الأربعاء، فبراير 24، 2010

بيروت وحلم و (لا أرى غير ظِلي)*



زياد جيوسي


1-2


أشتاقكَ وأحن إليكَ (أشحذُ الفرحَ الباكي من غابات الشوقِ)، أشعر أن (وحشيةُ أنفاسكَ تتسلل إلى جرحي)، قادمة من البعيد حيث أنت، فمن لي غير طيفك أهمس له، يرافقني وأعاتبه، وأصرخ ملأ الصوت: (أنيري يا نَرجسةَ روحي)، أبحث عنكَ في أرجاء الدنيا فأنتَ من (بخطاكَ جمعت قناديلي العارية)، وحبك المتسلل عبر قرونٍ طويلة من الزمان، ما زلت أراه (يحنو رِمشكَ برفقٍ إلى رمقي الأخيرِ فيتورد)، فأشعر بروحك تلفني فأهمس لك من البعيد: (هُوَ ذَا.. أنت يا حارسَ الجفنِ تغفو كنجم على سريري النحاسيَّ)، فتعالي لنلتقي بعد عصور الغياب، تعاليّ (لحِلُمِ الفرحِ.. مذاقُ... النار) لنكون معاً يا امرأة الشوق، كي (يتعثر همسي ثمِلاً بين تفاصيل وجهك).

أحن لالتقاء الأزرقين، البحر والسماء، أتأمل صورك، تحلق روحي إلى شواطئ بيروت التي لم التقيها منذ سبعينات القرن الماضي، كي أرى (كيف يبدو المشهدُ رائحة الجرحِ؟)، وأهمس من رام الله: أيا طيفي (من أشتهي.. إلاكَ نبيذاً يلدغُ شفتيَّ؟)، وحدكَ كنتَ وستبقى آتياً من الغيب البعيد (وأنتَ ليلكيُّ القسماتِ من عِطرِ أُقحوانةٍ)، واستعيد ذكرى لقائي الأول مع بيروت، حين أطللت على مشهد البحر للمرة الأولى في حياتي، فصرخت: أيها البحر (أنتَ لبِق الدهشةِ، ونعناع الحرف..)، وناديت على المرأة الحلم، الأنثى الأسطورة (تعالي أيتها الموشومة بشِعري)، فما زلت أنتِ المنى أن تكوني (رحيقُ الوساداتِ.. نعاس الذاكرةِ.. لهثُ العناقِ..).

حين وقفت على الشاطئ في لحظة المغيب، رأيت بخيوط الشمس شَعركِ شلالا من ذهب، وبزرقة البحر (نعناعُ الحرفِ) ولمعة عينيك وهدوئها وهي (مموسقةُ الحزنِ بحرفي)، وحين لامسني رذاذ الموج الناعم حضرت إليّ يافا، فهمست: أيها البحر (كم كان لرجفِ رذاذكَ عصارة اللقاح)، فهل سنرجع يوماً إلى يافا كما شدت فيروز؟، وهل سينمو الحب (من عَرقِ الحبرِ)؟، وهل تواصل البحر من شاطئ بيروت لشاطئ يافا بتمازج (خرافي المساماتِ)، سيجعل الحلم يأتيني من منى (تعبقُ بميناء القلبِ) إلى حقيقة (تتلوى محارةُ على صدى النواقيسِ)، وتكوني أنتِ ويافا في قلبي (بين رقصةِ العويلِ.. و.. رضابِ شفتيك)، ولا يبقى الحلم سراباً (في حصادِ الرملِ يطارد أجنحة.. الرماد).

أيها العشق الذي لا يفارقني (أَنْذرني غصناً في كاس مُناكَ)، احملني معك (آهة في تنهيدةِ سحاباتِكَ)، ودع (يداك تلامس حريرَ اللهفةِ)، ودعنا معاً نسير ونواصل الحلم، نذوب في هوى وطنٍ، و(نتماهى في تفاصيلِ الحزنِ)، فأنتَ وأنا فقط من يمكننا (أن نتقاسم خبزاً حافياً من صرخة عُرينا)، وأنتِ وحدكِ من يمكنها أن تهمس: (أنثاه أنا.. من رحَمِ العتمةِ)، وتبسمين ومن قلبك يخرج نغم (من صهيلِ حُلمِه المُشتهى تُحيطني.. دوائرَ.. دوائر)، وتبقى روحي تجول في ذاكرة بيروت، أبحث عن الحبِ البعيد لكني (لا أرى غير ظلي).

أيها الحب الذي يمتد من شواطئ غزة مروراً بيافا حتى بيروت (ترفق بهمسي)، وتعال لنلتقي من جديد، أضمك إلى صدري، فتعال و(هيئ سقوط الضوء على ستائري)، كي نحلق معاً بين أسطورة العشق وحكاية الوطن، ونرقص معاً (فتراقصَ الجسدُ ترتيل أرقٍ)، ولا تبتعد كي لا (يشهق الفراغ)، وفي بعادكِ لا نمتلك غير الحلم (وحلمنا عَزفَ الدهشةَ)، فتعال أيها الحب (تدثر بي.. بشهبي..)، تعال و(احرق صمتكَ، ولا تعتذر)، واهمس لي: (امرأة الشوقِ أنا)، فيا حبيبي (ترفقْ.. ترفقْ.. "آه")، فأصرخ وأركب الموج (آتيك اللحظةَ لأحتفي بالفتاتِ)، فبيروت من تعيد إليّ (لون القهوةِ) ولذاكرتي (غربة الوطنِ)، وأنتِ وحدكِ (وجهك غربة السفرِ)، وليس إلاكِ من (تأتيني برشفةِ عسلٍ).

على شواطئ بيروت كنت أجول وأجول في لحظات المغيب وإشراقة الشمس (وأصيح: "لوركا" من صادر للغريب أرضي؟)، وأهمس للموج: (من سلب سرَّي وصمتي)، وأنظر في أفق عينيك فأرى خضرة الوطن وثورة البحر وأتساءل: من الذي طعنني بالظهرَ (وعلق ضفيرة طفلتي على يبادر الحُزنِ؟)، فأسمع الكرمل يهمس من بعيد: تعال (ومُر بقصيدة شِعرٍ على هزيمتي القديمةِ)، فمن مناكَ ومن منىً (ربما في الغدِ يكونُ ثغركَ أبسمَ)، فتستقبلك شواطئ يافا (تعود طفلاً، تركض وراء الفراشاتِ)، فتستعيد الذاكرة وتزرع وردة و(من المنفى تعودُ؛ تنحني كطوقِ الياسمينِ).

أيا حبيبي (لا تلمني إن توقفتُ قليلا؛ هو العمر يمضي، والأعوام تمضي)، وأعرف أنكَ (تريدني كالفراشةِ؛ تُولد بين حباتِ الندى)، فتهمس لي من البعيد: وهل لي منك إلا الحب والحنان، آه كم أحبك.. وأدري أنه سيأتي يومي معك، أذوب بك وتذوب معي، ويكون لنا عيد حب مختلف، لي فيه أنتَ هدية الروح للروح، فأنت مرآة القلب عندي، ومن لي إلاكَ بهذا الشوق والحب، فحروفك أنقشها على لؤلؤٍ تناثر من شدة الفرح وراحة سكبتها عيناك في عينيّ، ففي بعادنا طفت المكان أتذكر ما سكب على أرضٍ، وما بقي في داخلي، فأهمس لهمسكِ: أيها الحب (إن عدتُ؛ ألّف خاصرتكَ بعريشة الدفلى، وستائر الليلِ)، فروحي (ستحتفي بقدومكَ الرقصةُ الأخيرةُ، وشاطئ حيفا سينام مطمئناً بعشِقٍ شهِدَ ولادةَ البحرِ).



(رام الله 7/2/2010)

* كل ما هو بين أقواس، للشاعرة هيام مصطفى قبلان من مجموعتها الشِعرية (لا أرى غيرَ ظلّي)، الصادرة عن بيت الشِعر الفلسطيني 2008م.

ليست هناك تعليقات: