الأربعاء، فبراير 10، 2010

فضاءات المعابد السبعة/ قراءة في كتاب فضاءات قزح



د. هاني الحروب


إنها لسعادةٌ غامِرةٌ أن يكونَ نصيبي تقديم كتاب توأمي زياد جيوسي، الذي أشاعَ في قلوبِنِا بَشَاشَةَ الفَجرِ السّعيد، وتعاظُمَ الحلم بشفافيةٍ فنيةٍ رشيقةٍ رائعةٍ.

وقبل الحديث عن أي شيء، لا بد من التطرقِ لهذا الزياد؛ هذا التوأم اللدود العامرُ دوماً بالمعاني والحكايا اللذيذة، والحلم الذي يكبر، فزياد حقاً صاحب الفم المثقل دوماً بترانيم الإنسان كفراشات بيضاء على وجهِ الشمسِ.

من لا يعرف زياداً عن قرب حتماً ستنقصه الصورة وجماليتها المكتملة، فهو النبع الزلال المتدفق دوماً.. المتعدد بروافده المختلفة في مذاقها ونكهتها المتوحدة في سمة الخصوبة والجودة، فلا يسعك إلاّ التحليق معه ومعها من خلال فضاءات قزح.

وإذا صادفك الحظ وجلستَ إلى مائدتهِ، فإنك تجدُ نفسكَ أمامَ لوحةٍ مدهشةٍ تلفها هالة من الإبداعِ والقدسيةِ، فتحتار من أين وكيف تبدأ؟ فتنتظر مرغماً لترى طقوسه فتتبعها متكاملاً معه ومعها.

أيّها أل"غوغارين" الذي يجوس الفضاءات، ويعود إلينا حاملاً بيمينهِِ قوس قزح، وفي شمالهِ عجائب وأحاجٍ ونوراً يشعُّ من الوجةِ والقلب.. أراك تبحر مثل "أوذيسيه" ملك "إيثاكي" الذي ذهب للقتال في حرب الطرواديين، وأثناء عودته من الحرب أخذه البحر عنوة في إبحارٍ دام عشر سنوات، فأراك تعود مثله ومعك الجنيات السبع والحكايا اللذيذة والحكمة السديدة.

حقاً فزياد هو القادم دوماً و"إيثاكي" في خاطره، ووصولها مبتغاه ومقصده، لكن حذار أن تتعجل إطلاقاً في رحلتك، فالأفضل أن تدوم سفرتُك سنين وسنين، وأن تلقي بمرساتك في الجزيرة بعد أن تصير كهلاً، وبعد أن تغدو بفضل ما ربحته ثرياً، فليسَ لكَ أن تتوقع أن تمنحكَ "إيثاكي" الثراء.. لقد منحتك "إيثاكي" رحلة رائعة جميلة، فلولاها ما عرفتَ السفر، ولا شددت الرحال، وليس بوسع "إيثاكي" أن تمنحك أكثر من هذا، وكما يقول الشاعر اليوناني "كوستس بيتروس كفافيس":

فإذا ما وجدت "إيثاكي" فقيرة، فاعلم أنها لم تخدعك ولم تخسرْ منك

وما دُمتَ قد غَدوتَ على هذا القدرِ من الحكمةِ

وما دُمتَ قد نلت كل هذا القدر من الخبرةِ

فلا ريبَ أنكَ قد فهمتَ فعلاً ماذا يعني المكان المسمى "إيثاكي".

فيا صديقي.. المدينة التي تهرب منها أو تهرب منك سوف تبقى تلاحقك، وفي الطرقات ذاتها سوف تهيم على وَجهكَ، وفي أحيائها سوف تدركك الشيخوخة، ويكلل المشيبُ هامتُكَ، سوف تصلُ دوماً إلى المدينةِ نفسها التي تسكنكَ وتسكنها.

أما الفَنُّ يا صديقي فهو القادرُ على تجسيدِ الكمالِ في أبدعِ صورةٍ، والقادر على جعلِ حياتنا تبدو- بغير أن نحسَّ- أقربَ إلى الكمالِ، والفنُّ هوَ الذي يجمعُ شَملَ شَتات مشاعرنِا ويُلملمُ ما تبعثرَ من أيامِ حياتنا، أما الشعرُ فهوَ روحُ وشفافيةُ هذا الكمالِ المتجسدِ، وهو، أيضاً، تعبيرُ الفيلسوفِ اليونانيّ أرسطو "بأنه الأهمُّ والأكثرُ فلسفةً من التاريخِ".

وزياد، بدخوله فضاءات المعابد السبعة، يُجسِّد لنا هذا الحسَّ، ويشكل جسراً عميقَ المدى للاتصالِ والتواصل بين هذه الألوان بعضها ببعض، وبيننا وبينها، ليشكل لوحةً غايةً في الإبهارِ والإبداعِ التي قلَّ نظيرها.

ويجلب زياد في نظراته التي تجوس في زوايا تلك المعابد كل الخير وأشياء حميمة، تُسقينا الصمتَ خمراً مُعتقاً، وتُشعلُ الأملَ فينا عُشباً أخضرَ، فتهللُ من حولنا أطيافُ الحبَّ وظلالِه، ولا يسعني هنا إلاّ أن أستذكر بعض أبيات لشاعرتنا فدوى طوقان التي تقول:

أعطنا حُباً، فبالحب كُنوزُ الخيرِ فينا

تتفجر

وأغانينا ستخضرُّ على الحبّ وتُزهرُ

أعطنا حُباً فنبني العالم المنهار فينا

من جديد

ونعيد

فرحةَ الخصب لِدنيانا الجديدة.

إنَّ قوى الشر، مهما كان لونها وكنيتها، تقف دائماً ضد الإنسان وتعملُ على تحطيمهِ، حيث القواعد التي يصعبُ كسرها، والتقاليد الخالية من العقل، والتي تضع الأشياء وجماليتها في القمقم، فنكون توقاً مستمراً إلى الانطلاق خَارج مناخ الزماّن والمكان، والزمان هو زمان القهر والكبت والذوبان في اللاشيئية، والمكان هو الحصار والتنكيل، فكانت حياتنا سلسلة من المخاطر والتحديات، وكان زياد جرأة نادرة في الفكرة وأصالة في التعبير والتحليلِ، ولم يمتنعْ يوماً من اقتحام الخطوط الحمراء وإيعازات القسر والانضباط من أجل الصدق والوفاء لقدسية الإنسان.

كم كان مبدعاً وهو يتخطى أصناف الكلمات كلها بسعة العقل وقوة المشيئة، مقتنصاً جمالية كل ما يواجهه بإرادة مثابرة وحلم جارفٍ وعملٍ دؤوب ما يكفي للتخطي والعبور، والاحتكاك لتفجير الحروف بعين ثاقبة، وقدرة غريزية تجيد اختراق الأشياء وتحليلها والوصول إلى مكنوناتها الحقيقية، وإسقاط كافة رموزها لدرجة تعريتها ما يثير الغضب عند صاحبها والفرحة عند مبدعها، لأنه تم الوصول إليها، وأمسكَ بتلابيبها لتكون ملكية الجميع وليس خصوصيته فقط.

إن لغة زياد وحِدَّةَ رؤيته صادرة من الأحشاءِ ممزوجةٌ بالعنايةِ والحُلمِ الجامحِ والوعي والزمنِ وقوةِ التأثيرِ المُعتمدِ على جَدَلِ مجموعةٍ من الخصائص والرؤى الكيفيةِ الواضحةِ التي تفعلُ بواقعها وتعمق معاني الصّراعِ والّتحدي، حيث تَتَكَثّفُ وتَحتَشدُ مُجتمعة في بُؤرةٍ واحدةٍ مُزدحمةٍ، لتجسيد نزعةِ الانطلاقِ والتَّحررِ من أجلِ حريةٍ أكبر، فكنت يا صديقي النسمةَ والصوتَ الحنونَ الذي يَستَحضرُ الأملَ وقت الظلمات، ويبقى متشائلاً رغم كل المحبطات، ويكتبُ أشياءه بريشة الرسام ولغة الأديب المجرسة برهافة الشاعر والمشنشلة بصوت العندليب وتعابير الممثل في عين المرآة وبؤرة العدسة، فأنتَ القادمُ بالحلمِ والأملِ من جبالِ الريحِ إلى نوّ العاصفةِ تُعمدها بعطائك الدائم والوجع النازف.

إن الأشياءَ البسيطةَ هي التي تصنعُ الدهشةَََ، وكذلك البساطةَ والصفاءَ المتعايشان مع الألمِ والتحدي، نستطيع أن نُحسَّ ذلك ونَتَلمّسَهُ ونُنعِمَ النظَرَ فيه، حينَ نقرأ فضاءات زياد القزحية ذات الأطياف السبعة، والتي أوردها بأبواب خمسة لمعابد سبعة: سينما، شعر، أدب، مسرح، فنون (رسم , نحت ، غناء).

لا أريد أن أخوض في تحليل تلك الفضاءات المذهلة والممتعة حتى أترك للقارئ خيال إبحاره وبدون حصره وفق جماليات محددة، والشيء الوحيد الذي لا بد من قوله هو إن هذه الأبواب اجتمعت معابدها على عزف الهم الوطني والبعد الإنساني بسماته المحلية والإقليمية والعالمية.

وعليه، نستطيعُ أن نشمَّ رائحةَ المكانِ والزمانِ والأشياءِ ونثرياتها النفّاذةِ والحارّةِ، بل إننا في أحيان كثيرةٍ نوَدُّ لو نُربّتُ فوق ظهرِ الكلماتِ، عَلّنا َنتَحسَّس مَلمسَها الغَضّ، وإيقاعَها السهلِ، ففهمُ زياد العميقُ لواقعِ الحالِ قرينُ فهم كليّ للظاهرتين الحضاريةِ والإبداعية، ما ينطوي ذلكَ على وعيٍ حادّ بجدليةِ العلاقةِ بين الظاهرتين للفعلِ في زحزحةِ الواقعِ والنفاذِ في الأشياءِ واضطرامِ الأحداثِ أو نصوصها، لإبرازها في صورةٍ لافتةٍ، على قاعدةِ ذلكَ طرح زياد كلّ أسئلةِ الوجود الجوهرية من حبّ وعدلٍ وحريةٍ ورثاءٍ وخيرٍ وشرٍ وجمال.. استطاع معالجتها من خلال فضاءاته الملونة بريشة الأدب وصوت الشعر المنحوت والمُغَنى بتعبيرات الممثل أمام عدسة التصوير والتكوين، حيثُ الزمانُ والمكانُ تتبلورُ فاعليتُهما في علاقةِ كليهما بالآخر، فَنَدخُلُ في مزيج من وقائع التاريخ ونوازحِ الروحِ في بوحٍ حميمٍ لدواخلِ النفسِ، عندها يذوبُ الحسيّ في المجّردِ، ويختلطُ الشخصيُّ الحميمُ بالعامِ الشائعِ، وَكَأنّهُ الخيطُ الرفيعُ الذي يربطُ بينَ فضاءاتِ تلك الفنون التي يُبحرُ فيها زياد وعمقِ الرُّوح، لإيقاظِ الحرية والنورِ المتجسدةِ في جَسَدِ تلك الفنون لتشكيلِ حالةٍ من الصيّرورةِ الثقافيةِ والفنيةِ، تتقاطعُ فيها وتمتزجُ أنماطٌ شتّى من الوجودِ والمعرفةِ.

هذا زياد الأديبُ والناقدُ والإنسانُ الأصيلُ والسنديانة الشامخة في حياتنا الثقافيةِ والاجتماعيةِ، ظاهرةٌ فريدةٌ وتجربةٌ رائدةٌ على صعيدِ الحياةِ والإبداعِ، حيثُ يُلمسُ فيها عطشٌ مقدسٌ إلى كلّ ما هو رفيعٌ وعميقٌ وإنسانيٌ من عطاءاتِ الفنّ والفلسفةِ والأدبِ، وإيمانٌ راسخٌ بالأخوّةِ والعدالةِ الحقيقيةِ بينَ البشر.

إنَ قدرةَ الحسّ المرهفِ على اجتيازِ واختراق القيودِ والعقباتِ العاتيةِ بعد تفاعُلٍ حارٍّ وذكيّ في محطاتٍ شعوريةٍ من قِبلِ أديبٍ وناقدٍ خصب العواطفِ والتفكيرِ والعطاءِ والتعبيرِ، والتي تَرَكَتْ نَغَماتَ مشاعِره على طبيعتها رقة وصدقاً حاراً، مؤكدةً على انتصار إرادة زياد، فَرغمَ معاناتهِ الجمّةِ، إلا أنهُ بقَيَ ماضياً دوماً في ثقةٍ رائعةٍ نحو أهدافهِ الواضحةِ.

فيا صاحبي.. ما زالت عجينة الواجب والعمل التي جبلتنا، تسكنُ زفراتنا، وتشعلُ فينا شرارة المثابرة والتمرد، فنمطر دوماً داخل الدائرة وخصب الذاكرة، وترسم صباحنا بأجمل صوره وأبهى طلاّته كغيم يُمطرنا عشقاً يُكَحّلُ العيون على طولِ المدى، وأملاً ووعداً يُبشرنا بجمالية وجودة فضاءات قزح.

وأخيراً يا توأمي لا يسعني إلا أن أهنّئ نفسي بك.. بسيّد الحُلمِ الجامحِ واشتعالِ الحُبَّ.



(رام الله)



ليست هناك تعليقات: