراليا.. يا مفتّح. الواحدة من دول تتربى مرتين، مرة تربية أبوها، والثانية تربية جوزها. وانت راجل تحب الفرفشة والنعنشة والذي منه. يبقى خلاص المشكلة إنحلت.

- برضه مش فاهم؟!

- يظهر ان الطاسة بتاعتك ما تعمرتش كويس. تعالى ناخد لنا نفسين حشيش يعمرو الطاسة مظبوط.

- فهّمني الأول وبعدين نعمّر الطاسة.

- شوف بقى يا سيدي ، البنت خايفة منك. ما فيش حد فهمها عن الحياة الزوجية، لا مؤاخذة يبقى نحل عقدتها ازاي؟! إسمعني بقى وركز معايا. النهار قرب يطلع. طبعا حا تروح تنام. بالليل بقى يا ناصح، تخرج وما ترجعش إلا لما كل اللي في البيت يكونوا ناموا. وانت راجع خد معاك قزازة خمرة معتبره. ويا ريت تكون قزازة ويسكي من اللي بتشربوه في استراليا. وخد معاك اتنين كيلو كباب وكفته مع شوية حلويات كده لزوم الشيء. طمنها وفهمها انك عايز تقعد قعدة كده لا مؤاخذة رومانتيكي. إحنا ولاد بلد آه. لكن نفهم في القعدات حتسألك عن القزازة. قل لها دي مشروب مقوي ويفتح الشهية.. عال..

- عال يا سيدي.. وبعدين؟!

- ولا قبلين، مجرد ما تشرب كاس والتاني حتكون في خبر تاني والحدق يفهم.

- بس كده.

- لا.. ويا ريت تاخد معاك صاروخين.. تلاتة من الحشيش الاكسترا.

- اعلمها التدخين؟!

- وفيها ايه.. يعني ما انت راجع أستراليا وكل النسوان بتدخن هناك وأخر ألصطا ومنجهه.

- يخرب بيتك يا محمود يا ابن الجنيه..

- ليه تخرب بيتي بس.. احنا عايزين نخدم.

- لا مش قصدي.. اصلي ما كنتش مصدّق انه ممكن يكون الحل بالشكل ده؟!

- على العموم المسامح كريم.. وكله بثوابه.

أعجبته فكرة محمود، لذلك لم يبق طويلا مع الشله، بل شد رحاله وعاد الى المنزل. دخل غرفته فوجد المسكينة جالسة القرفصاء واضعة رأسها على ركبتيها، ويداها تحيطان ذلك الراس الصغير فوق الكنبة «الاسلامبولي»، ويبدو انها كانت غارقة في نعاس عميق، فلم تشعر به.

نظر اليها وكاد ان يوقظها، ويحاول معها مرة اخرى. لكنه عاد واحجم عن تنفيذ ذلك الخاطر الذي لم يوصله خلال الايام الثلاثة الماضية الى شيء. توجه الى السرير لينام وهو يقول بصوت مسموع. . حاضر ان ما وريتك وخليتك تدوبي في دباديبي وتترجيني واتقل عليكي.. ما كنش فريد.

يبدو ان الكلام أعجبه فأخذ يردده:

- الله.. دي تنفع أغنية.. إن ما وريتك وخليتك تدوبي في دباديبي وتترجيني واتقل عليكي.. يا حلوة يا صغيرة.. آه أخليكي تدوبي في دباديبي.. تململت عفاف في جلستها. ويبدو ان صوت زوجها فريد أيقظها من نوعها، فرفعت رأسها الصغير وقالت له:

- إنت جيت يا استاذ فريد؟..

لم يجبها فريد.. فقد راح في ثبات عميق.

عادت عفاف الى مكانها فوق الكنبة «الاسلامبولي».. واخذت تفكر في الحالة التي آلت اليها. لماذا يخرج ولا يعود إلا في ساعة متأخرة من الليل؟! يأتي مخمورا، لا يستطيع الحديث او الحركة. يلقي بجسده على السرير دون تململ، حتى ظهيرة اليوم الثاني، او بالأحرى نفس اليوم.

لا تستطيع مفاتحة والديها بالموضوع، فالذبحة القلبية التي آلمت بوالدها قد اثرت على حياتها تأثيراً كبيراً. يذهب الى العمل ويعود منه منهكا تعبأ يتناول طعام الغداء ويدخل غرفة نومه، ولا يستيقظ من النوم إلا وقت العشاء. اما والدتها فقد سألتها عن حالها، بعد اليوم الأول من الزواج، وحاولت باستحاء ظاهر ان تعرف ماذا حدث بينها وبين زوجها، ولكنها لم تتمكن، بسبب حيرتها، من توضيح ما تريد معرفته، ففضلت السكوت.

الأم ترى ابنتها تذبل امامها، ولا تعرف سبباً لذلك، تشعر بالألم الذي يجتاح قلب عفاف، ولا تستطيع الدخول معها في حوار مباشر يشجعها على البوح بمكنونات قلبها، كلتاهما تعرفان ذلك تماماً وكلتاهما تتحاشيان إلتقاء العين بالعين.

ثلاثة ايام بلياليها مرت على الزواج، والمنزل فوق فوهة بركان، كل شيء يغلي بداخله، لكنه لا يستطيع الانفجار. مرض الأب، نوباته القلبية الدائمة التي يعيش فيها كل يوم بعد عودته من عمله وهو ملقى على السرير، لا تعرف ان كان نائماً ومستيقظا أم مغشياً عليه، فترك الحمل كله على الأم المسكينة، التي لا حول ولا قوة لها. فجأة وجدت نفسها امام هذا الاعصار الشديد الذي يهزّ كيانها. اعمال المنزل، غسيل، تنظيف واعداد طعام. صحيح ان عفاف تساعدها، لكن في صمت ، يضيف الى عذاب الأم عذابات كثيرة مؤلمة.

في اليوم الرابع، نامت عفاف حتى الظهيرة، وعندما استيقظت لم تجد زوجها فريد نائما كعادته، ظنت انه ذهب لقضاء حاجته او للأستحمام، وعندما خرجت من الغرفة، استقبلتها امها بتحية الصباح.

- صباح الخير يا عفاف.

- صباح الخير يا ماما.. ماشوفتيش الاستاذ فريد؟

- صحي من بدري يا بنتي وخرج من غير مايفطر او يشرب الشاي.

لم تعلق عفاف بشيء، بل استمرت في سيرها الى الحمام. بعدها أخذت تساعد امها في اعمال المنزل، دون ان تتحدثا في اي موضوع. ارادت الأم ان تسألها عن أحوالها، عن رأيها بالزواج، وهل هي سعيدة مع الاستاذ فريد.. ام لا؟ لكن شيئاً بداخلها كان يخبرها بان ابنتها غير سعيدة، وان هناك اشياء واشياء بدأت تلاحظها على سلوكها وتصرفاتها لا توحي بالخير، فان سألت ابنتها وصدقت ظنونها، ماذا بامكانها ان تفعل؟! بالطبع لا شيء، انها ستؤجج فوق نار حياتها ناراً اخرى قد لا تستطيع تحملها. وإن سكتت واكتفت بالملاحظة والظن، فانها لن تضيف الى عذابات يومها عذابا، هي متأكدة من وجوده تحت سطح حياتها. وعفاف المسكينة كلما استيقظت من النوم، تتمنى لو ان الأرض انشقت وابتلعتها، وانهت حياتها.

رجل يحاول التقرب منها اثناء النوم، يخيفها، وتشعر وكأنه يريد اغتصابها. لم تسمع عن الجنس كثيرا، سمعت عن الحب مع زميلاتها في المدرسة اللواتي كنّ يغرَّن من اي طالبة ارتبطت بعلاقة مع رجل. تذكرت حكاية عنايات واحمد، عنايات طالبة في السنة الأولى ثانوي. واحمد يعمل في محل (عجلاتي) في نفس المنزل الذي تقطنه عنايات وكانت كل يوم تأتي الى المدرسة فرحة سعيدة لأنها رأت (الاوسطى أحمد)، على الرغم من انه لم يكن (لا اوسطى ولا حاجة)، مجرد صبي في محل (البسكليتات). يقلد بتصفيفة شعره المغني الشهير الفس برسلي، و(افرهوله)، الازرق دائم النظافة. لكنه بالنسبة لها أوسطى ومعلم، استطاع ان يملك على حياة وعقل وروح عنايات، والدافع لها للذهاب الى المدرسة كل يوم، رؤية احمد عند الصباح، لانها في ذهابها تستطيع ان تراه، وفي ايابها تراه بانتظارها عند (العطفة) بالبسكليت، فتسير الى جواره، يتناغشان ويتحابان.

ذات يوم، لم تأت عنايات الى المدرسة، فظنت الرفيقات ان وعكة صحية آلمت بها. لكن غيابها طال، فعلمن والمدرسة وكل الحي قصة ضبط الاوسطى حسين للواد احمد والبنت (المفعوصة مكسورة الرقبة)، عنايات تحت سلم المنزل، وهو يقبلها ويفعل اشياء وأشياء. فآلم هذا الخبر أذن عفاف، لأنها لا تطيق سماع أخبار كهذه، فما بالنا بهذا الغريب الذي أعطاه الزواج حق الالتصاق بها عند النوم.. عنايات واحمد.. اقل ما يقال في قصتهما انهما يحبان بعضهما بعضا. أما هي المسكينة، فلم يدق قلبها ولو لمرة واحدة، لا قبل فريد ولا مع فريد. مع ذلك يطلب منها هذا الفعل الفاحش، وعندما تمتنع يتهمها بالفحشاء وانها فقدت عذريتها، وانها تخشى فضيحة اكتشافه، ولهذا فقط ترتجف وتبتعد عنه في هلع شديد.

تصبر المسكينة ولا تعرف لمن تشكو همها، ولا لمن تقص حكايتها، واستراليا التي ستسافر معه اليها، لا تعرف عنها غير الذي درسته في كتاب الجغرافيا. نرفزته الدائمة، لأنه لم يحصل على ما يريد منها، تجعله غاضبا ومبتعدا عنها وعن المنزل. والحياة الصعبة التي تعيشها الاسرة تجعلها ايضاً تفضل عذاب الصمت، حتى يأذن الله بما سيأذن به.. استراليا فليكن ما سوف يكون من مفاجأت في استراليا!!

(يتبع)

البحثُ عن عينيْن ِ تهزمان ِ المستحيل

عبدالله علي الأقزم

في أذان ِ الشغفِ الآتي
تفاصيلُ وجودي
لكِ ترحلْ
ادخلي كلَّ تفاصيلي فتوحاً
فالذي يفتحُ عشقي
فهوَ مِن دُرٍّ إلى دُرٍّ
تـتـالـى و تسلسلْ
ادخليني
قصصاً مِنْ ألفِ ليل ٍ
في طوافٍ كوثريٍّ سرمديٍّ
فالهوى منكِ حرامٌ
أنْ يُؤجَّـلْ
واشربيني في عروج ٍ مستمرٍّ
عسلاً لا يتناهى
و على كلِّ خلاياكِ
يراني عالَمُ الدَّهشةِ
أوَّلْ
يا فراتَ الولع ِ الباقي
خذي القادمَ فتحاً
أشعلي الهاربَ زرعاً
اقلبي كلَّ وجودي
بسملاتٍ
أنطقي النـِّيلَ بصدري
واجعلي قلبيَ مَنحلْ
وارسميني
بينَ نهديكِ ربيعاً أبديَّاً
كلَّما ازدادَ جمالاً
صرتِ يا سيِّدتي
أحلى و أجملْ
مَنْ تكونينَ بأخلاق ِ صلاتي؟
كلُّ شيء ٍ
ذابَ في عينيكِ عشقاً
جعلَ العالَمَ أفضلْ
قرأ العشقَ يميناً و شمالاً
و على روحِكِ
في كلِّ الحضاراتِ
تغلغلْ
كيفَ لا تنقلبُ الصَّحرا ربيعاً
و لدى الصَّحراء ِ
مِنْ أخلاقِك الخضراء ِ
منهلْ
كيفَ لا تـنقلبُ الأحجارُ
طيراً
و إلى جوهِرِكِ الحُسنُ
تـحوَّلْ
حسنـُكِ السَّاحرُ
كمْ يُغرقـُني
فـنـاً جميلاً
و إلى السَّير ٍ إلى الأحلى
يُناديني
تفضَّلْ
ذاكَ فنُّ العشق ِ
يتلو كلماتي
لو رأى فـنـَّـكِ
ينأى
فمحالٌ بعدَ فـتْكِ النأي ِ
يعملْ
ليسَ لي فيكِ خروجٌ
يأخذ ُ الدنيا انحداراً
و خروجي صارَ
في كلِّ إشاراتـِكِ
مدخلْ
كيفَ لي تغييرُ خطٍّ
يتهجَّاكِ رياحاً
و على عشقِكِ
أقبلْ
واقرئي في همسةِ العشق ِ
اعترافي:
((كلُّ كون ٍ شاهدَ الحُسْنَ
بمعناكِ
تـزلزلْ
كلُّ نبض ٍ لا يرى وجهَكِ فيهِ
فهوَ للأمواتِ يـُنـقـَلْ
كلُّ مَنْ لا يعرفُ القدْرَ الذي
أنتِ عليهِ
فهوَ في الصُّورةِ معولْ
و الذي لا يعرفُ المعشوقَ
في تفسير ِ معناهُ
على منحدر ِ الفكر ِ
تهاوى و تحلَّـلٍْ
و على كلِّ حكاياتِ فؤادي
أنتِ ما بينَ شمال ٍ و جنوبٍ
ألفُ بستان ٍ جميل ٍ
و أنا بينَ شمال ٍ و جنوبٍ
أتـنـقــَّـلْ
كلُّ مَن لاقاكِ
عند النظرة الأولى
فمِن عينيكِ
يا سيِّدةَ الحُسْن ِ
تـشـكَّـلْ))


الخميس، فبراير 25، 2010

قصـــة : الخــــــــــائـــــنــــــة

أنطوني ولسن

أستراليا


أنا متزوج.. زوجتي جميلة..كلها انوثة.. أحببتها منذ وقعت عيني عليها.. تقدمت لطلب يدها..وافقت الاسرة، تزوجتها وصرت أسعد انسان في الوجود.

هل السعادة تدوم؟!

لا أعرف، ظننت انها تدوم.. تمنيت الا يكون اليوم اربعة وعشرين ساعة، بل أطول بكثير، حتى استمتع بحياتي مع زوجتي الى لا انقضاء.

مرّ عام، اثنان، ثلاثة.. لا شيء يعكر علينا صفو السعادة والحياة. لم افكر ابدا في الاولاد. لا اريد آخر يشاركني حبى لزوجتي ولا تريد هي بدورها أحدا يشاركها حبها لي، ومع ذلك، بدأت اسرتها تتدخل في الاشياء الحميمة.

في الأول نصائح.. لا تأخذي حبوب منع الحمل، ما هو سبب عدم الانجاب؟ هل استشرتما الطبيب، وأشياء أخرى، انا في غنى عن ذكرها.

اخذوها دون استشارتي الى الأطباء، وجدوا ان لاعيب يمنعها من الحمل.. لم تفاتحني في الأمر. لم تشعرني بذهابها الى اي مكان، حسب مفهوم الزوجين المتحابين الوفيين. لم يجرؤ احد ان يلمح اليّ بشيء.

مرّت أعوام ثلاثة، بدأ التغير على زوجتي، بدأت تسألني:

- الا تتمنى ان يكون لدينا طفل، يؤنس وحدتنا ويملأ علينا البيت؟

لم أمانع.. لم أعترض، رغم حبي لزوجتي ونفوري من اي شريك يقاسمني الحب.

كم ضحكت عندما تحدّثت معي في هذا الشأن، فقلت لها:

- الليلة تحملين تسعة اشهر، وتلدين.

تجّهم وجهها. لم تنطق بحرف يثير مخاوفي. سألتها بلهفة:

- أليست رغبتك؟ اذن لماذا هذا الاكتئاب؟!

ترقرقت الدموع في عينيها، ونهضت الى النافذة..

- يبدو انك غير فاهم.. انا اريد ان أكون اما..

- تكونين أما؟.. ما الذي يمنع هذا!.. كل امرأة هي أم..

- إسمع يا صفوت..

«إسمع يا صفوت».. رنّت رنين قذيفة أطلقت من سهم أصاب أذني. لا استطيع السماع يا سناء، لا أستطيع. اعادت الكلام مرة ومرتين وأنا أطرش.. أطرش .. لماذا يا ربي؟ سعيد أنا في حياتي، لا أشعر بفراغ!! انها صالحة للأمومة.. وأنا للأبَّوة ليس العيب من أحد.

لم أذق طعم النوم، لا تلك الليلة ولا الليالي التي تلت، صرت عصبياً، لا احتمل رؤية الاطفال. لا استطيع التركيز على شيء. أهملت عملي. لا شيء يحتل تفكيري سوى الوهم لعدم صلاحيتي للبنين. أقوم بواجبي الجنسي ببراعة الرجل، فلماذا لا أكون صالحاً؟! هل العيب منها؟! لا أطلعتني على النتائج الطبية التي أجريت لها. طلبت مني أن استشير الأطباء ربما يشرق في ليلتنا قمر.. ربما العلم والطب طلعا علينا بالجديد.

اقتنعت بضرورة الذهاب الى اخصائي. عرضت نفسي عليه. اجرى لي الفحوص بكل دقة وشمول. ثم قال لي:

- النتيجة غدا يا صاح.

وزاد عذابي. لم اعد أُطيق عملي. لم أعد أحب بيتي .. ماذا لو ظهرت النتيجة وعكس المراد، والعيب مني؟ كيف اواجه زوجتي؟ كيف اواجه الحياة؟ ماذا لو طلبت مني الطلاق؟ وهذا حقها علي؟ لا طلاق عندنا إلا لعلة الزنا.. الا لعلة العجز عن الانجاب. هذا ماافهم عن الطلاق.

مرَّ أسبوع، وأنا على هذه الحال.

ذات صباح شعرت بكسل وتراخ، لم أذهب الى العمل. زوجتي في المطبخ وأنا في الفراش. دقَّ جرس الهاتف. رفعت السماعة، رفعت زوجتي في المطبخ السماعة الثانية.. لم تشعر بأنني على الطرف الآخر سمعت صوت رجل. بعد صباح الخير سمعتها تقول له «أنا في المنزل، لم أذهب الى العمل ، وزوجي لم يذهب الى العمل اليوم» رد عليها.

- سأتصل بك.

اسودت الدنيا في وجهي. لم أعد ارى.

ظلام، ظلام.. زوجتي على علاقة برجل آخر؟ ماذا أفعل؟ أنهض من فراشي وأقتلها؟! إني احبها.. هل هو عجزي عن الانجاب، جعلها تتعرف برجل آخر؟

مستحيل.. أنا أعرفها جيداً ليست من هذا الصنف من النساء.. يا إلهي ماذا أفعل؟!!

ما زالت حيث هي.. ومازلت في عذابي حيث أنا..

واتخذت القرار. قمت من فراشي.. ارتديت ملابسي.. خرجت خفية على رؤوس أصابعي..

استأجرت غرفة باحدى اللوكاندات بحي «كلوت بك» كان بامكاني الذهاب الى أحسن فنادق القاهرة.. انا غني..كل ما كان يدور في ذهني، أنني انسان وضيع حقير لا استحق الغنى الذي انا فيه، لا استحق الحياة.

وحدي، لا أفيق إلا لأسكر ..السيجارة مؤنسي .. الكأس سميري .. لا أفيق الا لأسكر من جديد.. انتابتني حالة من الهستيريا الصامته، أفكر وأفكر.. لا شيء غير هذا الضياع.. ساكن ساكت. لا ابارح غرفتي.. لا أغير ملابسي، حتى شك في صاحب اللوكنده، وفراشها.. لم أهتم بهما.. لم أكن أشعر بما يدور حولي.. غبت عن الواقع، خارج الزمن.

ذات مساء، جاءني الفرَّاش يسألني عن حالي. أخذ يلقي النكتة تلو الأخرى وهو يقهقه. وأنا فاغر فمي، لا أعي شيئاً مما يقول. ولما ييئس مني، قال كلمته الأخيرة:

- سعادة البيك.. كفاك سجنا.. مهما كانت ظروفك، أخرج الى الدنيا.. أخرج لربما حلّ الله عقدتك..

- يا جاهل.. كيف يحلّ الله عقدتي.. وانا زوج لإمرأة خائنة؟!! إمرأة أحببتها من كل قلبي، وخانتني لشيء لست ادريه.

ومع ذلك خرجت أترنَّح، أتسكَّع في جوار كلوت بك، اذ بي اجدني امام كنيسة الحي الوضيع، حي البغاء والاجرام. عجبت.. كيف؟ من المستحيل وجود كنيسة في هذا المكان.!

وقفت فترة، متأملا الكنيسة في ذهول، وزادتني ذهول، الاضاءة في الداخل، وسمعت صوت ترانيم التسابيح والصلاة..

تساءلت ان كان اليوم، هو الأحد.. أعرف ان الكنيسة تفتح للقداس عند الصباح.. لكنه المساء.. آه اني سكران.. اليوم ليس الأحد.

مرّ علي قوم في طريقهم الى الكنيسة. هممت أسأل أحدهم، لكني تراجعت. لا أعرف كيف أبدو.. خشيت من رائحة الخمر التي تفوح من فمي.

استدرت مكاني، شعرت بشيء يجذبني الى هذا الرجل، شيء جعلني أفيق من سكري.. لحيته البيضاء، جلبابه الابيض، وجهه الضاحك، عيناه المشعتَّان بالمحبة والصفاء، يداه الممدودتان الي كيديّ صديق بعد طول غياب..

صافحني بحرارة مرحباً وسألني:

- لديك وقت؟

لم أجبه، لا قيمة للوقت عندي.. استمرّ في الحديث.

- تعال، اسمع كلمة الرب، صلِّ معنا صلاة العشية يا بني.

صلاة العشية؟! اليوم ليس الاحد. والكنيسة تفتح أبوابها مساء للصلاة، لسماع كلمة الرب. اين هو الرب؟ لماذا اختارني انا دون الآخرين، لأمرّ بهذه التجربة!؟

ظهرت أمامي صورة «سناء» لم استطع النظر اليها.. وضعت يدي فوق عيني، حتى لا اراها.. إنّ من أحبها تخونني.. يتصل بها عشيقها اثناء غيابي عن البيت.. وقد يأتي اليها في البيت..!

شعر الرجل بما انا فيه، فأمسك بذراعي وشجعني على الدخول معه. لا افهم ما يدور حولي. أنا مسيحي. لكني لم أدخل الكنيسة الا يوم زواجي وفي بعض المناسبات، لا اعرف الطقوس..

وقف الكاهن يلقي عظته. لم أفهم شيئاً، لكن التقطت اذني هذه الآية.. «وخفاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع..»

ما هذا؟! الله لا يريد ان يرى وجوهنا ولا يستمع الينا؟! خطايانا تحجب وجهه عنا فلا يسمعنا؟ّ خطايانا.. خطايانا؟!!

أنا انسان لا اله. لم استطع النظر الى صورة «سناء» التي تمثلت لعيني وأنا عند الباب.

أحبها أحبها، لكنها خائنة.. لا تستحق حبي، لم أحتمل استحضار وجهها فأغمضت عيني بيدي وغبت عن الوجود.

افقت من غيبوبتي على صوت الكاهن وهو يقول ضمن عظته:

«ان كانت خطاياكم حمراء كالقرمز، تبيضّ كالثلج...»

الله لا يحب الخطأة، انا لاأحب هذه الخائنة. الخيانة خطيئة. أستغفر الله، من أكون أنا حتى أُقارن نفسي بالله؟ الرب يطلب منا أن نتحاجي معه. نلجأ اليه نطلب منه العفو، وليغفر لنا.. «ان كانت حمراء كالقرمز تبيض كالثلج».

سامحني يا الهي، أنا لا استطيع أن افعل هذا، لو تحاجَّت معي «سناء» أغفر لها. أنت الاله الرحيم، أما انا، فإنسان لا يستطيع أن يغفر. خلقتنا وأنت عارف ضعفنا. تزوجتها ولم يخطر ببالي أنها تخونني. مستحيل.. أعطيتها حبي، قلبي، مالي، شبابي.. وتخونني؟..

لا.. لا.. هذا كثير، لو رأيتها لقتلتها.. لشربت دمها.. لغسلت العار الذي لطخ سمعتي.

غافلٍ عن نفسي، لم ادرِ ان الكاهن قد انهى عظته، لم أتبين ان الصلاة قد انتهت، ولم ار المصلين وهم على أهبة الخروج..

رفعت عيني، رأيت الرجل المسن واقفاً بوقار كأنه يحترم ما يدور في خلدي من هواجس، واغرورقت عيناي بالدموع، أمسكت بتلابيب جلبابه.. صرخت قائلاً:

- لماذا يا رب تضعني في هذه التجربة؟.. لماذا؟

ربت على رأسي بحنان ولم يتكلم حتى هدأت أعصابي وأرتحت..

بدأ يحدثني في الدين حديثاً عذباً، لم اسمعه من قبل، لم يسألني عما بي. عندما هدأ غلياني، سألني بأدب إن كنت لا أمانع في الذهاب معه الى منزله.

لم أقل شيئا، أمسك بذراعي ونهضت متكئا عليه.. وخرجنا معاً..

قصصت عليه قصتي، لم أُخف شيئاً عنه. استمع الي بإمعان. لم يُعلق على شيء، نهض وأحضر الكتاب المقدس واخذ يقرأ الاصحاح الثالث عشر من رسالة بولس الرسول الاولى الى أهل كورنثوس.

يتحدث عن المحبة. وأنا أحبها.. لكن الاصحاح، لم يتحدث عن الخيانةّ إنها خائنة.. فماذا يفيد حبي لخائنة؟!

انتهى من قراءته، طلب ان نصليِّ معاً، لم اسمع، لم ار في حياتي انساناً يصلي هكذا. صلاته من نوع غريب.. يصلي الى الله لا يتضرع بخوف بل بثقة التقي غير القادر، الى القادر العظيم، وصلاته صلاة الواثق بالاستجابة للدعاء.

أ إلى هذا الحد ايمانك يا رجل ؟ لم أفكر في خيانة زوجتي. لم أشعر بتأثير الخمر علي. كنت مُصغياً الى كل كلمة خرجت ليس من فمه بل ومن قلبه معاً.. هذا القلب الملئ بالايمان الذي لا يشوبه شر..

أنهى صلاته، نظر اليّ، طلب مني الاتصال بزوجتي إنها لا شك قلقة عليّ. لم أعترض.. لم أتردد.. لم أفكر في خيانتها لي، حلَّ سلام في قلبي..

نهضت الى الهاتف، اتصلت بها.. وكم كانت لهفتها إليّ!

عدت الى المنزل تلك الليلة.. أخبرتني بكل شيء. صارحتني بأنها أتصلت بالطبيب وطلبت منه الا يخبرني بنتيجة الفحوص لئلا يجرح شعوري. أفهمتني أنني بحاجة الى عملية جراحية بسيطة، بعدها أصير انسانا عاديا، زوجاً وأباً..

تمت المعجزة.. صار عندنا ثلاثة أولاد وابنة. تضاعف حبي لزوجتي. ولم يكن الاطفال يوما سبباً في الابتعاد عني والاهتمام بهم. بل كنا جميعاً نشترك في حب واحد.. حبي لها.. وحبها لي..

(تمت)

رباعيات في الحب

ايمن يحيي
يا ورده الحب اللي فينا اطرحي
بوسي خدودنا فرحينا وافرحي
وان مره جه ابليس يغازل سكتك
اقفلي بابك في وشه...وف وشوشنا افتحي
وعجبي
الحب حاجه دايما بتيجي دايما بتيجي من غير سبب
ويّا تشوف حاجات كتير ليها العجب
تحب ناره تهوي مراره
ويّا الحبيب يحلي التعب
وعجبي
لو في يوم تقدر تقول كلمة بحبك متخبيهاش
عمر اللي يكتمها في قلبه لحظه حلوه في عمره عاش
قولها للدنيا بصوت عالي وجرئ
كفايه انتا تحسه...حتي لو غيرك محسهاش
وعجبي
قالوا زمان الموج غريق
رديت انا قده
واللي يخاف خليه بعيد
خليه علي قده
بس الجميل لما برمشه رماني
طلبت انا وده
وعجبي
الحب خمره بتسكرك تاخد قلوب
تمشي في سكه تلاقي قلبك بكلمه حلوه قوام يدوب
وتلاقي قلبك يتخطف
وكأنه لعبه في ايد فتاه حلوه لعوب
وعجبي
بيوصفوك يا حب قالوا عليك عذاب
قولت اجرب التقيت قلبي في حبيبي داب
واما مره عن عيوني حب عمري غاب
قولت اااااااااااااااااه وبايديه كتبت ليه مليون جواب
وعجبي

حلم مواطن عربي

محمد محمد علي جنيدي

أعترف بأنني مع الَّذين قالوا أنَّ العالم يحكمه قطب واحد وأقتنع بأنَّها الطَّامة الَّتي تقود العالم للهاوية، كما أعتقد أنَّ ظاهرة الإرهاب العالميَّة سببها الرئيسي هو غياب القطب الثَّاني، لأنَّ رد الفعل لا يمكن أن يختبىء ويخالف ناموس الطبيعة، إن هذا لن يحدث أبداً، فالصغير الَّذي تطوله أيادي الكبار ولا يجد من يحميه فهو دائماً ما يرى نفسه بين خيارين لا ثالث لهما – أحدهما – أن يتخلَّص من حياته ساعة اليأس على غرار عليَّ وعلى أعدائي ومن باب بيدي لا بيدي عمرو أو أن يكون - خياره الآخر – العمل تحت جنح الظَّلام لأنَّ النُّور حتماً سوف يُلقي به في قبضة من يستطيعون الفتك به.. أو هكذا يفكر دائماً ..

لذا أقول: أليس حريٌّ بنا أن نعمل حساب قانون لكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوَّة ومضاد له في الاتجاه كما تعلمنا، كما أودُّ أخي القارىء أن تسمح لي بتوجيه كلمة في هذا الشَّأن للمتغطرسين الَّذين لجأوا إلى تلوين الحقائق وتحقير ردود الأفعال فأقول لهم يا أساتذة: والله لن يكون ردُّ الفعل إلَّا مساوٍ لأفعالكم مهما ضعف قدر صاحبه كما أنَّ هذا الأخير لا يمكن أن يخضع ويعيش طوعاً في جلبابكم وهو يحلم بالخلاص منكم أو ينتظر فيكم ساعة.. يا أساتذة : هل سمعتم أن الظُّلم قد أنجب محبَّة حقيقية وهو لم يلدْ إلّا سفاحاً ونفاقا.. وهل ورَّث اعتداؤكم يوماً ما تحت أيِّ مسمَّى أو مبرر أمناً وسلاماً لكم أو لنا وهو يأكلكم ويأكلنا كما تأكل النَّار الهشيم.

أعود إلى بعدٍ آخر ذي علاقة بموضوعنا وهو – بعد المصلحة – ولا شك بأنَّه القاطرة الَّتي تتحرك بها البشريَّة أُمما وأفراداً وأنَّنا جميعاً نركن إلى أين وكيف نصل إلى مصالحنا – هذه حقيقة – ولكنَّني أرى أن مشكلة المشاكل تكمن في رؤية أبعاد هذه المصالح الكثيرة والمتشابكة والمعقدة في كثيرٍ من الأمور ، فالَّذي يرى ويعتمد في تحقيق مصالحه على ( سياسة غطرسة القُّوة ) دون مراعاة مصالح الآخرين فهو قد ضمن لنفسه رد فعلٍ يعجل بانهيار جميع مصالحه ( على الأقل ) في المدى البعيد.. أليس كذالك ؟!

وهنا أودُّ أن أختتم مقالي بسؤال أطرحه على إدارة القطب الأعظم والأوحد الآن في هذا العالم والمتمثلة في إدارة سيادة الرئيس أوباما وأستسمحه السُّؤال فأنا لا أدَّعي البطولة كما أن لكلِّ مقامٍ مقال فأقول لسيادته: فخامة الرئيس وأنتم الأعظم قوة وعلماً وحضارة في هذا العالم الحائر، أودُّ لو أتساءل معكم، لماذا لا تَسْعَوْنَ إلى مُصالحة جادة وفاعلة بين العرب وإسرائيل على المستوى الشعبي يكون قوامها بناء الثِّقة بين الشَّعبين الجريحين وركائزها حوار الثَّقافات وفهم الواقع على أساس التَّعايش ونبذ الخلافات، نعلم جميعاً فخامة الرئيس أن رصيد التَّاريخ من أحداثٍ مؤسفة وقعت على الجانبين كانت ومازالت تُعمِّق أزمة الثِّقة بين الكيانين والَّتي نتطلع إلى زوالها ومازلت أستأذن فخامتكم بالسؤال: ألا تفكرون في أن تُساهم الشّعوب العربيَّة الشعب الإسرائيلي في رعاية مصالحكم بالمنطقة مساهمة طويلة الأمد تَتَّسِم بالصِّدق والشفافية، سيِّدي: إنَّ معادلة التَّعايش وحاجة الشَّعبين العربي والإسرائيلي إلى التَّطبيع الحقيقي أصبحت ملحة وضروريَّة وها نحن ننحاز إلى فهم واقعنا على أساس استحالة استمرار الحروب بالمنطقة إلى الأبد - ذلك - لأنه لا يتصوَّر أبداً أن يبيد طرف الطَّرف الآخر عن كاملة، هذا الفرض مستحيل وغير مقبول إنسانياً وأخلاقياً وعلى أي مستوى لكلِّ ذي عقلٍ سليم! ..

لهذا أرى وأنتهي إلى حقيقة أن قدر وواقع الحوار بين أطراف الأزمة أصبح مُلِحاً على الجميع وبالتَّالي فإنَّ خيار التَّطبيع أوشك أن يكون مفروضاً أكثر من أيِّ وقتٍ مضى لأنَّه مهما دارت بنا رحى الحروب سوف ينتهي بنا المطاف نحو فرض احترامه على الجميع - وهنا - فالسُّؤال يفرض نفسه على قوى الصِّراع، لماذا نترك الوقت يضيع بنا في حصد الخسائر فقط دون فائدة تُرجى.. وإلى متى نخطو إلى الخلف ونحن نستطيع أن نصنع شيئاً يُنقذ الأجيال القادمة!!

لا يبقى لي سيِّدي الرئيس في النِّهاية سوى أن أُأكدَّ مع فخامتكم على أهمِّية تتضافر جهود العالم في هذا الاتجاه وأنَّنا إذا ما أردنا لخيار التَّطبيع أن يُكتب له النَّجاح والاستمرار فلا مناص من مراعاة الثَّوابت الوطنيَّة أولاً وأخيراً ولا بديل عن التَّأكيد والسَّير قُدماً نحو محاولة استعادة الثِّقة المفقودة بين جميع أطراف النزاع وهكذا أرى سيِّدي الرَّئيس أنَّ بإمكانكم دائماً بل وتستطيعون بحنكتكم وثقلكم تفعيل دور الأُمم المتحدة بقدرٍ يدعو للتفاؤل ويراهن على إنماء الأمل لشعوب منطقتنا البائسة!

تستطيعون فخامة الرَّئيس فعل شيء ما يتناسب مع مقدراتكم وريادتكم – نعم – تستطيعون وضع الخطط والبرامج والسيناريوهات لتحقيق هذا الحلم الكبير - بل وتستطيعون- صياغة منظومة عمل كاملة يُساهم فيها علماء النَّفس والاجتماع ورجال الدِّين ورموز مجالس الشُّعوب لمراعاة البُعد الدِّيني والاجتماعي والإنساني ولضمان المباركة والمشاركة على المستوى الشعبي من الجانبين.

فخامة الرَّئيس: هذا قدركم وهذا رهانكم وأنا كمواطن عربي تغلبه الأُمنيات أقول لسيادتكم هاهي أحلامي أنثرها في فضاء بلدٍ أرجو أن يعيشَ مع كلِّ جيرانه في وطنٍ آمنٍ كبيرٍ


الأربعاء، فبراير 24، 2010

البعد قراري

محمد محمد على جنيدي

رَغْمَ عَذابي رَغْمَ مَراري
رَغْمَ بَقائِكَ في أسْراري
سَوْفَ أُلَمْلِمُ دَمْعَ حُرُوفِي
سَوْفَ يَكُونُ الْبُعْدَ قَرَارِي
صَحْوَةُ قَلْبِي الْيَوْمُ، لِأنِّي
بَعْدَ قَلِيلٍ مَوْلِدُ فَجْرِي
فَارْحَمْ دَمْعَكَ لا تَخْدَعْنِي
إنَّ حَنِيني شابَ وَصَبْرِي
تُدْرِكُ أنَّكَ كُنْتَ بِيَوْمٍ
كِدْتَ تُصادِرُ كُلَّ حَياتي
تَذْكُرُ لَوْعَةَ قَلْبِي الشَّاكِي
حِينَ غَرَسْتَ الْحُزْنَ بِذاتي
كَمْ بِالْبُعْدِ تَفَانَت رُوحي
فَتَمَلَّكَتَ شذا أنْفاسي!
كَمْ لِحَنِينٍ هاج بِقَلْبي
ثُمَّ تَعُودُ بِلا إحْساسِ !
كَمْ مِنْ لَيْلٍ كُنْتُ أُناجي
يَحْفَظُ هَذا النَّجْمُ كَلامي
عَلَّكَ مِنْ عَلْيائِكَ تَأْتي
تَشْهَدُ رُوحي بَيْنَ رُكامي
كُنْتُ أهِيمُ عَلَى أشْواقي
كُنْتُ أُحِبُّكَ مِنْ أعْماقي
ثُمَّ غَدَرْتَ بِلا أسْبابٍ
وَتَخَاصَمْتَ بِغَيْرِ شِقَاقِ
سَلْ لي قَلْبَكَ لَوْ يَصْدُقُني
هَلْ لِغَرَامِكَ مِنْ شَيْطَانِ؟!
كَيف تَعُودُ لِتُنْسِجَ وَهْماً
تُشْعِلَ نَاراً في أحْزَاني!
فَاخْرِجْ مِنْ أثْوابِكَ حُبِّي
وارْحَلْ عَنْ أعْتَابِ نَهاري
واسْكُبْ مُرَّ الْكَأسِ وَعَنِّي
سَوْف يَكُونُ الْبُعْدَ قَرَاري


اختيار من ديواني / واحة من الحب

بيروت وحلم و (لا أرى غير ظِلي)*



زياد جيوسي


1-2


أشتاقكَ وأحن إليكَ (أشحذُ الفرحَ الباكي من غابات الشوقِ)، أشعر أن (وحشيةُ أنفاسكَ تتسلل إلى جرحي)، قادمة من البعيد حيث أنت، فمن لي غير طيفك أهمس له، يرافقني وأعاتبه، وأصرخ ملأ الصوت: (أنيري يا نَرجسةَ روحي)، أبحث عنكَ في أرجاء الدنيا فأنتَ من (بخطاكَ جمعت قناديلي العارية)، وحبك المتسلل عبر قرونٍ طويلة من الزمان، ما زلت أراه (يحنو رِمشكَ برفقٍ إلى رمقي الأخيرِ فيتورد)، فأشعر بروحك تلفني فأهمس لك من البعيد: (هُوَ ذَا.. أنت يا حارسَ الجفنِ تغفو كنجم على سريري النحاسيَّ)، فتعالي لنلتقي بعد عصور الغياب، تعاليّ (لحِلُمِ الفرحِ.. مذاقُ... النار) لنكون معاً يا امرأة الشوق، كي (يتعثر همسي ثمِلاً بين تفاصيل وجهك).

أحن لالتقاء الأزرقين، البحر والسماء، أتأمل صورك، تحلق روحي إلى شواطئ بيروت التي لم التقيها منذ سبعينات القرن الماضي، كي أرى (كيف يبدو المشهدُ رائحة الجرحِ؟)، وأهمس من رام الله: أيا طيفي (من أشتهي.. إلاكَ نبيذاً يلدغُ شفتيَّ؟)، وحدكَ كنتَ وستبقى آتياً من الغيب البعيد (وأنتَ ليلكيُّ القسماتِ من عِطرِ أُقحوانةٍ)، واستعيد ذكرى لقائي الأول مع بيروت، حين أطللت على مشهد البحر للمرة الأولى في حياتي، فصرخت: أيها البحر (أنتَ لبِق الدهشةِ، ونعناع الحرف..)، وناديت على المرأة الحلم، الأنثى الأسطورة (تعالي أيتها الموشومة بشِعري)، فما زلت أنتِ المنى أن تكوني (رحيقُ الوساداتِ.. نعاس الذاكرةِ.. لهثُ العناقِ..).

حين وقفت على الشاطئ في لحظة المغيب، رأيت بخيوط الشمس شَعركِ شلالا من ذهب، وبزرقة البحر (نعناعُ الحرفِ) ولمعة عينيك وهدوئها وهي (مموسقةُ الحزنِ بحرفي)، وحين لامسني رذاذ الموج الناعم حضرت إليّ يافا، فهمست: أيها البحر (كم كان لرجفِ رذاذكَ عصارة اللقاح)، فهل سنرجع يوماً إلى يافا كما شدت فيروز؟، وهل سينمو الحب (من عَرقِ الحبرِ)؟، وهل تواصل البحر من شاطئ بيروت لشاطئ يافا بتمازج (خرافي المساماتِ)، سيجعل الحلم يأتيني من منى (تعبقُ بميناء القلبِ) إلى حقيقة (تتلوى محارةُ على صدى النواقيسِ)، وتكوني أنتِ ويافا في قلبي (بين رقصةِ العويلِ.. و.. رضابِ شفتيك)، ولا يبقى الحلم سراباً (في حصادِ الرملِ يطارد أجنحة.. الرماد).

أيها العشق الذي لا يفارقني (أَنْذرني غصناً في كاس مُناكَ)، احملني معك (آهة في تنهيدةِ سحاباتِكَ)، ودع (يداك تلامس حريرَ اللهفةِ)، ودعنا معاً نسير ونواصل الحلم، نذوب في هوى وطنٍ، و(نتماهى في تفاصيلِ الحزنِ)، فأنتَ وأنا فقط من يمكننا (أن نتقاسم خبزاً حافياً من صرخة عُرينا)، وأنتِ وحدكِ من يمكنها أن تهمس: (أنثاه أنا.. من رحَمِ العتمةِ)، وتبسمين ومن قلبك يخرج نغم (من صهيلِ حُلمِه المُشتهى تُحيطني.. دوائرَ.. دوائر)، وتبقى روحي تجول في ذاكرة بيروت، أبحث عن الحبِ البعيد لكني (لا أرى غير ظلي).

أيها الحب الذي يمتد من شواطئ غزة مروراً بيافا حتى بيروت (ترفق بهمسي)، وتعال لنلتقي من جديد، أضمك إلى صدري، فتعال و(هيئ سقوط الضوء على ستائري)، كي نحلق معاً بين أسطورة العشق وحكاية الوطن، ونرقص معاً (فتراقصَ الجسدُ ترتيل أرقٍ)، ولا تبتعد كي لا (يشهق الفراغ)، وفي بعادكِ لا نمتلك غير الحلم (وحلمنا عَزفَ الدهشةَ)، فتعال أيها الحب (تدثر بي.. بشهبي..)، تعال و(احرق صمتكَ، ولا تعتذر)، واهمس لي: (امرأة الشوقِ أنا)، فيا حبيبي (ترفقْ.. ترفقْ.. "آه")، فأصرخ وأركب الموج (آتيك اللحظةَ لأحتفي بالفتاتِ)، فبيروت من تعيد إليّ (لون القهوةِ) ولذاكرتي (غربة الوطنِ)، وأنتِ وحدكِ (وجهك غربة السفرِ)، وليس إلاكِ من (تأتيني برشفةِ عسلٍ).

على شواطئ بيروت كنت أجول وأجول في لحظات المغيب وإشراقة الشمس (وأصيح: "لوركا" من صادر للغريب أرضي؟)، وأهمس للموج: (من سلب سرَّي وصمتي)، وأنظر في أفق عينيك فأرى خضرة الوطن وثورة البحر وأتساءل: من الذي طعنني بالظهرَ (وعلق ضفيرة طفلتي على يبادر الحُزنِ؟)، فأسمع الكرمل يهمس من بعيد: تعال (ومُر بقصيدة شِعرٍ على هزيمتي القديمةِ)، فمن مناكَ ومن منىً (ربما في الغدِ يكونُ ثغركَ أبسمَ)، فتستقبلك شواطئ يافا (تعود طفلاً، تركض وراء الفراشاتِ)، فتستعيد الذاكرة وتزرع وردة و(من المنفى تعودُ؛ تنحني كطوقِ الياسمينِ).

أيا حبيبي (لا تلمني إن توقفتُ قليلا؛ هو العمر يمضي، والأعوام تمضي)، وأعرف أنكَ (تريدني كالفراشةِ؛ تُولد بين حباتِ الندى)، فتهمس لي من البعيد: وهل لي منك إلا الحب والحنان، آه كم أحبك.. وأدري أنه سيأتي يومي معك، أذوب بك وتذوب معي، ويكون لنا عيد حب مختلف، لي فيه أنتَ هدية الروح للروح، فأنت مرآة القلب عندي، ومن لي إلاكَ بهذا الشوق والحب، فحروفك أنقشها على لؤلؤٍ تناثر من شدة الفرح وراحة سكبتها عيناك في عينيّ، ففي بعادنا طفت المكان أتذكر ما سكب على أرضٍ، وما بقي في داخلي، فأهمس لهمسكِ: أيها الحب (إن عدتُ؛ ألّف خاصرتكَ بعريشة الدفلى، وستائر الليلِ)، فروحي (ستحتفي بقدومكَ الرقصةُ الأخيرةُ، وشاطئ حيفا سينام مطمئناً بعشِقٍ شهِدَ ولادةَ البحرِ).



(رام الله 7/2/2010)

* كل ما هو بين أقواس، للشاعرة هيام مصطفى قبلان من مجموعتها الشِعرية (لا أرى غيرَ ظلّي)، الصادرة عن بيت الشِعر الفلسطيني 2008م.