د. عدنان الظاهر
مَن هيَّ ، تُرى ، سيدةُ الألقِ ؟
إسالْ المتنبي عنها . ما علاقتها وهي مغربيةٌ بالمتنبي الكوفي العراقي ؟ إنها ببساطة علاقة شاعرةٍ بشاعر والشعراءُ إخوانٌ . قال مُحتجّاً بعنف وعَصَبية خلدونية قَبَليةٍ : ولكنّهم إخوانُ الشياطين ! وما الذي يُغيضكَ إنْ كان للشياطين إخوانٌ مثلَ باقي البشر ؟ يا أخي ! صرخَ مُحنَقَاً ، يا أخي ، لكنَّ الشياطينَ ليسوا من صنف البشر . خلقهم ربّهم وسوّاهم من نارٍ مثل إبن عمّهم إبليس العاصي المتكبّر الذي تعرفُ . أحسنتَ أخي أحسنتَ ولكنْ ، ألا تعرف ما قال قبلنا الأجدادُ ؟ وما قال قبلنا الأجدادُ ؟ أنا وابنُ عمّي على عدوي . فإذا عصى إبنُ العم إبليس فما يمنعُ أبناءَ عمومته الشياطينُ من إعلانِ رايةِ التحدّي والعصيان ؟ ليس هناك ما يمنعهم ولكنْ مَن هو عدوُّ هذه الجوقة اللعينة الملعونة في دنياها وآخرتها ( أنا وابنُ عمّي على عدوي ) ؟ هل تريدُ الصِدقَ والحقيقةَ ؟ قال دون ريب . طيّب ، فلأصارحك القول إني أعرفُ الجوابَ لكني ـ لأسباب كثيرة لا مجالَ لذكرها ـ أُفضِّلُ أنْ تسمعَ الجواب منها ، الشاعرة صاحبة المتنبي وسيدة الألق . بَهُت صاحبي واتسعت حدقتا عينيه لفرط المفاجأة . قال ، بعد أنْ استردَّ أنفاسَه ، وما علاقة الشياطين وعصيانهم وقرابات دم أبناء العمومة بسيدة الألق ؟ ألمْ أقلْ لك إنَّ الشعراءَ والشواعرَ بالطبع إخوانُ الشياطينِ ؟ قال لا أفهمُ هذه الفلسفة أو السفسطة أو العنطزة . زُرْها ، سيدةَ الألق ، زُرْها وتعرّفْ عليها ثم اسألها عما عذّبك وأقضَّ مضاجعك وسوّدَ نهاراتك . تلعثمَ كعادته حين يواجهُ مواقفَ صعبةٍ أو جديدة لا علمَ له بها . شرِبَ كأسَ ماءٍ بارد ودخّنَ سيجارةً أجنبية خاليةٍ من النيكوتين فصحّتُهُ غاليةٌ عليه . بعد فترة تفكير وتمحيصٍ وتقليبٍ لوجوه المسألة قال غير واثقٍ من قوله : كيف أزورُ سيدةَ الألق وما سبقَ وأنْ تعارفنا وتجهلُ قدري بين الناس ومَن أنا ؟ بل تعرفُ السيدةُ عنك كلَّ شئ ، الصغائر والكبائر . إتسعت عيناه أكثر دهشةً : ماذا تقولُ يا رجل ؟ كيف تسنّى لها معرفة صغائرَ وكبيراتِ أموري ولم أرَها قبلاً ولم أتشرفْ بمعرفتها ؟ أنت لا تعرفها لكنها تعرفك حقَّ المعرفة . إبعثْ لها رسالةً بالبريد الألكتروني واطلب منها تحديد موعدٍ للقياها في الزمان والمكان اللذين ترتأيهما هي حسب ظروفها فإنها ليست ربّة بيت . قال بسذاجةٍ قريبةٍ جداً من البلاهة وهل سبق لك أنْ رأيتها أو إلتقيتها كيف ومتى تمَّ ذلك ؟ رأيتُ صورتها تُلقي شعراً وسمعت ترانيم صوتها ثم زرتها برفقة المتنبي . لم يصدّقْ صاحبي ما سمع مني . رأيتَ صورتها وسمعتها تُلقي شعراً ثم زرتها والمتنبي ! قالها صراحةً : لا أصدّقُ ما تقولُ يا صديق ! فتحتُ أجهزتي فإذا بها هي لحماً وعظماً وطولاً ولساناً تقرأ إحدى قصائدها :
سـيــدةُ الألـــــق
يا سيدة الألق المنشور على وجه الشمس
كيف امتلأت عيناك بحزمات الضوء
و هديرك غابات حبلى...
هل صحو أنت على قمم الفجر؟
أم محو يرفل في قمر الليل؟
قالوا :
منك الأصداء تحيك حشود الليلك و الورد...
منك الأضلاع توقع أغنية النبض...
قالوا :
شجر
نسغ
تمثال ينضح بالعاج
يترنح في زمن القطف...
ها أنت تؤرقك الأصداء
تضيع خيوطك في زمن الوهم
تتقاذفك الأمطار
و تستعصي أحلامك عن إغداق الفهم...
إن كنت تريدين الإبحارعلى متن النور
فدعي تمثالك
يزهر في روضات الروح كأشجار الخلد...
روح العاج
عاج الروح
لن يصهر في نار الأشياء و لن يذوي...
غاب صاحبي عن وعيه فرششتُ على وجهه شيئاً من الماء البارد وأعددتُ له فنجانَ قهوة تركية ثقيلةٍ سوداء . أوقفتُ التسجيل حتى يستعيدَ وعيه وكاملَ قواه.
ما أنْ أفاقَ من غيبوبته صاحبي حتى طلبَ سماع القصيدةَ هذه ثانيةً ولكن ... بصوتي ! ضحكتُ ... ضحكتُ طويلاً ... ضحكتُ بكامل جسدي وحين مرّت موجةُ الضحك وهدأتْ قلتُ له وكيف جرؤتَ على قول مثلِ هذا الكلام ؟ قال وما فيه ؟ أحببتُ سماع القصيدةِ بصوتك لأنني أحسبُ أو أظنُ أنها لو قرأها رجلٌ فلربما ، ربما ، كان وقعها على السامع أفضلَ وتأثيرها أقوى ، ربّما . وما الذي أوحى لك بهذه الأفكار وأنتَ لستَ متأكداً منها إذْ وضعتها في باب الإحتمال من قبيل " أحسبُ " و " أظنُّ " و " ربّما " ؟ قال إنَّ مَن يستمع للشعر ومَن يُخالط الشعراء لا بدَّ من تحوّله إلى شيطان مثلهم . والشيطانُ يوحي للشيطان . تقصدُ يا ضيفي أنَّ الشيطانَ أوحى لك بهذه الفكرة الشيطانية ؟ قال بالضبط ، الشيطانُ أوحى لي ما أوحى وأنا شقيقُ روحه أتفهّمُ مواقفه وما يوحي فأمتثلُ ولا أعترضُ ولا أتساءلُ . طيّب يا صديق ، هل يحزنكَ أني أعتذرُ عن تلبية طلبك وأنْ أُحيلك لصاحبها المتنبي ليقرأَ لك ما تحبُّ من أشعارها ؟ ضحك هو هذه المرة فاهتزّت أعضاؤه واختضّت أركانه وحين هدأت سورةُ ضحكه قال بنبرةِ عتابٍ رقيقة جداً : يا رجل ، إذا كنتَ أنتَ قد اعتذرتَ عن تلبية طلبي فكيف يقبله رجلٌ جليلٌ كالمتنبي ؟ لا من مشكلةٍ في هذا الأمر يا هذا ، أجبتُ . قال كيف ؟ المتنبي شاعرٌ مثلها ويعشق مثلها قراءة شعره على الخاصّة والعامة ففاتحه في الأمر وانتظر الجواب . جرّبْ وسوف لن تخسرَ شيئاً . قال قد عقّدتَ عليَّ أمري وأدخلتني في متاهاتٍ لا يُطيقُها رجلٌ مثلي . أضاف : سأختصرُ الطُرقَ كافّةً وسأطلبُ زيارتها وسألتمسها أنْ تقرأ هي بنفسها بعضَ أشعارِها ولا سيما قصيدة " سيدة الألق " ، بصوتها الطبيعي أي بدون مايكروفون أو أية وسيلة أخرى للتكبير . لا أحِبُّ التضخيمَ ومبالغاتِ التكنولوجيا الحديثة . أحبُّ سماعَ الصوتِ طبيعياً كما ولدته أمه . أنت رجلٌ متخلِّفٌ يا هذا ، علّقتُ . قال سمّني ما شئتَ وألصقْ بي ما يعجبكَ من صفات ونواقصَ وهِنات . إفعلْ ما شئتَ فإني لا أتنازلُ عن قناعاتي ، لا أُشككُ بها ولا أخونُها . أنسيتَ أني شيطانٌ رجيمٌ مرجومٌ أُرجئَ البتُّ في أمري حتى يوم الدين ؟ طيّب يا ضيف ، هل تودُ أنْ ترسلَ رسالةً لها الآنَ تقترحُ فيها أنْ تلتقيها أينما وكيفما وحيثما شاءت ظروفها لكي تُنفِّذَ رغبتك الشيطانية فلعلها تتجاوبُ مع شياطينكَ وتستجيبَ لسؤلتك . قال يا ريت ! تفضّل ، هذه أجهزتي أمامك . قال لكني لا أعرفُ عنوانَ بريدها الألكتروني . هذا هو العنوان أمامك، هيّا ، توكّل . شرع صاحبي بكل خفّةٍ وهمّةٍ ينقرُ برشاقةِ عاشقٍ على حروف الكومبيوتر . ما أنْ أنهى رسالته حتى فوجئ بحضور الشاعرة سيدة الألق تحملُ مجموعةَ أوراق . شرَعتْ على الفورِ تقرأ أشعارَها واقفةً بصوتها إذْ لم تطلبْ أجهزةً لتكبير الصوت أو تحسينه . وقفنا ذاهلين ! ما هذا الذي يحدثُ أمامنا ؟ أحقيقةٌ أم خيالُ مرضى أو سُكارى أو أحلامُ شياطين ؟ توقفتْ عن القراءة لتقولَ : وهل نسيتما أني شاعرةٌ والشواعرُ أخواتُ بل شقيقاتُ الشياطين ؟ والشياطينُ كالهواء يملأون الكونَ ولا يعرفون حدوداً ولا سدوداً ولا يشعرون بالزمن فهم الأبديون الخالدون حتى لو كانوا ملعونين . ها أنا بينكما كما ودَّ هذا الضيفُ الثقيل المتردد . أتيتكما كيما أوفِّرَ عليه مشقاّتِ وتكاليفَ السفر فإنه ضعيف الحال كما يبدو لي وعظامُهُ ركيكةٌ ( أي فقير ) كما يقولُ العراقيون . غاب صاحبي عن وعيه وما أسرعَ ما يغيبُ ، بل وغاب كليّةً عن الوجود . لم تأبهْ سيدةُ الألق لما حدثَ من معجزةٍ أمام عينيها فواصلت قراءة أشعارها . شعرتْ ببعض الإعياءِ لا لكثرة ما قرأتْ ولكنْ لصدمةِ تأثير ما وقعَ أمامها من غيبةِ رجلٍ معجبٍ بها وبصوتها وبشِعرها . جلستْ لتستريحَ على أريكتي فلم تجدني ! غابت هي الأخرى فماذا تبقّى منّا ثلاثتنا ؟ أصداءُ صوتها وثلاثةُ شياطين غرباء لا يعرفُ بعضهُم بعضاً .
مَن هيَّ ، تُرى ، سيدةُ الألقِ ؟
إسالْ المتنبي عنها . ما علاقتها وهي مغربيةٌ بالمتنبي الكوفي العراقي ؟ إنها ببساطة علاقة شاعرةٍ بشاعر والشعراءُ إخوانٌ . قال مُحتجّاً بعنف وعَصَبية خلدونية قَبَليةٍ : ولكنّهم إخوانُ الشياطين ! وما الذي يُغيضكَ إنْ كان للشياطين إخوانٌ مثلَ باقي البشر ؟ يا أخي ! صرخَ مُحنَقَاً ، يا أخي ، لكنَّ الشياطينَ ليسوا من صنف البشر . خلقهم ربّهم وسوّاهم من نارٍ مثل إبن عمّهم إبليس العاصي المتكبّر الذي تعرفُ . أحسنتَ أخي أحسنتَ ولكنْ ، ألا تعرف ما قال قبلنا الأجدادُ ؟ وما قال قبلنا الأجدادُ ؟ أنا وابنُ عمّي على عدوي . فإذا عصى إبنُ العم إبليس فما يمنعُ أبناءَ عمومته الشياطينُ من إعلانِ رايةِ التحدّي والعصيان ؟ ليس هناك ما يمنعهم ولكنْ مَن هو عدوُّ هذه الجوقة اللعينة الملعونة في دنياها وآخرتها ( أنا وابنُ عمّي على عدوي ) ؟ هل تريدُ الصِدقَ والحقيقةَ ؟ قال دون ريب . طيّب ، فلأصارحك القول إني أعرفُ الجوابَ لكني ـ لأسباب كثيرة لا مجالَ لذكرها ـ أُفضِّلُ أنْ تسمعَ الجواب منها ، الشاعرة صاحبة المتنبي وسيدة الألق . بَهُت صاحبي واتسعت حدقتا عينيه لفرط المفاجأة . قال ، بعد أنْ استردَّ أنفاسَه ، وما علاقة الشياطين وعصيانهم وقرابات دم أبناء العمومة بسيدة الألق ؟ ألمْ أقلْ لك إنَّ الشعراءَ والشواعرَ بالطبع إخوانُ الشياطينِ ؟ قال لا أفهمُ هذه الفلسفة أو السفسطة أو العنطزة . زُرْها ، سيدةَ الألق ، زُرْها وتعرّفْ عليها ثم اسألها عما عذّبك وأقضَّ مضاجعك وسوّدَ نهاراتك . تلعثمَ كعادته حين يواجهُ مواقفَ صعبةٍ أو جديدة لا علمَ له بها . شرِبَ كأسَ ماءٍ بارد ودخّنَ سيجارةً أجنبية خاليةٍ من النيكوتين فصحّتُهُ غاليةٌ عليه . بعد فترة تفكير وتمحيصٍ وتقليبٍ لوجوه المسألة قال غير واثقٍ من قوله : كيف أزورُ سيدةَ الألق وما سبقَ وأنْ تعارفنا وتجهلُ قدري بين الناس ومَن أنا ؟ بل تعرفُ السيدةُ عنك كلَّ شئ ، الصغائر والكبائر . إتسعت عيناه أكثر دهشةً : ماذا تقولُ يا رجل ؟ كيف تسنّى لها معرفة صغائرَ وكبيراتِ أموري ولم أرَها قبلاً ولم أتشرفْ بمعرفتها ؟ أنت لا تعرفها لكنها تعرفك حقَّ المعرفة . إبعثْ لها رسالةً بالبريد الألكتروني واطلب منها تحديد موعدٍ للقياها في الزمان والمكان اللذين ترتأيهما هي حسب ظروفها فإنها ليست ربّة بيت . قال بسذاجةٍ قريبةٍ جداً من البلاهة وهل سبق لك أنْ رأيتها أو إلتقيتها كيف ومتى تمَّ ذلك ؟ رأيتُ صورتها تُلقي شعراً وسمعت ترانيم صوتها ثم زرتها برفقة المتنبي . لم يصدّقْ صاحبي ما سمع مني . رأيتَ صورتها وسمعتها تُلقي شعراً ثم زرتها والمتنبي ! قالها صراحةً : لا أصدّقُ ما تقولُ يا صديق ! فتحتُ أجهزتي فإذا بها هي لحماً وعظماً وطولاً ولساناً تقرأ إحدى قصائدها :
سـيــدةُ الألـــــق
يا سيدة الألق المنشور على وجه الشمس
كيف امتلأت عيناك بحزمات الضوء
و هديرك غابات حبلى...
هل صحو أنت على قمم الفجر؟
أم محو يرفل في قمر الليل؟
قالوا :
منك الأصداء تحيك حشود الليلك و الورد...
منك الأضلاع توقع أغنية النبض...
قالوا :
شجر
نسغ
تمثال ينضح بالعاج
يترنح في زمن القطف...
ها أنت تؤرقك الأصداء
تضيع خيوطك في زمن الوهم
تتقاذفك الأمطار
و تستعصي أحلامك عن إغداق الفهم...
إن كنت تريدين الإبحارعلى متن النور
فدعي تمثالك
يزهر في روضات الروح كأشجار الخلد...
روح العاج
عاج الروح
لن يصهر في نار الأشياء و لن يذوي...
غاب صاحبي عن وعيه فرششتُ على وجهه شيئاً من الماء البارد وأعددتُ له فنجانَ قهوة تركية ثقيلةٍ سوداء . أوقفتُ التسجيل حتى يستعيدَ وعيه وكاملَ قواه.
ما أنْ أفاقَ من غيبوبته صاحبي حتى طلبَ سماع القصيدةَ هذه ثانيةً ولكن ... بصوتي ! ضحكتُ ... ضحكتُ طويلاً ... ضحكتُ بكامل جسدي وحين مرّت موجةُ الضحك وهدأتْ قلتُ له وكيف جرؤتَ على قول مثلِ هذا الكلام ؟ قال وما فيه ؟ أحببتُ سماع القصيدةِ بصوتك لأنني أحسبُ أو أظنُ أنها لو قرأها رجلٌ فلربما ، ربما ، كان وقعها على السامع أفضلَ وتأثيرها أقوى ، ربّما . وما الذي أوحى لك بهذه الأفكار وأنتَ لستَ متأكداً منها إذْ وضعتها في باب الإحتمال من قبيل " أحسبُ " و " أظنُّ " و " ربّما " ؟ قال إنَّ مَن يستمع للشعر ومَن يُخالط الشعراء لا بدَّ من تحوّله إلى شيطان مثلهم . والشيطانُ يوحي للشيطان . تقصدُ يا ضيفي أنَّ الشيطانَ أوحى لك بهذه الفكرة الشيطانية ؟ قال بالضبط ، الشيطانُ أوحى لي ما أوحى وأنا شقيقُ روحه أتفهّمُ مواقفه وما يوحي فأمتثلُ ولا أعترضُ ولا أتساءلُ . طيّب يا صديق ، هل يحزنكَ أني أعتذرُ عن تلبية طلبك وأنْ أُحيلك لصاحبها المتنبي ليقرأَ لك ما تحبُّ من أشعارها ؟ ضحك هو هذه المرة فاهتزّت أعضاؤه واختضّت أركانه وحين هدأت سورةُ ضحكه قال بنبرةِ عتابٍ رقيقة جداً : يا رجل ، إذا كنتَ أنتَ قد اعتذرتَ عن تلبية طلبي فكيف يقبله رجلٌ جليلٌ كالمتنبي ؟ لا من مشكلةٍ في هذا الأمر يا هذا ، أجبتُ . قال كيف ؟ المتنبي شاعرٌ مثلها ويعشق مثلها قراءة شعره على الخاصّة والعامة ففاتحه في الأمر وانتظر الجواب . جرّبْ وسوف لن تخسرَ شيئاً . قال قد عقّدتَ عليَّ أمري وأدخلتني في متاهاتٍ لا يُطيقُها رجلٌ مثلي . أضاف : سأختصرُ الطُرقَ كافّةً وسأطلبُ زيارتها وسألتمسها أنْ تقرأ هي بنفسها بعضَ أشعارِها ولا سيما قصيدة " سيدة الألق " ، بصوتها الطبيعي أي بدون مايكروفون أو أية وسيلة أخرى للتكبير . لا أحِبُّ التضخيمَ ومبالغاتِ التكنولوجيا الحديثة . أحبُّ سماعَ الصوتِ طبيعياً كما ولدته أمه . أنت رجلٌ متخلِّفٌ يا هذا ، علّقتُ . قال سمّني ما شئتَ وألصقْ بي ما يعجبكَ من صفات ونواقصَ وهِنات . إفعلْ ما شئتَ فإني لا أتنازلُ عن قناعاتي ، لا أُشككُ بها ولا أخونُها . أنسيتَ أني شيطانٌ رجيمٌ مرجومٌ أُرجئَ البتُّ في أمري حتى يوم الدين ؟ طيّب يا ضيف ، هل تودُ أنْ ترسلَ رسالةً لها الآنَ تقترحُ فيها أنْ تلتقيها أينما وكيفما وحيثما شاءت ظروفها لكي تُنفِّذَ رغبتك الشيطانية فلعلها تتجاوبُ مع شياطينكَ وتستجيبَ لسؤلتك . قال يا ريت ! تفضّل ، هذه أجهزتي أمامك . قال لكني لا أعرفُ عنوانَ بريدها الألكتروني . هذا هو العنوان أمامك، هيّا ، توكّل . شرع صاحبي بكل خفّةٍ وهمّةٍ ينقرُ برشاقةِ عاشقٍ على حروف الكومبيوتر . ما أنْ أنهى رسالته حتى فوجئ بحضور الشاعرة سيدة الألق تحملُ مجموعةَ أوراق . شرَعتْ على الفورِ تقرأ أشعارَها واقفةً بصوتها إذْ لم تطلبْ أجهزةً لتكبير الصوت أو تحسينه . وقفنا ذاهلين ! ما هذا الذي يحدثُ أمامنا ؟ أحقيقةٌ أم خيالُ مرضى أو سُكارى أو أحلامُ شياطين ؟ توقفتْ عن القراءة لتقولَ : وهل نسيتما أني شاعرةٌ والشواعرُ أخواتُ بل شقيقاتُ الشياطين ؟ والشياطينُ كالهواء يملأون الكونَ ولا يعرفون حدوداً ولا سدوداً ولا يشعرون بالزمن فهم الأبديون الخالدون حتى لو كانوا ملعونين . ها أنا بينكما كما ودَّ هذا الضيفُ الثقيل المتردد . أتيتكما كيما أوفِّرَ عليه مشقاّتِ وتكاليفَ السفر فإنه ضعيف الحال كما يبدو لي وعظامُهُ ركيكةٌ ( أي فقير ) كما يقولُ العراقيون . غاب صاحبي عن وعيه وما أسرعَ ما يغيبُ ، بل وغاب كليّةً عن الوجود . لم تأبهْ سيدةُ الألق لما حدثَ من معجزةٍ أمام عينيها فواصلت قراءة أشعارها . شعرتْ ببعض الإعياءِ لا لكثرة ما قرأتْ ولكنْ لصدمةِ تأثير ما وقعَ أمامها من غيبةِ رجلٍ معجبٍ بها وبصوتها وبشِعرها . جلستْ لتستريحَ على أريكتي فلم تجدني ! غابت هي الأخرى فماذا تبقّى منّا ثلاثتنا ؟ أصداءُ صوتها وثلاثةُ شياطين غرباء لا يعرفُ بعضهُم بعضاً .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق