سيمون عيلوطي
تختلف نكهة الأغنية العربية باختلاف القطر العربي الذي تنتمي إليه . بمجرد سماعك لاحدى الأغنيات تستطيع أن تعرف صاحبها ، وتحدد هويتها ، والقطر الذي تنتمي اليه ، حتى لو لم تكن استمعت لهذه الأغنية من قبل.
هذا الأمر في رأيي يتحقق ليس من خلال لهجتها التي تميزها فحسب ، ذلك لأن هذا التعرف على هوية الأغنية يتم أيضا حتى لو كانت بالفصحى.
هنا تواجهني أسئلة مختلفة .
ما هي المقومات الأساسية التي تجعل هذه الأغنية التي تنتمي إلى بلد عربي ما ، تختلف عن تلك الأغنية التي تنتمي إلى بلد عربي آخر ؟
ما هي الأسباب والشروط والمنطلقات التي تتوفَّر في هذه الأغنية أو تلك ، لتجعلنا بالتالي نتعرَّف على هويتها وبلدها وفي أحيان كثيرة على صاحبها أيضا ؟
هل هي اللهجة ، أم أسلوب الأداء ، أم هو المضمون، أم شيء آخر ؟
لنفترض أن ذلك يرجع إلى لهجة الأغنية ، ولكن هناك في القطر الواحد عدة لهجات تختلف الواحدة عن الأخرى باختلاف المنطقة ، وهذا التعدد لا يُتوِّهنا ، ونستطيع معه أن نميِّز بين هذه الأغاني ، ونتبيّن من أين أتت وإلى أي بلد عربي ترجع .
هناك إذن أمور أخرى لا بدَّ أن نتحسسها ونحاول أن نجتهد في تحديدها لنصل إلى الإجابة عن تلك الأسئلة التي طرحتها، والتي سأحاول أن أجد لها الأجوبة، مع اعترافي المسبق بأنني لا أدَّعي بأن أجوبتي هي "الوصفة الطبية" التي تحدد طابع وهوية الأغنية ونكهتها ، إنما مجرد اجتهاد أقدمه في هذا المجال مع حرصي الشديد على أن يُبقي الباب مفتوحا على مصراعيه لتقديم اجتهادات أخرى من قبل المهتمين في موضوع الأغنية، وخاصة في المجال الموسيقى الذي هو ليس من تخصصي ، وأنا حين أتحدث عن الأغاني، تدورفي ذهني كلماتها التي لي بعض التجارب في كتابتها.
وأرى من المفيد هنا أن أتناول تجارب عدد من الملحنين والمطربين الذين أثروا بفنِّهم الأغنية العربية، وعرفوا كيف يختاروا الكلمة التي تخدم مبتغاهم الفني .
إذا نظرنا إلى سيد درويش مثلا ، نرى أنه عمل على تحديد ملامح الشخصية المصرية من خلال تركيزه في عدد من أغانيه على الجوانب الطبقية والاجتماعية والسياسية للمجتمع المصري ، مع حرصه البارز على الذهاب إلى التراث الغنائي المصري بهدف وضع اللحن باسلوب منبثق عنه ومعبِّر عن أجوائه التي يتميّز بها، ومستفيدا كذلك من الثرات الغنائي الشامي الذي عرفه وأعجب به واستطاع أن يطبعه بطابعه الدرويشي ، ومن يرجع إلى أعماله الغنائية سيلاحظ ذلك بكل وضوح، وخاصة في أغنية ( الحلوة دي )، أو أغنية (طلعت يا محلى نورها )، وفي الجانب الوطني نشيد ( بلادي بلادي )، ولا شك أن مسرحياته الغنائية دعمت ما أراده هذا الفنان الكبير، وحققت منطلقاته الفنية التي جسَّدت - فيما جسّدت- الطابع الغنائي والهوية الغنائية التي نتحدث عنها .
لست هنا في باب سرد تاريخ الأغنية العربية ، بقدر عنايتي المتواضعة بتسليط الضوء على موضع تحديد هوية الأغنية، بالقدر الذي يساعدني في تحديد الأجوبة على الأسئلة المطروحة أعلاه .
المثال البارز هنا هو تجربة الأخوين رحباني، وما تميَّزت به أغانيهما محققة هذا الإنتشار، وهذا الحضور المستمر رغم مضي زمن طويل على الكثير من أعمالهما الغنائية والمسرحية، إلا أنك تحس وكأنها كُتبت ولُحِّنت الآن .
لا شكَّّ أن الأخوين رحباني عند ذهابهما إلى تراث بلاد الشام الشعبي الشعري والغنائي الذي عرفا كيف يوظّفانه توظيفا فنيا في العديد من أعمالهما الغنائية، لم يحققا إنجاذا فنيا لأغنيتهما فحسب، بل حققا إنجاذا فنيا للأغنية اللبنانية والعربية أيضا، حيث أنهما أوجدا لأغنيتها طابعا خاصا ومتميّزا يعتمد على التراث، ويغترف الجميل منه، ثم بعد أن يمر من مصفاة روحيهما الفنية المبدعة، ويداعب بأصالة نادرة بعض الأعمال الموسيقية العالمية،يتشكَّل باسلوبهما، وبطابعهما، ويذاع إلى الجمهور الذي يستقبله بالكثير من الاعجاب والتصفيق، وقد تم ذلك في فترة زمنية ما زالت الأغنية الطربية المصرية عند عبد الوهاب وأم كلثوم تتربع على عرش الغناء العربي، ولكن الأخوان رحباني بألحانهما الرائعة، وبصوت فيروز الملائكي، عرفا كيف يجعلان أغنيتهما تقف شامخة إلى جانب الأغنية المصرية الطربية، وعرفا أيضا كيف يمكن لأغنيتهما أن تسير معها جنبا إلي جنب، ومن دون أن تدخل معها في منافسة .
لم يكن من الممكن أن يتحقق ذلك للأغنية الرحبانية، لو لم تتشكل بطابع ونكهة مميزة بها، استطاعت أن تعكس اللون الغنائي اللبناني، والشخصية اللبنانية ونفسيَّتها، والتي تمثلت في اغنيتهما بالعامية والفصيحة عل حد سواء.
وإذا نظرنا إلى عدد من أعمال الفنانين والملحنين الآخرين، والذين أثروا هم أيضا بفنهم الجميل ألأغنية العربية، مثل أغاني عبد الحليم حافظ ، ونجاة الصغيرة، وغيرهما، نجد أن هذه الأغاني كانت تتوفر فيها عناصر الطابع والنكهة موضوع حديثنا ، وإلى حد كبير .
والملاحظ أن الأغاني العربية، وخاصة المصرية التي تأثرت بالألحان التركية ، إنما كان تأثرها تأثرا أصيلا، ولم يخفِ الملامح والهوية المصرية التي ضلَّّّّّت بارزة في هذه الأغناني، الأمر الذي جعلها تعيش وتداعب أوتار قلوب الناس، وتتغلغل في وجدانهم .
ولعلَّ صباح فخري ، ومن قبله محمد خيري، حين تناولا القدود الحلبية ، ربما أرادا من خلال هذه الخصوصية الحلبية السورية، أن يمهدا الطريق أمام فنان يمتلك بحسه الفني هذه الروح من أجل وضع ألحان وأغان نابعة من أجواء هذا التراث العظيم .
أن الشرخ الذي حدث للشعب الفلسطيني بعد عام ال48، من قلع وتهجير وتنكر لجميع حقوقه السياسية والثقافية، خلق حالة من الفراغ الذي بات من الصعب معها الاستمرار بمواصلة العمل الفني والثقافي من خلال عملية التواصل الطبيعي للأجيال الفنية والثقافية ما قبل وما بعد ال48، وكانت من نتائجة المدمرة الكثيرة أن توقفت الأغنية الفلسطينية عن متابعة مشوارها الذي أخذت حينها تخطو خطوات جادة نحو أغنية فلسطينة خاصة، وذات طابع ونكهة تميزها عن غيرها من الأغاني العربية، وكانت حينها الاذاعة الفلسطينية تبث عددا من هذه الأغاني، وفي مقدمتها كانت أغاني نوح ابراهيم ، مثل أغنية دبرها يا مستل دل، وغيرها الكثير من الأغاني التي حملت بالاضافة إلى مضمونها السياسي، البعد الفني الذي صبغ هذه الأغاني بأسلوب له نكهتة الفلسطينية الخاصة والمنبثقة من المناخ التراثي الشعري والغنائي الذي يرجع بطبيعته إلى بلاد الشام، ولكن مع الانتباه ومراعاة ما يعبر عن مناخ وخصوصة هذه البقعة الجغرافية (فلسطين) من هذا التراث الشامي، وانتقاء الأقرب إلى جونا ونفسيتنا التي تختلف عن نفسية المناطق الأخرى، وذلك باختلاف الظروف والاحداث.
وأنا هنا لم أضف شيئا أذا قلت أن الأدب الفلسطيني بعد ال48 استطاع أن يشكل الامتداد مع الأجيال الأدبية التي سبقته، ويحقق للأدب والشعر الفلسطيني خاصة ملامحة وهويته التي تميزه والتي رأيناها عند حنا ابو حنا، وتوفيق زياد، وسالم جبران، ومحمود درويش، وسميح القاسم ، في حين أن موسيقانا وأغنيتنا الفلسطينية لم تواصل حركة الامتداد هذه، بل توقفت نتيجة للظروف السياسية والثقافية القاهرة التي عصفت بأهلنا، وأن المحاولات التي قام بها بعض الموسيقيين في وضع عدد من الأغاني كانت في معظمها ركيكة وبعيدة عن نفسية الشعب، مما أدى إلى عدم مقدرتها على الاستمرار بالحياة، وقد تكون الظروف السياسية والثقافية الصعبة التي خيَّمت على تلك الففرة الزمنية، هي التي أثرت سلبا باتجاه نموها ومستواها الفني، ولكنها عندما أخذت تنهض وتستعيد عافيتها، وجدناها تذهب إلى منابع وأجواء غريبة عنا ، بل لا تشبه الكثير من ملامح شخصيتنا وهويتنا وتراثنا.
ومن يرد أن يكون موضوعيا ويستعرض بعض أعمالنا الغنائية التي أتت في ظل مناخ أخذت فيه ظروف وأوضاع الأقلية الفلسطينية داخل إسرائيل تتحسن، وتتنفس بحرية إلى حد ما، يجد أن الكثير من هذه الأعمال، وبالرغم من اعتبار أن بعضها كان جيدا وجميلا من الناحية الفنية، إلا أنها لم تَدُر في فلك مناخنا وطابعنا، الأمر الذي غرَّبها عنا ، وجعلها لا تحاكي واقعنا، ولا تعكس ملامحنا، وبالتالي فإنها لم تتماثل- كما هو مفروض- مع وجداننا ، ولم تصبح جزءا من مشروعنا الفني والثقافي .
لا أريد هنا أن أذكر أمثلة تدلل على ما أقول، بهدف الحرص على تجنُّب نقاشات ربما تكون جانبية، ولا تخدم الموضوع ، ولكني أرى أن هناك تجارب فنية غنائية لعدد من ملحنينا ومطربينا استطاعوا أن يوفرَّوا فيها العديد من عناصر الطابع والنكهة الفلسطينية الخالصة، وقد تجلَّى ذلك في الكثيرأعمال فرقة "الطليعة" النصراوية التي كان يشرف على تدريبها الأستاذان المرحومان ميشيل درملكنيان، وباسم جبران، وفرقة "صابرين" وأغاني مصطفى الكرد، وفوزي السعدي، وهناك أيضا بالاضافة إلى هذه الأغاني، تجربة غنائية لفرقة "ولَّّعت" العكاوية، التي استطاعت هي أيضا أن تعكس الهوية الفلسطينية رغم استعمالها الآلات الموسيقة الغربية، لكن هذا لم يمنعها من الالتصاق والتلاحم مع خصوصية هويتنا التي يجب أن تتوفر في أغنيتنا بالتغاضي عن الآلات الموسيقية التي نستخدمها، أو طريقة توظيف اللهجة، وبالتغاضي أيضا عما إذا كانت هذه الأغاني بالفصحى، أو بالعامية، فالفنان الفنان هو الذي يعرف كيف يحافظ على طابع ونكهة وتراث وهوية مجتمعه، مع مشروعية اختياره للأسلوب الفني الذي يناسب أعماله الغنائية والموسيقية، والطريقة التي يريد أن يقدمها بها، والفنون العظيمة والعالمية، هي تلك الفنون التي أغرقها أصحابها بالمحلية، (ولا أقول الأقليمية)، لأنهم بإحساسهم الفني المرهف، عرفوا أن أقرب الطرق للوصول إلى العالمية، هو الاغراق بالمحلية.
سيمون عيلوطي محرر الموقد الثقافي - الناصرة
http://www.mauked.com/
maukedwebmaster@netvision.net.il
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق