أمجد نجم الزيدي
المثيرات الكتابية وافتراضية القراءة
عندما نقرأ اي نص في المجالات المختلفة للكتابة، نكون قد عبرنا منطقة افتراضية بين متنين هما الوجود الفيزيائي للكتابة كمدونة بصرية الى وجود قائم في ذهن القارئ، وهو متشكل انعكاسي يأخذ مداه من التداعيات التي يولدها فعل القراءة، وهذه المنطقة ترتكز على المثيرات الكتابية التي يولدها النص، حيث تكون عبارة عن (مجال شبحي/مخلق) كما يصفها محمد علي النصراوي في كتابه (طيف المنطقة المقدسة)، (فأنها في حالة الكشف عنها تعد الذخيرة الحية مادة اولية خام بيد مكتشفها القارئ وهي هنا بمثابة مراكز / أو بنى افتراضية لتدعيم الحدث وتحريكة داخل نسقه الاشاري اللغوي)* وتختلف هذه المثيرات تبعا للاختلاف نوع الكتابة، وقدرة القارئ على الوصول الى تلك المراكز الكامنة، والتي تحتاج الى قارئ استثنائي ليتمكن من استنفاذها، من خلال التفاعل مابينها وبين مايحمله من خزين معرفي وخبرة بالتعامل مع النصوص، وخاصة النصوص الابداعية من شعر وقصة وغيرها..
فالشعر -على سبيل المثال لا الحصر- عندما يتخلق كمدونة كتابية، ينتقل من حضور افتراضي تشكله ذات خلاقة الى حضور عياني وفي قالب خطابي اجناسي محدد ومعين، بيد ان النص الشعري يختلف ربما عن باقي الاجناس الكتابية، بأن دلالاته أو مراكزه الاشارية تتمرد على وجودها الكتابي المقولب ضمن النسق اللغوي، وتخرق طبيعتها كعلامة لغوية اتصالية، بأن تتشكل خارج اطار اللغة فضاءات هلامية، تتفاعل وتقترن مع الفضاءات التي يقترحها القارئ، لا لأكتشاف تلك المراكز أو الدلالات وانما لتوليد نص أخر وفضاءات اخرى، بمديين: مدى اقتراني يستبدل نص سلطة الكتابة بسلطة القراءة، ومدى طيفي يستعصي على تلك السلطة، ليظل سابحا خارج تلك الانساق ليكون حاضنة لتشكلات افتراضية قرائية اخرى، تبقى كامنة لقراءات جديدة..
ولنأخذ ديوان (فوضى المكان) للشاعرة رسمية محيبس زاير، الصادر عن مؤسسة الفكر الجديد2008 ،نموذجا تطبيقيا للأفتراضنا السابق وتفحصنا نصوصه كنص (من عبث بأبجدية الجمال) وأخذنا منه المقطع التالي:
أنا النجمة تشظيت. أنا مكتظة بعويل أخرس
الغيمة تحجبني. وزخة مطر تسد علي الطريق
أنا غارقة في التأملات بينما القمر،...
يطوف على الاشجار والبنايات
على الادغال والبحيرات
فبقراءة هذا المقطع نرى بأن العلاقات المتحكمة، والتي يحاول النص ببنيته الكتابية من وضعها وهي الاندماج مابين عناصر الطبيعة والتي هي: (النجمة، الغيمة، المطر، الاشجار، الادغال، البحيرات)، وهي تعبير عن الوجود الخارجي أو الاطار الكوني اللام، والنفس البشرية والتي تظهر من خلال (التشظي، العويل، الأخرس، الحجب، سد الطريق، التأمل) والذات المتكلمة وهي (أنا)، وساعدت هذه العلاقات النص الكتابي بزرع عدة مثيرات في المقاربات القرائية للنص، تحيل الى انتاج عدة علاقات افتراضية جديدة، ربما تندمج مع مقاربات الكتابة الاولية أو تعارضها، أو ربما تنتج لها وجودا مستقلا ومفارقا، حيث تكون تلك المقابلة مابين (أنا) كوجود مؤسس للنص على اعتبار انه عتبة تقود الى داخل (أنا النص)، بمنلوج يعكس صورتها البدئية المقترنة بالنجمة التي تتفاعل و تتشكل صورتها من خلال التماهي أو الوقوف أمام أو بالضد من الافعال التالية ( تشظيت، تحجب، تسد)، وما توحيه الكلمات الاتية من أفعال او صفات (مكتظة وغارقة) لتنتج لنا مفهوما مغايرا وذلك يتضح من خلال المقابلة بين (أنا النجمة ) و(القمر) والاختلاف مابين حركتيهما المستند على تداولية تلك الدلالات، اذ ان حركة القمر هي حركية خارجية من خلال الفعل (يطوف) بينما (النجمة) ساكنة وحركيتها داخلية تظهر من خلال (غارقة في التأملات)، ولكن النص يقلب تلك العقدية التداولية ، اذ تأخذ (النجمة) بأرتباطاتها السابقة، بكسر مرجعيتها التداولية، وان حافظت على سكونيتها الخارجية، الا انها استبدت داخل النص بحركية باذخة، حتى انها صادرت الحركية الفاعلة (للقمر)، التي ربما كان يوحي بها المقطع السابق:
يتأملني الراحلون في الحيرة
يفترشون معي الطرق والسطوح المهجورة
يتصورني صياد حفنة عقيق
اجمع النجوم، اروي لهن ما على الارض
وأيضا:
كان الاولاد يسهرون وقد استبد بهم القمر
يزحفون اليه بعد ان تكون المدينة قد رقدت
والبنات دخلن واغلقت الابواب
كنت اسمع شعرا وأغان بيض مجنحة
اما لو أخذنا نص ( أنا بحاجة للبكاء) وأخذنا منه المقطع التالي:
لقد كان الورد يتفرس في جراحنا ويضحك
كان دمنا يضيء
دون حدود ولا مخافر او شرطة
منه امتلأت الجرار
وفاض العبير
وترملت القوافي
لرأينا بأن هذا المقطع يقوم على علاقات كتابية بين عبارة (الورد يتفرس في جراحنا ويضحك) والتداعيات التي تأتي بعدها، وهي علاقات تفسيرية مبنية على مايعرف بالسرد/شعري من خلال التزامنية التي يوحيها الفعل الناقص (كان) في (كان الورد) و (كان دمنا)، وينتج ايضا علاقات قرائية افتراضية مبنية على عدة مثيرات ربما تقود الى ايجاد تناصات مضمرة، ربما تقودنا لربطها مع شخصية الشاعر الشهيد (لوركا)، وذلك بالعلاقة مابين (الورد) و (الدم)، وعبارة (دون حدود ولا مخافر أو شرطة) ، وايضا (ترملت القوافي)، وتستند هذه المثيرات على الايحاء الذي تولده عبارة (الورد يتفرس في جراحنا) وهي بأعتقادي التي ولدت تلك التقابلات المقترحة والتي ذكرناها قبل قليل مابين (الورد والدم ...الخ)..
أما نص (يقظة متأخرة) فيقوم ببنيته الكتابية على الربط مابين العنوان وهو ثريا النص والمتن من خلال الارتباط المحوري مابينهما والمتمثل بعبارة (لم يوقظني احد في بهو المنتظرين)، والتي تعتبر ركيزة النص وسداه، بينما القراءة تقسم النص الى بنيتين قرائيتين هما بنية (الحلم) و (الواقع) حيث يكون فعل الاستيقاظ هو المحرك والمولد للدلالات، اذ تتجسد تداعيات الحلم مع حصيلتها التداولية، على اعتبار ان (الحلم)، تعويض لواقع ما، اذ يظهر المتن الاول في المقطع التالي:
هذا ليس آوان ندى
أو مطر يلثم أوراق الروح
الدرب هنا اضيق من حلم
والاشجار...
صارت كنساء بمظلات خضراء
يتأملن مرور اللحظات
قامات نخيل مثقلة بالطلع جسور تختصر الكون
مقهى يستيقظ فجأة
والمتن الاخر (الواقع) فيظهر من خلال المقطع التالي:-
ها اني استيقظ
واحس برائحة الصيف الفائت
تعبق في روحية
أتذكر أن قطارا
غادر في منتصف الليل
ولم يوقظني أحد في بهو المنتظرين
ولهذا
ولأجل نهار أخر يأتي
سأحرض الف ربيع في قلبي
وأغني
أم أني سأواصل أحلامي
حتى يأتي من يوقظني
وهذا لم يأتي لتعزيز الافتراضات التي قام عليها النص الكتابي الاولي بعلاقاته التداوليةن بل انه غاير تلك العلاقات، بأن جاءت لتنقض ذلك الافتراض، مما ينقض بنية الحلم من خلال نقض هذه الدوال ومغايرة نسقها اللاظم الحلم (هذا آوان ندى) و ( الدرب هنا اضيق من حلم)، وايضا التأكيد الذي يأتي في الفضاء الاخر المقابل والمقترح وهو الواقع:
ولأجل نهار اخر يأتي
سأحرض الف ربيع في قلبي
وأغني
أم اني سأواصل أحلامي
حتى يأتي من يوقظني
اما نص (هكذا تنطفئ النجوم) المهدى الى روح الشاعر رعد عبد القادر، يحاول ان يتمثل رؤيته الكتابية من خلال التماهي مع جملة الاهداء وذلك بالتشكيل الصوري، الذي يرسمه النص وايضا التوجه المباشر نحو تلك الدالة بـ(أما رأيت النهر كم كان/ وادعا)، حيث تضعنا القراءة في مواجهة افتراضية بين هذه التشكيل الصوري الذي يحيل الى الاهداء، والمثيرات القرائية التي تظهر خالقة جوا مشحونا للنص، وذلك يظهر من خلال المقابلات مابين ( أما رايت النهر كم كان /وادعا / وهو يستمع الى غيابك) و(بك امتلأ وقد كان فارغا) وايضا المقابلة الاخرى مابين (ما انضر هذه الورقة/ ما ارق هذا الصوت وهو يتسلق الاغصان/ منذ سنين وانا اصطفي الماء/ واصطفي الغيوم)، وبين هذا المقطع ( لكني انطفئ في عتمة المساء / وخضرتي تندحر الى صفرة تحاكي الذهب)، وهذا الجو الذي تخلقه هذه المقابلات يتعزز ويتشكل كمثير قرائي افتراضي، ويصنع خيطا يلظم دلالاتها الكتابية (النهر الوادع)، (الرنين الخافت يتصاعد كلما انطفأت الريح) ليمر بـ (نضارة الورقة) و (الصوت الذي يتسلق الاغصان) الى (النجمة التي اسرتها الافاق القصية) و (الصرخة التي تمزق جسد السكون) الى اخر الافتراضات المتقابلة بين تشكيلات النص التي تقود الى انتاج نص القراءة، بعد ان تحتك تلك المثيرات التي هي رؤية كامنة داخل النص مع فعل القراءة الذي ينتج تلك الاطياف..
اما نص ( العندليب) الذي نأخذ منه المقطع التالي:
حين مات عبد الحليم
خيل لي ان عقربا
لدغ القمر
فسال الدم الابيض
حتى غطى السماء
فنلاحظ تلك المجاورة الكتابية بين (عبد الحليم) و (العقرب) و (القمر) والتي تولد عدة افتراضات قرائية تتولد من العلاقة الغرائبية بين العقرب والقمر كمثير ينتج افتراضات تبنى على الاحالات المرجعية لكلا الدلالتين بمدياتهما القرائية، حيث يكون ( عبد الحليم) هي الدالة اللاظمة والموجهة لفعل القراءة كأجراء، ومثير مرتبط بعبارتي ( حين مات) و (خيل لي)..
* طيف المنطقة المقدسة-حفريات مابعد الحداثة .مجمد علي النصراوي. دار الشؤون الثقافية العامة. طـ1 بغداد2006 ص11
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق