نعمان إسماعيل عبد القادر
قصة قصيرة:
على الرغمِ من حياتهِ المنوطةِ بواقعٍ، فيهِ كُتب عليهِ أن يظلَّ على حالٍ غير مستقرةٍ وليسَ عنها هو راضٍ.. وعلى الرغمِ من كراهيتهِ للبساطةِ والوسطيةِ وحبهِ الشديد للارتقاء.. وعلى الرغم من الثوابت التي وضعها وزوجته في بداية ارتباطهما.. وعلى الرغم من مواقفه المناهضة للرجعية، حين رأى أن كثرة الإنجاب مظهر من مظاهر الرجعية..
أربعةُ أطفالٍ جاءوه وأعباءَ الحياةِ.. أفواهٌ ثلاثة وشظفَ العيش.. قسوةُ الحياة وظروف تواكب العولمة، والخامسُ يصرخ في غرفة الولادة في ساعة متأخرة من الليل. أتى إلى دنياه التي سئمها دون أي تخطيط ومن غير سابق إصرار. وازدادت الأسرة نفرًا جديداً يحتاج إلى نفقاتٍ من تحتها نفقاتٌ. تردَّدَ حينَها وتغشّاهُ الارتباكُ طويلاً حتى جاءتْهُ الفتوى المؤلمةُ من شيخ الشيوخِ تحرّمُ الإجهاضَ بشتى الحالاتِ مهما كان الحال. أَيجعلُ صرختَهُ المدوِّيةَ الآن في وجه ذلك الشيخ المتشدِّد فيجعل منه أضحوكة على مرأى ومسمع من الناس أمْ في وجه هذا المولود الذي مضى على خلقه نصفُ ساعةٍ ويحاسبُه على القدوم إلى الدنيا في وقت لا يناسبه؟ ماذا الذي ينتظرُه؟ الغلاءُ؟ التمييزُ العنصري؟ والضرائب والعمل الشاق؟ شيءٌ في داخله يصرخ: لا! الطفل لا ذنب له. والواقع لا بد من قبوله!
حمل الطفل الملفوف بقطعة قماشٍ بيضاء فأذَّنَ في أذنهِ اليُمنى وأقامَ الصلاةَ في اليُسرى وخرجَ ليبشرَ المنتظرينَ في غرفةِ الانتظارِ. هتفتْ حماتُهُ الْمُبَجَّلَةُ مبتهجةً:
- صبيّ! ألف مبروك. ليعمَّ الخيرُ وتأتي البركة وينمو في كنفِ والديه وليكن ذرية صالحة.
وَهَتَفَتْ أُمُّهُ أَيْضًا:
- ألف مبروك يا ابني. ألف مبروك. أمد الله في عمرك حتى تأتينا بالصبيان والذكور.
هه! ما شاء الله عليهنَّ! الحالُ يرثى لها ويفرحن على شقائي وكدّي. ما أغبى هؤلاء النسوة! ألا يعلمن أنني الآن محتاج للبحث عن عمل آخر لسد حاجات الأسرة والبيت؟ يعزينني على سوء حالي! عجبًا! وما العيب لو كان المولود بنتًا؟ ألا يحق للبنت العيش بكرامة مثل أخيها؟
سؤالُ حماتِهِ المتربعةِ على المقعد الخلفيِّ في سيارتهِِ، أيقظه من سهوٍ كاد ينسيه الالتفافَ يمينًا نحو الطريقِ المظلمِ المؤدّي إلى بلدتِهِ:
- ماذا ستسمّي المولودَ الجديدَ يا "جوادُ"؟
- سأسمّيهِ "صلاح". ما رأيك يا حماتي؟
- اسمٌ قديمٌ وغير مريح وغير شائع في بلدتنا، ولكن الأمر يعود لك.
- أنسيتِ صلاح الدين القائد العربيِّ الشهير. وعسى أن يكونَ صالحًا في الدنيا والآخرة.
في مستشفى الولادة هذا، محددة لسويعات، هي الزيارة، منها ما بعد الظهر ومنها ما بعد السابعة مساء، وفي غير هذه الأوقات، لا تُسمح. والتقيد بالمواعيد هو جزءٌ من ثقافةٍ اكتسبها في طفولةٍ كانتْ أشبهَ بالبائسةِ. والصيامُ عن الخبزِ واجبٌ دينيٌّ يُطبَّقُ في جميعِ المستشفياتِ؛ ولهذا لا يُؤْذَنُ لأحدٍ بإِدخالِ الخبزِ ومُشتقّاتِهِ إلى المستشفى طوال أيام عيد الفصح مهما كانت عقيدتُهُ. لم يحدثْ أنْ كسَرَ الأنظمةَ وخالفَ المواعيدَ وتنكَّر لِما تعارفَ عليه الناسُ. ولم يحدثْ أنْ أنكرَ خِلاً أو معروفًا لأنَّ الأنفةَ والكبرياءَ والتّعالي كلّها ليس لها وُجودٌ في قاموسِهِ. وكانتْ نسوةٌ منَ الحارةِ قد عملنَ على الوصولِ إلى المستشفى منذ سماعهن الخبرَ؛ للزيارة والاطمئنان وتقديم التهاني بالمولود الجديد. وكان إذا التقى بهنَّ، شكر لهن سعيهن وحُسن صنيعهنَّ.
يومان، لا الطّعامَ في المستشفياتِ ولا جوَّها، لم تطقْ أمُّ أحمد.. رغم كامل العناية. وأية عناية أفضل من رعاية المواليد وأمهاتهم.. والمعاملة هنا من شأنها أن تجعل الناس يحيّون أصحابها ومن يشرف عليهم، عدا عن عجزهم على إنكارها. هنا لا يُسألُ الإنسانُ عن قوميتِهِ ولا لأي دين يُدين. وزميلتها في الغرفة "شاني" لا دينٌ ولا ديّان لكنها تقول إنها تقبله على مضض. تصريحها هذا لا يعكس جرأتها على التحامل على دينها بقدر ما يعكسه نفاقها لامرأة عربية تجاورت معها في السرير وراحت زيارات القريبات والصديقات التي لا تنقطع تزعجها. لم يكن ليل الممرضات سهلاً حين أطلقت "شاني" صرختها حين أُحضر لها رضيعُها لترضعه.. هُرعتِ الطواقمُ وشرعتْ تتقصّى سبب انفعالها بهذه الشدة.. الطفل ليس طفلها! لقد تم استبدال طفلها بطفل عربيٍّ. وطفلها تستطيع أن تميّزه من بين آلاف الأطفال لو أُحضروا للتمييز. أصواتٌ أخذت تتعالى.. إذا كانت الفاعلة قد دبّرت الأمر عن قصدٍ أو عن غير قصد فلا بد من أن تحاكم وأن تطرد على الفور..
تحقيق واستنتاجات في الحال. إحدى ممرضات النوبة الثانية وتدعى "حدفا"، قامت بتغسيل آخر هذين طفلين وهي آخر من حملهما ودبّر شؤونهما ولكنها معروفة دائمًا بشدة حرصها على وضع كل طفلٍ في مهده، والعجلة من الشيطان لا يمكن اتهامها في شيء. ولا بد من إجراءات أخرى حتى لا يخرج الخبر من الباب أو النافذة فيُعمم على ألسنة الناس أو يصل إلى مسامع الصحافة ومن يعمل فيها. لا مفر من إجراء اختبار مستعجل لتحليل البصمة الوراثية- دي إن إيه .. عيناتٌ من الدم، من الواجب أخذها من الطفلين ووالديهما حالاً.. هذا أمرٌ من مدير المستشفى ومُحالٌ أن لا يتحقق.
نتائج الاختبار ترقبّها الناس بفارغ الصبر. وعلى الرغم من اطمئنان "شاني" وتيقُّنِها الآن أن طفلها ما زال هو هو، وعلى الرغم من زوال وسوسات الشيطان عنها، فقد تفتَّحتْ أبوابٌ أخرى لم تخطر على بالِ أحدٍ من المترقِّبين.. الطفلُ "صلاحٌ" عربيٌّ، ولكنَّ والده مجهول الهوية وغائبٌ. من يكون أبوه يا ترى؟ أُصيبَ الرجل بما يُصابُ الناسُ به في مثل هذه المواقف. صدمة وانهيار فإغماء. وأُعلن بعد ساعةٍ عن وفاته إثر نوبة قلبية حادة....
على الرغمِ من حياتهِ المنوطةِ بواقعٍ، فيهِ كُتب عليهِ أن يظلَّ على حالٍ غير مستقرةٍ وليسَ عنها هو راضٍ.. وعلى الرغمِ من كراهيتهِ للبساطةِ والوسطيةِ وحبهِ الشديد للارتقاء.. وعلى الرغم من الثوابت التي وضعها وزوجته في بداية ارتباطهما.. وعلى الرغم من مواقفه المناهضة للرجعية، حين رأى أن كثرة الإنجاب مظهر من مظاهر الرجعية..
أربعةُ أطفالٍ جاءوه وأعباءَ الحياةِ.. أفواهٌ ثلاثة وشظفَ العيش.. قسوةُ الحياة وظروف تواكب العولمة، والخامسُ يصرخ في غرفة الولادة في ساعة متأخرة من الليل. أتى إلى دنياه التي سئمها دون أي تخطيط ومن غير سابق إصرار. وازدادت الأسرة نفرًا جديداً يحتاج إلى نفقاتٍ من تحتها نفقاتٌ. تردَّدَ حينَها وتغشّاهُ الارتباكُ طويلاً حتى جاءتْهُ الفتوى المؤلمةُ من شيخ الشيوخِ تحرّمُ الإجهاضَ بشتى الحالاتِ مهما كان الحال. أَيجعلُ صرختَهُ المدوِّيةَ الآن في وجه ذلك الشيخ المتشدِّد فيجعل منه أضحوكة على مرأى ومسمع من الناس أمْ في وجه هذا المولود الذي مضى على خلقه نصفُ ساعةٍ ويحاسبُه على القدوم إلى الدنيا في وقت لا يناسبه؟ ماذا الذي ينتظرُه؟ الغلاءُ؟ التمييزُ العنصري؟ والضرائب والعمل الشاق؟ شيءٌ في داخله يصرخ: لا! الطفل لا ذنب له. والواقع لا بد من قبوله!
حمل الطفل الملفوف بقطعة قماشٍ بيضاء فأذَّنَ في أذنهِ اليُمنى وأقامَ الصلاةَ في اليُسرى وخرجَ ليبشرَ المنتظرينَ في غرفةِ الانتظارِ. هتفتْ حماتُهُ الْمُبَجَّلَةُ مبتهجةً:
- صبيّ! ألف مبروك. ليعمَّ الخيرُ وتأتي البركة وينمو في كنفِ والديه وليكن ذرية صالحة.
وَهَتَفَتْ أُمُّهُ أَيْضًا:
- ألف مبروك يا ابني. ألف مبروك. أمد الله في عمرك حتى تأتينا بالصبيان والذكور.
هه! ما شاء الله عليهنَّ! الحالُ يرثى لها ويفرحن على شقائي وكدّي. ما أغبى هؤلاء النسوة! ألا يعلمن أنني الآن محتاج للبحث عن عمل آخر لسد حاجات الأسرة والبيت؟ يعزينني على سوء حالي! عجبًا! وما العيب لو كان المولود بنتًا؟ ألا يحق للبنت العيش بكرامة مثل أخيها؟
سؤالُ حماتِهِ المتربعةِ على المقعد الخلفيِّ في سيارتهِِ، أيقظه من سهوٍ كاد ينسيه الالتفافَ يمينًا نحو الطريقِ المظلمِ المؤدّي إلى بلدتِهِ:
- ماذا ستسمّي المولودَ الجديدَ يا "جوادُ"؟
- سأسمّيهِ "صلاح". ما رأيك يا حماتي؟
- اسمٌ قديمٌ وغير مريح وغير شائع في بلدتنا، ولكن الأمر يعود لك.
- أنسيتِ صلاح الدين القائد العربيِّ الشهير. وعسى أن يكونَ صالحًا في الدنيا والآخرة.
في مستشفى الولادة هذا، محددة لسويعات، هي الزيارة، منها ما بعد الظهر ومنها ما بعد السابعة مساء، وفي غير هذه الأوقات، لا تُسمح. والتقيد بالمواعيد هو جزءٌ من ثقافةٍ اكتسبها في طفولةٍ كانتْ أشبهَ بالبائسةِ. والصيامُ عن الخبزِ واجبٌ دينيٌّ يُطبَّقُ في جميعِ المستشفياتِ؛ ولهذا لا يُؤْذَنُ لأحدٍ بإِدخالِ الخبزِ ومُشتقّاتِهِ إلى المستشفى طوال أيام عيد الفصح مهما كانت عقيدتُهُ. لم يحدثْ أنْ كسَرَ الأنظمةَ وخالفَ المواعيدَ وتنكَّر لِما تعارفَ عليه الناسُ. ولم يحدثْ أنْ أنكرَ خِلاً أو معروفًا لأنَّ الأنفةَ والكبرياءَ والتّعالي كلّها ليس لها وُجودٌ في قاموسِهِ. وكانتْ نسوةٌ منَ الحارةِ قد عملنَ على الوصولِ إلى المستشفى منذ سماعهن الخبرَ؛ للزيارة والاطمئنان وتقديم التهاني بالمولود الجديد. وكان إذا التقى بهنَّ، شكر لهن سعيهن وحُسن صنيعهنَّ.
يومان، لا الطّعامَ في المستشفياتِ ولا جوَّها، لم تطقْ أمُّ أحمد.. رغم كامل العناية. وأية عناية أفضل من رعاية المواليد وأمهاتهم.. والمعاملة هنا من شأنها أن تجعل الناس يحيّون أصحابها ومن يشرف عليهم، عدا عن عجزهم على إنكارها. هنا لا يُسألُ الإنسانُ عن قوميتِهِ ولا لأي دين يُدين. وزميلتها في الغرفة "شاني" لا دينٌ ولا ديّان لكنها تقول إنها تقبله على مضض. تصريحها هذا لا يعكس جرأتها على التحامل على دينها بقدر ما يعكسه نفاقها لامرأة عربية تجاورت معها في السرير وراحت زيارات القريبات والصديقات التي لا تنقطع تزعجها. لم يكن ليل الممرضات سهلاً حين أطلقت "شاني" صرختها حين أُحضر لها رضيعُها لترضعه.. هُرعتِ الطواقمُ وشرعتْ تتقصّى سبب انفعالها بهذه الشدة.. الطفل ليس طفلها! لقد تم استبدال طفلها بطفل عربيٍّ. وطفلها تستطيع أن تميّزه من بين آلاف الأطفال لو أُحضروا للتمييز. أصواتٌ أخذت تتعالى.. إذا كانت الفاعلة قد دبّرت الأمر عن قصدٍ أو عن غير قصد فلا بد من أن تحاكم وأن تطرد على الفور..
تحقيق واستنتاجات في الحال. إحدى ممرضات النوبة الثانية وتدعى "حدفا"، قامت بتغسيل آخر هذين طفلين وهي آخر من حملهما ودبّر شؤونهما ولكنها معروفة دائمًا بشدة حرصها على وضع كل طفلٍ في مهده، والعجلة من الشيطان لا يمكن اتهامها في شيء. ولا بد من إجراءات أخرى حتى لا يخرج الخبر من الباب أو النافذة فيُعمم على ألسنة الناس أو يصل إلى مسامع الصحافة ومن يعمل فيها. لا مفر من إجراء اختبار مستعجل لتحليل البصمة الوراثية- دي إن إيه .. عيناتٌ من الدم، من الواجب أخذها من الطفلين ووالديهما حالاً.. هذا أمرٌ من مدير المستشفى ومُحالٌ أن لا يتحقق.
نتائج الاختبار ترقبّها الناس بفارغ الصبر. وعلى الرغم من اطمئنان "شاني" وتيقُّنِها الآن أن طفلها ما زال هو هو، وعلى الرغم من زوال وسوسات الشيطان عنها، فقد تفتَّحتْ أبوابٌ أخرى لم تخطر على بالِ أحدٍ من المترقِّبين.. الطفلُ "صلاحٌ" عربيٌّ، ولكنَّ والده مجهول الهوية وغائبٌ. من يكون أبوه يا ترى؟ أُصيبَ الرجل بما يُصابُ الناسُ به في مثل هذه المواقف. صدمة وانهيار فإغماء. وأُعلن بعد ساعةٍ عن وفاته إثر نوبة قلبية حادة....