نعمان إسماعيل عبد القادر
الربيعُ لفظَ أنفاسَهُ الأخيرةَ ورحل عن الدنيا ومن فيها قبل أسابيع قليلة، ونفحاتُ الصيفِ منتشرةٌ في كلِّ فجاج الأرض وجبالها. ولبث الرجل يحرّك رجليه ويحث دابته ممسكًا بزمامها شاعرًا أن الدنيا تلاحقه.. أنفاسه اختلطت بأنفاس البهيمة التي يركبها ونبضات قلبه تسارع وتيرتها كلّما تذكر كلمات الرجل الأخيرة. تلثَّم بكوفيتهِ وأخفى وجهه، كمنْ يخافُ من عيونٍ بشريةٍ كثيرةٍ تراقبه حيثما توجّه وتخترق كل مكان يمرّ فيه فأراد تضليلها. ظلَّ يتجنّب الطرقات المألوفة والأماكن المأهولة حتّى أحسّ أنه في مأمن من أي خطرٍ طارئٍ يفاجئه به وحشٌ بشريٍّ شرسٌ. نظر حوله فوجد نفسه وسط حقل منبسط يتوسطه كرم عنبٍ كبيرٌ يبدو أن أصحابه قد رووا خضرواتهم المزروعة في أطرافه بماءٍ لم يجف بعد فأدرك أن الماء الذي صار ينشده متوفرٌ في مكان قريب وأنهم غادروا المكان قبل سويعاتٍ. همس في أذن راحلته فتوقفت.. ترجّل والعطش الشديد يكاد يفتق حلقه ويجتاح جسد دابته التي أعياها السير. تحسس المكان فوجد بئر ماء رواها منها وأطفأ ظمأه فرتق حلقه ثم توضأ وصلى العصر وتوجه إلى ربه بقلب خاشع وعين دامعة ونفس تائبة قائلا: ربي أنت أعلم بحالي ماذا جنيت حتى أعاقب بذنوب غيري.. ربي إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي.. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات. اللهم ألهمني الصبر وجنبني الشر وجنب شر أهل الشر عني..
حلّ المساء. صوتُ أذانٍ ضعيفٌ تأتي به نسمات خجلةً من خلف تلك التّلة؛ فاستبشر بعضه وأحسّ بالأنس إلا أن عواء الثعالب ذكّره بوحشة غريبةٍ في مكان بعيدٍ لم يكن هو نفسه راضيًا عنها لولا تهوّر أخويه وطيشهما الزائد. لكن تُرى أين هما الآن وماذا حلّ بهما؟ لن أعود للقرية.. كيف يمكن أن أنظر في وجه كبارها؟ تحسس خنجره بأصابعه ثم نهض يستكشف المكان لعله يجد شيئًا يُسْكِتُ به جوعه، ولمّا لم يجد شيئًا اضطر لتناول الحصرم وأوراق العنب وأوراق الملوخية الخضراء. عَقَلَ دابته في جذع دالية ثم افترش الأرض متخذًا من يديه وسادةً وراح يفكّر في قضاء ليالٍ في العراءِ وأيام في الغربة. سيعيشُ صعلوكًا بعد أن كان وجهًا، ومطاردًا بعد أن كان عنوانًا للنصائح والمشورة. تذكّر البيت وراحتْ مخيلته ترسم صورًا كثيرةً ومن جميع الجوانب للنار المشتعلة فيه والدخان المتصاعد منه والناس يهللون وقد أفشوا غليلهم قبل أن يأخذوا حقهم منه. ليرات الذهب العسمالية ومجوهراته التي ادخرها ودفنها قبل عامٍ في زاوية من زوايا البيت قد تكون في مأمن من النار وأيدي العابثين ولا يمكن أن يعثر عليها أحد. لكن كيف ينبغي الحصول عليها؟! ليس من سبيل للوصول إليها إلا في ساعات الليل المتأخرة بعد أن ينام الناس في مخادعهم. ولكن متى؟؟ متى؟؟
لم يجد الكرى سبيلا للوصول إلى عينيه.. قضى ليلته شارد الذهن يتنقل بين مشاهد كثيرة، ألوانها مختلفة، بعضها كان يشارك فيها دون أن تكون له السيطرة على صنع أحداثها فيراها تنساب أمامه انسيابًا ذاتيًا ثم يتذمر منها لخروجها عن إرادته، والبعض الآخر كان ينظر إليها نظرة ازدراءٍ وحاول تقديم النصح لأصحابها قبل وقوعها إلا أنه لم ينجح في ذلك. ومشاهد قليلة انسجم معها انسجامًا، لكنه كان مؤقتًا لا حلاوة فيه. وكان بين الفينة والأخرى يصحو من شروده فيتذكر أنه في مكان موحش قد يداهمه فيه ضبعٌ جائع أو كلبٌ ضالٌ أو ذئبٌ مفترسٌ. أيعيش مع الوحوش في البريّة أم يرجع إلى قريته فيُقتل بِمُديةِ ذئبٍ بشريٍّ ضحيةَ ثأرٍ لا ناقة له فيه ولا بعير؟ إجراءاتُ الحيطةِ والحذر أصبحت مرهونة برؤية البشر في كل وقت. ظلّ يتحسس خنجرهُ ويقرّب من مرقده عصاهُ حتى طلع الفجر فأخذته سِنَةٌ من النوم أفاق منها على صوت راعٍ يمتطي ظهر حمارٍ يسوق غنمه في اتجاه الجبل. خَمَدَ في مكانه لا يحرك ساكنًا وتابعت عيناه سير القطيع البطيء حتى توارى عن الأنظار دون أن يلحظه الراعي فتنفس تنفس الصعداء. وقال في نفسه: " لا بد من العودة ولا مكان لي إلا القرية.. لن آكل الحصرم وأوراق العنب. آلناس يعرفونني ويكنون لي الاحترام؟ لا أظنهم يسيئون الظن فيّ بتاتًا.. ثقافة الجاهلية موروثة أبًا عن جد وينبغي محاربتها.. يا رب!! لماذا يورثوننا ذنوب غيرنا؟ ولماذا لا يُعاقَبُ المذنبُ نفسهُ".
تحرَّر من هواجس كثيرةٍ وغادر الكرم قبل أن يحضر أصحابه ثم قفل راجعًا نحو الشرق. لم يكد يصل ظاهر القرية حتى انقض عليه ملثمان عاجلاه بطعناتٍ فسقط عن راحلته وتركاه ينزف منها حتى لفظ أنفاسه الأخيرة ثم فرّا من المكان.
(كفر قاسم)
naamankq@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق