السبت، فبراير 06، 2010

على جفن البنفسج / نصوص للسيدة نبال شمس

د. عدنان الظاهر

( تهويمات صوفية شمسية )

الكتابة عن نبال وعن قصصها ليس بالأمر الهيّن على شخص مثلي بعيد عنها وعن بلدها ونشأتها وظروفها التي لا تخلو من بعض التعقيدات على رأسها كونها فلسطينية من عرب 1948 حسب تقسيمات وتوصيفات الحكومات الإسرائيلية الرسمية . نعم ولكن ، الكتابة عن فن وأسلوب نبال في السرد القصصي يستوجب معرفة من هي نبال شمس أولاً . يمكنني تلخيص الخطوط العامة القوية التي تميّز هذه السيدة الموهوبة وما كتبت في هذه المجموعة بما يلي :
1 ـ مهندسة مقتدرة في فن جمع النقيضين ومواجهة النقيض بنقيضه
2 ـ مخلصة جداً وبشكل خاص لصديقاتها وسخية إلى أبعد حدود السخاء في تكريمهنَّ ونعتهنَّ بأفضل الأوصاف والصفات الحميدة حتى ليخيّل للقارئ أنها تغازل صديقاتها غزلاً راقياً شديد الإغراء والفتنة . نجد ذلك في القصص التالية : لُغز اليد الممدودة الصفحة 99 / أيا ليلى 60 / صديقتي والمتنبي 40 / وجوهي التسعة 126 / أراني في إنبثاق الفجر 12 / كما خصصت 23 مقطعاً من قصة وشاية لبيضاء الثلج ، الصفحة 203 ، لحوارات عذبة وجدانية في صوفيتها وصوفية في الأفكار والمعاني لكنها تختلف عن باقي حواراتها وذكرياتها مع صديقاتها وزميلات الدراسة والطفولة حيث أنَّ هذه تصلح أنْ تكون حواراً بين الإنسان ونفسه ، أي أنَّ القاصّة شطرتْ نفسها شطرين إثنين متكافئين يخاطب ُويحاججُ شطرٌ الشطرَ الآخرَ كمن يتحدثُ مع نفسه أمام مرآة .
3 ـ كذلك هي مخلصة حتى التفاني والذوبان في عالم الطفولة ولا سيّما أطفال المدرسة التي تقوم بتدريسهم من المعوقين جسدياً أو المتخلفين عقلياً أو الذين يعانون من صعوبة النطق أو الإنسجام مع باقي الأطفال ... الأمثلة كثيرة لكنَّ أبرزها ما كتبت عن الطفلة دانا إذْ كرّست لها كامل الصفحات 234 ـ 267 ، أو الأطواق الثاني والثالث والطوق الرابع حيث نجد الكلامَ كثيفاً وملحّاً وشديد السخونة حول ثنائية الروح والجسد والنور والظلمة كأنها من أتباع ماني أو أتباع الديانة المندائية .
4 ـ فلسطين هي محنة الكاتبة الكبرى والجرح الدامي الأكثر عمقاً وإنها شديدة التعلّق بمدن وأمكنة مثل مدينة حيفا والكرمل والجليل بحيث تُلّحُ عليها هذه الأسماء فنراها تكررها بين الحين والحين حتى لكأنها لا تستطيعُ مفارقتها أبداً . وكمثال على عمق مأساة الوطن فيها أقتبسُ ما قالت في الصفحة 192 :
{{ خلاصة البداية :
إستبحتني كوطن ، فتلبستني غُربةً ... وطنٌ وجودي فيه عدمٌ ... عدمي فيه هو سرُّ وجودي }}
5 ـ تصريحها الجريء بأنها عاجزة عن الإتمام ... نجد ذلك جليّاً واضحاً في الصفحة 128 على سبيل المثال ، وهي بهذا تخالف منطق المتنبي الذي قال
ولم أرَ في عيوب الناسِ عيباً
كنقصِ القادرين على التمامِ

6 ـ لا من فرح في عالم قصص هذه السيدة المنكوبة بوطنها ووطن أسلافها وأسلاف أسلافها ، لا تجيد قوله ولا تصطنعه أبداً .
7ـ ليس في الكتاب أي إشارة أو رمزٍ أو أثرٍ لما يُسمّى بالأدب الآيروسي . نبال تتحاشى مسَّ هذه الموضوعات وتنأى بنفسها الأبيّة عنها . لسانها عفيف وتربتها وتربيتها عاليتا النقاوة والبهاء .
8 ـ نبال والموت : صوت الموت طاغٍ في قصصها ، تكلّمتْ عنه طويلاً وكذلك عن الأموات . لقد كرّست نبال المقطع الرابع والعشرين [ أعطته خطأً رقم 25 ] من قصة وشاية لبيضاء الثلج آنفة الذِكْر ، كرّسته جميعاً لموضوعة الموت حتى أنها إفتتحته بقولها { تناقلت الإيميلات خبرَ وفاتي ... } ثم تساءلت : هل أنا ميّتة ؟ ثم كررت بعد ذلك : هل أنا ميّتة فعلاً ؟ وتواصل أسئلتها الحزينة غير الواثقة والمتأرجحة بين الرغبة الغامضة في الموت والتشبث الطبيعي بمواصلة الحياة ... فتقول { هل تركتُ الأرضَ وانتقلتُ إلى رحمة مَنْ في السماء ؟ إذهبي يا حلوتي وأعدّي لي إكليلاً من السرو الأخضر والورد الملوّن ولا تنسي أنْ تكتبي على الإكليل أني أحببتُ الروحَ التي سكنتكِ أنتِ ص 211 } . يلوح لي من باب التكهن القوي أنَّ لدى نبال رغبة خفية قوية في الموت لا طاقة فيها لإخفائها . يُخيّلُ لي أنها متأثرة بشعر المِعَرّي الذي قال فيه متعجباً مستنكراً :
تعبٌ كلّها الحياةُ فما أع
جبُ إلاّ من راغبٍ في ازديادِ
9 ـ كسيدة درزية لا ريبَ أنها متأثرة بعقائد الدروز ولا سيّما عقيدة التناسخ والتجسّد وثنائية الروح والجسد وبهاتين العقيدتين يقترب الدروز من مناهج مشاهيرمتصوفة المسلمين [ ذكرتْ نبال الصوفيَّ يزيد البسطامي ، ص 187 ، كما ذكرت كلاًّ من جلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي والحافظ سعدي ثم
فريد الدين العطّار ص 178 ] بل وحتى من مشاهير فلاسفة الإغريق والغرب في مقدمتهم أفلاطون ثم هيكل وهايدكر فيما يخص ثنائية الروح والجسد ، فهل قرأت نبال هؤلاء الفلاسفة أم لا ؟ لا أدري . قالت نبال ، وقد قالته بصيغ أخرى كثيرة متناثرة في متن كتابها هذا ، قالت في الصفحة 176 { كنا إثنتين : أنا وأنا هي ، أنا الجسدُ ، أنا هي الروحُ المقبورةُ في سراديب هذا الجسد } .
من بين روائع النصوص قررتُ الكتابة عن نصين إثنين من بين بقية نصوص المجموعة هما : أراتو وطائر الشقراق المرقّش الصفحة 139 وما يليها ... ثم قصة محاولات إعتكاف الصفحة 176 وما يليها . إستهوتني الأولى لأنَّ الكاتبة نبال إستوحت الكثير من حواراتها في هذه القصة من ملحمة كلكامش السومرية
العراقية كما سنرى . واستهوتني الثانية لأنها دلّتني أنَّ كاتبة النص متأثرة كذلك بفكر وفلسفة الزعيم الدرزي الراحل غدراً المرحوم كمال جنبلاط المتأثر بفلسفة النور إمتداداً لما سبق من فلسفات النور أو النور والظلمة المعروفة .
أولاً / آراتو وطائر الشقراق المرقّش
ما الذي إستهوى السيدة نبال شمس في هذا الثالوث الأسطوري : آلهة الشعر أراتو وعشتار السومرية ثم طائر الشقراق المسكين الذي كسرت عشتارُ جناحه ؟ لم نعرف قصة مأساة تحطيم جناح هذا الطائر الجميل لولا المشادة الساخنة التي جرت عَلَناً في أوروك ذات الأسواق والأسوار بين عشتار وملك سومر كلكامش . عرضت عشتار على الملك الذي دأب على إستباحة نساء سومر عذراوات ومتزوجات ... عرضت عليه الزواج منها فكيف استجاب لهذا العرض ؟ نقرأ نماذجَ مما قال كلكامش في حجج رفضه قبول هذه الصفقة ( ملحمة كلكامش / الصفحات 112 ـ 123 ) (2)
[[ ... أيَّ خير سأناله لو أخذتكِ زوجةً ؟
أنت ! ما أنتِ إلاّ الموقد الذي تخمدُ ناره في البرد
أنتِ كالباب الخلفي لا يصدُّ ريحاً ولا عاصفةً
أنتِ قصرٌ يتحطمُ في داخله الأبطالُ
أنتِ قيرٌ يلوّثُ مَنْ يحمله
أنتِ قِربةٌ تبللُ حاملها
...
تعالي أقصُّ عليكِ مآسيَ عشّاقكِ
من أجلِ تموز حبيب صباكِ
قضيتِ بالبكاء والنواح عليه سنةً بعد سنة
لقد رمتِ طير الشقراق المُرّقش
ولكنكِ ضربته وكسرتِ جناحيه
وها هو الآن حاطٌّ في البساتين يصرخُ نادباً
" جناحي ! جناحي ! " ]]
هذه هي قصة هذا الطير المُرقّش الجميل الذي خدعته آلهةُ الخصب والنماء عشتار سومر . يبدو أنها عرضت الزواجَ عليه كما فعلت مع كلكامش وحين قبل هذا العرض خانته ودمرت جناحيه ... لذا أعرض كلكامش عنها وعمّا عرضت لأنه يتوقع ويخشى وقوعه ضحيةً أخرى من ضحايا هذه الربّة المتقلبة المزاج والقرارات والأهواء . إذا وقفنا على قصة هذا الشقراق الجميل فما علاقة مأساته بالكاتبة المحلّقة دون أجنحةٍ السيدةُ نبال ؟ هل واجهت في حياتها عقاباً أو خيانةً من هذا القبيل ومن الذي ، تُرى ، تجرّاَ أن يخونها ويُفري جناحيها ؟ الطائرُ هو ضحية إمرأة وهو طائرٌ ذكرٌ فكيف نفهم أو { نكيّف بلغة أهل القانون } وضع نبال من هذه القصة ؟ قلتُ إنها جمعت فيها عناصرَ ورؤوس هذا المثلث حتى حلّوا فيها وحلت فيهم الحلول الدرزي الصوفي فكيف ستلعب الأدوار الثلاثة خارج سطوة وسلطان الزمن ، بمعنى أنها تلعب الأدوار الثلاثة معاً بحيث يضمحل الزمن ويختفي إختفاءً كاملاً فيجتمع الكلُّ في واحدٍ أوحدَ تمثله الكاتبة نبال . هي آلهةُ الشعر أراتو لكنها في الأصل والأساس هي الكاتبة نبال . وهي آلهة الخصوبة والربيع والنماء عشتار ، لكنها الأم لولدين إثنين هما آدم وفارس . نقف حيارى أمام لغز الطائر الشقراق ورمزه وما تعنيه قصته بالنسبة للكاتبة ! باختصار وتركيز شديدين : مَن كسرَ جناحي هذه السيدة المبدعة التي وجدتُ في أسلوبها ومنهجها في السرد مشابهَ كثيرة والشاعر الفرنسي المعروف رامبو كما سأبيّنُ لاحقاً ؟ هل نجد بصيص ضوء في الحوار بين الطائر وأراتو ؟ نقرأُ بعضاً منه لعلنا أنْ نجدَ شيئاً يُشفي الغليل :
{{ أكتبيني شعراً مُحلّقاً فلا جناحَ لي .
قالت أراتو : كيف سأكتبكَ قصيدةً وحزنكَ فاق كلَّ القصائد ؟ }} .
آلهة الشعر أراتو تعترفُ أنَّ حزن الشقراق يفوق كلَّ ما في قصائدها من أحزان فما هي طبيعة ومسببات حزن نبال الفلسطينية / آراتو السومرية العراقية ؟ هل أحزان فلسطين تتطابق وأحزان ومناحات ونكبات العراق ؟ نعم ، إنها فلسطينية منكوبة بوطنها لكنها إنسانة كونية لا من حدود لإنسانيتها والعالم جميعاً وطنها ومصدر وعيها وسرّ وجودها وأصل شاعريتها التي لا تنفصمُ عن فيض إنسانيتها. ذكرت شكسبير فاتكأت على قوله الشهير على لسان أمير الدنمارك هاملت : نكون أو لا نكونُ ! أمامنا خياران ، إما الوجود السامي النقي النبيل أو العدم . نبال لا تساوم ولا تعرف التراجع عن مُثلها وأقيامها وهي كما إخالُ تربط محنة الطائر السومري الجميل البريء الكسير الجناح بمحنة هاملت في قضية مقتل أبيه فكلاهما مظلوم وكلاهما ضحية مؤامرة خسيسة فقد ذاك جرّاها جناحيه وقدرته على التحليق وفقد هذا والده وتاجَ مملكة الدنمارك كما زعزعه وضعُ والدته التي تزوّجت من عمّه القاتل بعد مقتل أبيه وقبل أنْ يبلى نعلها أو حذاؤها حسبما أخبره شبح والده من بين أبراج قلعة ألسينور. نكون أو لا نكون ...
To be or not to be, that is the question !
أجدني في وسط هذا الجو المشحون والمتوتر ميّالاً لعقد مقارنة بين بعض نصوص نبال شمس في كتابها هذا وبعض نصوص آرتور رامبو (3) .
نص مُقتبس من قصة أراتو وطائر الشقراق المُرقّش ، الصفحات 139 ـ 140 ـ 141 :
[[ زمنٌ قد يأتي بين أزهار الإهليلج حيثُ الشقراق المُرقّش هناكَ يتشظى غُربةً ووحدةً وينُاجي أطيافَ الهواء . يُنادي أميرةً أسطورية عبرت الآتي إلى البعيد ... إلى الأبعد ... إلى عشتار التي تعبّدَ لها وارتشفَ من خمرها المُعتّق ناراً تاركاً دمَه فوق أناملها الجامحة في عشق جلجامش حيثُ تُدبّرُ مكائدها .
حطَّ الرِحال يبحث عن آثار أقدام أراتو ( آلهة الشعر ) وقيثارتها الحزينة وأكاليل الزهر على رأسها لا تذبلُ .
... لن تذبل .
أتت أراتو وقيثارتها الصامدة تبكي حروفاً أفقدتها ألوهية الحرف . أسقطتها في زمن اللاشعر .
صرخت حيثُ الشقراق ينزفُ دماً وناراً قائلةً :
مطرٌ إهدودرَ فوق نصّي طُوفاناً . نارُ الحرفِ التهمتني لهيبَ براكينَ ثائرة . أخذتني في حلكة الليل قنديلاً مُضاءً كالنيلوفر الحزين قربَ النهر العنيف الذي لا يُقاوم .
جُرحي والحرفُ الذي لا يخرجُ سيّان . كلٌّ يتمزّرُ دمي يهتكُ صمتي ويعلكُ ضعفي . { ملاحظة منّي : ما معنى الفعل يتمزّرُ } ؟
يا نفسي الهشة يا نفسي أما حان لفطرتي الأولى أنْ تهدأ ؟ لوغوس يطحنُ رأسي يأخذني عميقاً ويرمي بأشلائي في متاهات مُطوّقة .
أدور حول محوري شمساً ... يدورُ زمني حولي قمراً . يفصلنا البعدُ عاصفةَ حزنٍ لا تهدأُ . مَطره عنيفٌ غيومه طيورٌ أسطورية تتقيأ لَهباً { كتبتها نبال تتقيؤ وهذا خطأ كررته في كتابها هذا مراراً } .
أكتبُ قربَ النهر العنيف ... والنيلوفر الضعيف ، ضعيف لا يقاومُ ... أستمدُّ روحي من أعماقه المكسورة والليلُ كفّنني سرّاً عميقاً لا تحويه أوراقي ولا تغفرُ له صلاةُ عاشقٍ صوفيٍّ ساهرٍ على قارعةِ الليلِ ينحتُ آثامَ العشق وأسرار الظلام .
وجههُ ... يا وجهَ التاريخ يا وجهي !! النصُّ بين الأوراق حربٌ ضروس . يغزو السطورَ ويأكلها كألسنة لهبٍ صهرها أتونُ الكلماتِ . فلا وجهٌ للشمس نُحدّقُ فيهِ ولا وجهٌ للقمرِ نتشظى بعدَهُ مزاميرَ حُزنٍ .
شرائعُ العفّة تتقمصنا والنيلوفر يبكي فوق النهر الوحيد ...
أرقبُ غُربةً
أرقبُ زمناً ...
أنتظرُ طيفاً أسطورياً يوقفُ النهرَ الذي لا يُقاومُ . والعالمُ عنيفٌ ... عنيفٌ والتعسّفُ تحت جلدي أشعرُ به يسري مع حروفي الثائرة إلى هاوية النص .
يا وجعي ... يا وجع حرفي المُختلس في حلكة الفجرِ ... وصوتُ الطيرِ يقتلني ... يذبحُني ... يُرهبُني .
إرحلْ / لا ترحلْ !
إبقَ / لا تبقَ !
فأنتَ الطليقُ وأنا المُعتقلةُ في وطني .
كان الطائرُ ينصت لأراتو الحزينةِ فرفعَ رأسه قائلاً :
أنا المكسورُ منذُ بدء التكوين
أنا النازفُ حبّاً ودماً وألماً ]] .
إنتهى إقتباسي الحرفي محافظاً على الأصل كما ورد في الكتاب .
أين البؤرة وأين المركز في هذا السرد التاريخي الجميل الذي اختلطَت فيه إشكالات الكاتبة الذاتية بالموضوعية ... الشخصية بالعامة ... الحب والإنكسارات الحياتية مع كارثة فلسطين السليبة ... إختلط هذا كله بالأساطير التي قرأتها وتأثرت بها وذابت وانحلّت فيها حلولاً صوفياً وجودياً لكنه خارج نطاق الزمان . حتى لكأنَّ مصيبة طائرٍ جميل بريء هي مصيبتها الشخصية ... ثم إنتحلت بقوة حيناً وعلى هوادة أحيانا أخرى ... إنتحلت وضع ومكانة عشتار سومر حبيبة الطاغية كلكامش متجنبة ذِكرَ صدّه الخشن وسبابه الفاحش لها وإعراضه العنيف عنهاً إنما كانت نبال في هيمانها الإبداعي هذا تتمثل قصة غرام أسطوري في شكله ومبناه ومعناه فالحب يبقى هو الحب ظاهرة كونية يجتمع البشرُ حولها وبسببها ويختلف ليجتمع ثانيةً ولا تتم الدورة ولا تنقفل . وحين تخاطب الشقراق ، رمز الحرية والإنعتاق ، أرى نصبَ ناظريَ شعر أبي فراس الحمداني الذي قاله يومَ أنْ كان أسيراً في قبضة الروم :
أيضحكُ مأسورٌ وتبكي طليقةٌ
ويفرحٌ محزونٌ ويندبُ سالي ؟
لقد كنتُ أولى منكِ بالدمع مُقلةً
ولكنَّ دمعي في الحوادثِ غالي

قالت نبال لآسيها ومؤاسيها طير الشقراق :
[[ فأنتَ الطليقُ وأنا المعتقلةُ في وطني ]] .
لكنَّ هذا الطليق مهيض الجناح كسير الخاطر يا نبال عاجزٌ عن الطيران والطيرانُ هو ساحة وميدان حركته الحرّة ومجاله الحيوي < القومي والأممي > ... أما أنت المعتقلة فأنتِ حرةٌ في وطنك من وجهة نظر الحركة الإنتقالية الفيزيائية وأنتِ حرة في النطق والتفكير والتعبير عن قناعاتك ومجمل آرائك ووجهات نظرك في الناس والسياسة فحرامٌ أن تقارني نفسك بوضع طائر مسكين لا حولَ له ولا قوة ولا من نصير في دنياه يدافع عنه ويأخذ بيده أو يعالج الكسور القاتلة في جناحيه وباقي عظامه . لذا كان المسكينُ بليغاً حين ردَّ على خطاب سيدته آلهة الشعر :
[[ أنا المكسورُ منذُ بدء التكوين
أنا النازفُ حبّاً ودماً والماً ]] .
نلمس بيسر بعض مشاكل الكاتبة المستعصية كما تراها هي . على رأسها محنتها مع الكتابة والتعبير عن أشجانها فتجد الحرف ليس ذاك الحرف المطاوع حينما تريده . ففي هذه القصة ، قصة أراتو والشقراق ، قالت ببلاغة ودقة وحرارة تذيب الفؤاد [[ جُرحي والحرف الذي لا يخرجُ سيّان / ص 140 ]] ، جروحها أبجدية حرفية وحروفها جروح فهي في الحالين معذّبة ممُتَحنة تعاني من إمتناع الكلمات عن الإستجابة لها وعصيانها لمشيئتها فكيف سيتسنى لها التعبير عمّا فيها وعمّا تريد قوله وهذا التعبير بلسمٌ ودواء للجروح الغائرة عميقاً في القلب والروح . الإفصاح عمّا في الصدور عملية جراحية تنظف النفس مما فيها من شجن يليها تطهيرٌ عام كما هو الشأنُ مع وبعد كل عملية جراحية . تجرحها الفكرة التي تستعصي على التعبير والتحويل من مجرد خيال فكرة في الرأس إلى حرف مكتوب مقروء متداول فكيف ستتواصل مع باقي الناس وكيف تسمعهم شكاواها وهمومها الكبيرة ؟ إنها لسانٌ مقطوع وفكرٌ ممنوع فما أشقاها بنفسها وبدنياها . لا أجدُ بأساً من إضافة جملة أخرى لها علاقة بالحرف وإستعصائه المزمن القتّال . قالت نبال في الصفحة 139 [[ ...نارُ الحرف إلتهمتني لهيبَ براكينَ ثائرة ]] وقالت قبل هذه الجملة [[ أتت أراتو وقيثارتها الصامدة تبكي حروفاً أفقدتها ألوهية الحرف . أسقطتها في زمن اللاشعر ]] . الحرف لهيبٌ وثورة وثورة ذات لَهَب . وضعتنا ونفسها وسط حريق هائل فأين المفر من الحروف ومشاكساتها ومخاطرها المحيقة بالإنسان ؟
نبال ليست شاعرة وقد إعترفت نفسها بذلك [ الصفحة 272 ] ، فما سبب غيرتها على الشعر ؟ لا مكانَ للغيرة هنا إنما عادت لتذكّرنا بمحنة الكتاب والشواعر والشعراء بالحروف ، ليس هؤلاء هم الممتحنون بالحرف فقط ، بل وحتى آلهة الشعر آراتو نفسها ... آلهة الشعر تحمل معها اللحون لكنها عاجزة عن النطق ... لا تجد الكلام الموافق للنغم فكيف ستغني أشعارها وهي ربّة الشعر ؟
لم تتكلم نبال شمس عن محنتها مع حروف التعبير عن النصوص فقط ، ولكن تكلمت عن النص وهو أكبر من الحرف وإنْ كان هذا أسّه الأساس ولكنهما مترابطان متلازمان . مفردة " النص " شغلها الشاغل حتى أكثرت من ذكرها في تضاعيف كتابها بشكل مُلفتٍ للنظر . أقتبسُ مثالاً واحداً يكفي لتبيان ما أقصدُ [[ يا وجهَ التاريخ يا وجهي !! النصُّ بين الأوراق حربٌ ضروس . يغزو السطور ويأكلها كألسنة لَهَبٍ صهرها أتونُ الكلمات / صفحة 140 ]] . فهل من جفوة بينها وبين نصوصها وما تفسيرها ؟
الكاتبة بارعة في تقمّص الأدوار المختلفة في تكوينها وتشكيلاتها وطبائعها . فهي آلهة الشعر مرةً وهي الشقراق أخرى وهي عشتار ثالثةً إنها هي بعينها وعيانها نبال شمس تلعب وتتلاعب بالأدوار الشديدة الإختلاف والتعقيد كأنها خُلقت بثلاثة رؤوس وثلاثة السنة وأكثر من قلب . هي ممثلة من الطراز الأول وليست متكلمة ذات منطق وفلسفة وحجة وبيان حسبُ .
الآن سأختار ، للمقارنة ، واحداً من نصوص أرتور رامبو النثرية (3) لأبين أوجه الشبه الكثيرة بين أسلوب هذا في الكتابة وأسلوب السيدة نبال علماً أني لا أعرف هل هي متأثرة به وبنهجه في السرد وهل هي تعرف هذا الرجل جيداً الذي عاش وكتب ما كتب قبلَ أكثر من 140 عاماً (( 1870 ـ 1873 )) ؟ بالطبع هناك فوارق عميقة كثيرة بين فكر ومنهج وثقافة كل من رامبو ونبال ولكل منهما نهجه الخاص في السرد تركيزاً وتوسّعاً ، إستعارةً وترميزاً ومجازاً ولا سيّما في مجالات سعة وتنوّع الإحالات . فرامبو كثير الإحالات وخاصة ميله القوي للرجوع إلى ما قرأ في التوراة والإنجيل وإلى الكثير من الأساطير وأسماء العديد من الشعراء فرنسيين وغير فرنسيين . ثم لا ننسى أنَّ له تجارب سياسية ثورية على رأسها تأييده لكومونة باريس فضلاً عن قناعاته المناوئة للدين وجنوحه للعلمانية والإلحاد وسخريته اللاذعة من الكنيسة والرهبان والراهبات . هذه فروق أكبر من كبيرة بين رامبو ونبال لكني رغم ذلك وجدتُ ـ أو هكذا خُيّلَ لي ـ أنَّ لبعض ما كتبت الفلسطينية السيدة نبال أوجه شبه مع بعض كتابات الفرنسي الأممي رامبو . من يدري ؟ لو كان رامبو حياً اليوم لربما وقف مع الفلسطينيين ودافع بحرارة وصدق عن حقوقهم المشروعة في أرضهم ووطنهم القديم .
وجدتُ أنَّ أفضلَ وأيسرَ مقارنة بين نص نبال السابق الذي كتبتُ حروفه مائلةً ووضعته بين أقواس مزدوجة مستقيمة ... وجدتها ـ ربما ـ تصلح مع قصيدة
" ليل الجحيم " لرامبو (3) . سأختار مقتطفاتٍ منها نظراً للتطابق مع نص نبال آنف الذِكْر من حيثُ بعض الصور الشعرية وبعض المفردات بعينها وبعض أفعال الأمر كأفعالِ أمرٍ وإنْ إختلفت في مضامين أوامرها وطبائع هذه المضامين وقدرتهما الفائقة على ملاقاة الأضداد وتصادمها مع بعضها تصادماً ليّناً ودوداً رحيماً وعنيفاً أحياناً . ثم يجب أنْ لا نغفل الفرق بين ديانتي نبال ، الإسلام ، وجذور رامبو المسيحية التي أنكرها أو تنكّر لها رغم إفادته منها مرجعاً ومصدراً ورمزاً وتشبيهاً في الكثير مما كتب . سوف لا أفسّر ولا أضيف ... التفسيرات موجودة في حواشي الكتاب لمن يود التوسع في فهم رامبو .
[[ إبتلعتُ جرعةً من السم قوية . ـ بوركتْ ثلاثا النصيحة التي بلغتني ! ـ الأحشاء تحرقني . لذاعةُ السمِّ تلوي أعضائي ، تشوهّني ، تصعقني . أموتُ ظمأً ، أختنقُ ، لا أقوى على الصُراخ . إنها الجحيم . العذابُ الأبدي ! أنظروا إلى النار تتجددُ ! إني أحترقُ كما ينبغي . أيها الشيطانُ ، إليك عني .
كنتُ لمحتُ الهدايةَ إلى الخير والسعادة ، لمحتُ الخلاصَ . لئن استطعتُ أنْ أصفَّ الرؤية إلاّ أنَّ أجواءَ الجحيمِ لا تحتملُ التراتيل ! كان هناك ملايين المخلوقات تاستحرة ، جوقةٌ روحيّة عذْبة ، القوّةُ والسلامُ والمطامح النبيلة ، ولا أدري ماذا بعدُ .
المطامحُ النبيلةُ !
وما تزالُ هي الحياةُ ! ـ وإذا كانت لعنةُ الجحيم أبديةً ! أوَ ليسَ إنسانٌ يريدُ جدعَ نفسهِ رجيماً حقاً ؟ أحسبني في الجحيم ، إذاً أنا فيها .
...
أصمتْ ، ألا اصمتْ ! ... إنه العارُ هنا والملامةُ : الشيطانُ الذي يقولُ إنَّ النارَ رذيلة وإنَّ غضبي أحمقٌ بشناعةٍ . ـ كفى ! ... أخطاءٌ يوحى بها إليَّ ، شعبذاتٌ وعطورٌ زائفةٌ وموسيقى صبيان . ـ وأقولُ إنني قابضٌ على الحقيقة ، إنني أرى العدالةَ : إنَّ لديَّ حكماً سليماً وثابتاً وإنني متأّهبٌ للكمال ... خُيلاء ! ـ فروةُ رأسي تيبسُ . رُحماكَ ! مولاي ، إني خائفٌ . أنا عطشانٌ ، وأيُّ عطشٍ ! آه ، الطفولةُ والعشبُ والمطرُ والبحيرةُ فوق الأحجارِ وضوءُ القمرِ عندما يُعلنُ الناقوسُ عن منتصف الليل ... الشيطانُ في برج الناقوس ، في هذه الساعةِ . يا مريمُ ! أيتها العذراءُ المقدّسةُ ! ... يا لهول حماقتي .
...
الهلوساتُ لا تُعدُّ . هذا ما حزتهُ دائماً : لا إيمانَ بالتاريخ بعدَ الآن ، نسيانُ المبادئ . سأصمتُ : ويغارُ منّي الراؤون والشعراء {{ كتبها المترجم الرائون ... وهذا خطأ ! }} . أنا ألفَ مرّةٍ الأثرى ، فلنكن بُخلاءَ كالبحرِ .
...
يسوعُ يسيرُ على الأشواك الأرجوانية ولا يلويها ... كانَ يسوعُ يمشي على الماءِ الهائجِ . كان الفانوسُ يُريناهُ واقفاً ، أبيضَ بجدائلَ سمراءَ ، في حضن موجةٍ زمرّديةٍ ... ]]
إنتهى إقتباسي من جحيم رامبو وهو لا شكَّ مختلفٌ عن جحيم الشاعر الإيطالي دانتي ومختلفٌ عن رسالة غفران المِعرّي فإنَّ رامبو في قاع جحيمه هذا يذوب وينحلُّ بالمسيح حيناً فيتكلمُ كأنه هو عيسى المسيح وينفصلُ عنه أحيانا في أوبةٍ شديدة الوضوح لنفسه فيتكلمُ بلسانه هو . أحسبُ أنَّ هناكَ لرامبو كتابات أخرى من الشعر المنثور يلتقي فيها وما كتبتْ نبال شمس لكنني هنا لستُ بوارد الإطالة والإستفاضة وحسبي قولي أنَّ رامبو كان شديد الشغف بالشمس حتى أنه نعتَ صديقه الشاعر بول فرلين بإبن الشمس (4) وأنَّ القاصة الموهوبة السيدة نبال هي كذلك إبنة شمس فإسمها واسمُ أبيها نبال شمس .
ثانياً / محاولات إعتكاف ص 176
هذه هي القصة السردية الثانية التي اخترتها موضوعاً ومسرحاً لسياحاتي مع مجموعة " على جفن البنفسج " للقاصّة الرائعة السيد نبال شمس ، إبنة الشمس الفلسطينية في إهابها الوطني المحدود ، وإبنة الشمس الأخرى في إهابها العالمي الأممي غير المحدود . جمعت فيها شمسين لا تنفصلان ولا تغيبان ... خلافاً لشمسي أبي الطيّب المتنبي الذي قال :
فليتَ طالعةَ الشمسين غائبةٌ
وليتَ غائبةَ الشمسين لم تغبِ
ما الذي جذبني في هذه القصيدة وما الذي استهواني ، تُرى ؟ سؤالٌ لا ريبَ وجيهٌ كل الوجاهة وها إني أُجيبُ .
كتبتُ في بدايات مقالتي هذه أنّ القاصّة نبال سيدةٌ درزية الأصل والفصل . وقلت ، وكما هو معروفٌ ، أنّ في العقيدة الدرزية ما يجمعها مع بعض فلسفات علماء التصوف وخاصة مبدأ الحلول والتجسّد وفصل الروح عن الجسد ثم طغيان ظاهرة وعالم النور بنوعيه الخارجي المألوف والنور الداخلي الذي تتميز به الصوفية ثم الديانة المندائية الصابئية . نعمْ ، وجدتها شديدة التأثر بهذه المباديء العقائدية الضاربة الجذور في أعماق بعض الديانات القديمة المعروفة ومنها ثنائية مانو ونور وظلمة المجوس . كلام نبال في كتابها الجديد " على جفن البنفسج " عن ثنائية الروح والجسد ليس بالقليل [ وقد تكلم فيها حتى صاحبها رامبو ، منافسها الأكبر على شمسنا وشمسها ] وتكلم فيها أفلاطون الإغريقي (5) . يظلُّ الجديد عليَّ هو عمق تأثر نبال بشخصية وفلسفة الزعيم اللبناني الدرزي الراحل ورجل الدولة اللامع كمال جنبلاط . أشارت له ولفكره واستعارت جُملاً بليغةً من مأثور أقواله فيما ترك من كتب . قدّمت نبالُ لقصة " محاولات إعتكاف " بما يلي {{ إعتماداً على كلماته النورانية في محاولة لبلوغ وطن الذات هو ـ الفيلسوف الراحل كمال جنبلاط ـ أمدّني بكلماتي }} . أجلْ ، أخذت نبال مقاطعَ أو جُملاُ مما قال هذا الرجل المتميّز في حياته الخالد بعد فجيعة رحيله سأتوقف على مركز وبؤرة إهتمامي وأعني مسألة النور الداخلي الذي تؤمنُ نبالُ عميقاً به وسأحاول كشف دلالات هذا النور الداخلي للكاتبة وهل هناك بالفعل نور داخلي ؟ ما سرّه وما مصادره وهل يتبادل المواقع مع النور الخارجي أم أنه مجرد إنعكاس لهذا النور ؟ هل يحتفظ دوماً بخصائص النور الخارجي وطبيعته وأطوال موجات ألوانه المعروفة بالطيف الشمسي أم لا من مجالٍ للفيزياء والعلم إنْ حضرت الفلسفة وطغت ؟ بعض ما قالت نبال عن زعيمها الروحي كمال جنبلاط :
// {{ حين أقرأه ـ كتبتها نبالُ أقرؤه وهذا خطأ تكرر في الكتاب كما ذكرتُ قبلاً ـ أمحو ظلماتي وأعرفُ قيمةَ مَن لا أعرفهم }} . إذاً فكمالُ نورٌ تختفي الظلماتُ معه وبحضوره ... وفكر نوراني يكشف أقيام المجهولين والمجهولات في دنياها. إنه كشّافُ المخفيات .
// {{ لولا الوعيُ لما كانت الحرية ، وعلى قدر ما يتكاملُ فينا الوعيُ نشعر بالحرية . لا الحريّة الخارجية القلقة التي تتنقّلُ من مطلبٍ إلى مطلبٍ ، بل الحريّة الداخلية الحقيقية فينا ، الحرية الجوهرية إذا شئنا التعبير الموافق }} . كمال الفيلسوفُ يميّزُ بين نوعين من الحريّات ، واحدة خارجية قلقة أي غير ثابتة وأخرى داخلية جوهرية ثابتة . أما أنا فأرى أنَّ الحرية الخارجية إنْ هي إلا التعبير المتنوع المتبدّل غير الثابت عن مستلزمات الحرية الداخلية التي هي حقاً جوهرية بمعناها القديم الأساس منذ عصور البشرية الأولى وعلى رأسها الدفاع عن النفس في مواجهة مخاطر الطبيعة والحيوانات المفترسة من أجل صيانة ومواصلة قانون البقاء الطبيعي . كان الإنسان المتوحش حراً في إختيار شكل وأسلوب مواجهة مخاطر الوحوش الكاسرة فيقاتلها مرةً أو يختفي عنها في المغاور والكهوف أو يهرب منها أو يتسلق أشجار الغابات حسب الظرف ونوع وقدرات الحيوان المفترس . إنه بذلك يمارس حريته وحقه في البقاء حياً حلقةً في سلسلة البقاء والتطور . حق الدفاع عن النفس لأجل إدامة ومواصلة الحياة غريزة أصيلة مغروزة في جينات البشر وسائر الكائنات الحية من أدناها ألى أعلاها . فللحرية الخارجية علاقات متشعبة وثيقة بالحرية الداخلية وهي المعبِّر عنها . نفهم الحرية اليوم بحرية المعتقد وحرية التعبير عنه والترويج له بوسائل الإعلام المتاحة وحرية الإنتظام في أحزاب وجمعيات ونوادٍ وحرية التنقل الحر والسفر وحرية تملّك ما نشاء من عقار وأراضٍ وأموال وغير ذلك وكلها أمور معروفة اليوم ومتداولة . هل مِن علاقة أكثر من حميمة بين هذه النوعيات من الحرية الخارجية مع الحرية الداخلية الجوهرية في صلب الإنسان ؟ أليست تلك وسائل وأساليب شتى لإدامة الحياة المُثلى قدر الإمكان ؟ أليسَ التشبّثُ والنزوع لإدامة الحياة الجيدة أو المُثلى هو أولاً وآخراً دفاعٌ عن النفس والإخلاص لما في الإنسان من غرائز مدفونة عميقاً في صلب جيناته ؟ لا إنفصالَ بين الحرية الخارجية والداخلية إلا بالمفهوم الفلسفي الصوفيِّ الزاهد في الحياة وما فيها والنازع للخلاص من الجسد والمادة بالذوبان والحلول في الذات الألهية العليا التي لم يَرَها ولم يختبرها أحدٌ لا قبلُ ولا بعدُ !
// {{ حين قرأته رأيتُ المسيحَ المصلوب وغاندي المرمي بالرصاص }}.
هذه كلمة حق بليغة جميلة قالتها نبال المخلصة الوفية لعقيدتها ولمبادئها الإنسانية الشاملة ... قالتها بعفويةِ ونقاءِ الملائكة بحق رجلٍ يستحق كل ثناء وتقدير . الثلاثةُ قضوا مظلومين وقضوا قرابين لما آمنوا به من عقائد دنيوية إنسانية قبل أن تكونَ دينية أو أنها مزيجُ الإثنين : دينية الجذور دنيوية الأهداف والمقاصد . فعيسى إبنُ مريمَ مسيحيٌّ وغاندي هندوسيٌّ وجنبلاط مسلمٌ درزيٌّ .
// {{ مَنْ لم يكنْ في داخله نورٌ يُنيرهُ فيضيءُ معالمَ الطريق فهو أعمى وأبكم ، فكيف يستطيعُ قيادةَ الناس مَن فيهِ جهلٌ أو بلادةٌ في نفسه ؟ وإلاّ يكونُ واحداً وفقَ التشبيه الشهير كالأعمى يقودُ عميانَ }} .
تكلم الراحل كمال جنبلاط هنا عن نور داخلي يُنيرُ صاحبه ويُضيءُ معالم طريقه قائداً سياسياً أو روحياً للناس ... أما تلميذته نبال شمس فلها نورها الداخلي الخاص البعيد عن السياسة وقيادة الجماهير ... نور يؤدي مهماتٍ وأغراضاً شتّى شخصية في أغلبها . أسهبت نبالُ في " أطواق 4 / الصفحات 152 ـ 267 " بالكلام عن النور فمن جملة ما قالت عنه وقد أبدعت فيما قالت وأجادت التعبير عنه دلالةً وشرحاً أنتقي النماذج الآتية :
// [ هل أبقى أصارعُ عَتمةَ غرفتي دون نورٍ داخلي يُضيءُ ولو حرفاً واحداً من كتاباتي ] ؟ . نبال بحاجة في هذه المقام لنور يُضيءُ مدوّناتها وكتاباتها الأدبية فهي في نظرها بحاجة لنورٍ يبدد عتمات ما يتراءى لها من صعوبات أثناء تصديها لكتابة قصة أو خاطرة ما . الكتابة جهدٌ صعبٌ شاقٌّ يضيق معه تنفس الكاتبة ويضيق جرّاءهُ بؤبؤا عينيها فتشعر بمسيس الحاجة لإشعاعات النور . فالقاتلُ كلوديوس في مسرحية هاملت ترك المسرح صارخاً : ضوء ضوء ! ولم يقلْ : هواء هواء مثلاً . حصل ذلك حين قامت فرقة مسرحية إستأجرها هاملت بتمثيل قصة مقتل أبيه أمام عيني القاتل .
// [ هل أحدّثك عن النور يا دانا ومدى رغبتي وحنيني للنور ؟ ليس نورُ العالم ولا نورُ الشمسِ ، بل نورُ نفسي رغمَ أني أبحث عن نفسٍ أخرى إلاّ أني أشعرُ أنّ ثمّةَ قطعةَ نور

ليست هناك تعليقات: