الجمعة، يوليو 03، 2009

ثلاث محاضرات في شعر محمود درويش ـ3

د. حبيب بولس

المرحلة الثالثة - مرحلة الكون والانسان ونبش الذات

في هذه المرحلة وخاصة في باريس تزداد تجربة محمود درويش الشعرية غنى وثراء، فهو في وحدته هناك يملأ الوقت بالقراءة والتبصر في الذات الانسانية وفي الكون فيجنح شعره الى تغور الذات والنبش في خفاياها وفي خفايا الكون وحين يدهمه المرض ويضطر الى الرضوخ لعملية جراحية معقدة في قلبه ثم الى عملية اخرى ويستشعر محمود خطورة المرحلة في حياته وعلى حياته تزداد قراءاته وتزداد تأملاته في الحياة وفي الكون وفي القضية وفي النفس البشرية، فيمتلئ شعره بالفلسفة ويمتح من الثقافتين العربية والغربية، وحين يتاح له القدوم الى الوطن ورؤية البلاد من جديد ومقابلة الاهل والاصدقاء القدامى، ينفتح الجرح ويدفق قصائد رائعة تصور لهفته وحنينه ولكنها لهفة الفلسطيني التي لا تخلو من المرارة.
هذه الوحدة وهذا الانكفاء على الذات ولّدا شعرا معمّقا لا يتسكع على السطح ولا يحايئ الوجود من خارج بل يتغوره ويسبر خفاياه، في هذه المرحلة يخفت ايقاع القصائد ويجنح نحو ايقاع داخلي، متآلف متجانس ليعبر من خلاله محمود بصور مركبة تتوالد لولبيا عن مراراته وعن احساسه الداخلي بعبثية الحياة كما يعبر من خلاله عن مواجهة الموت. والموت كموتيف يرافق قصائد محمود في هذه المرحلة بشكل بارز،وقد كبس عليه الحنين في هذه المرحلة:
يقول محمود:

"امي تعدّ اصابعي العشرين عن بعد
تمشطني بخصلة شعرها الذهبي، تبحث
في ثيابي الداخلية عن نساء اجنبيات،
وترفو جوربي المقطوع، لم أكبر على يدها
كما شئنا: انا وهي، افترقنا عند منحدر
الرخام.. ولوّحت سحب لنا ولماعز
يرث المكان، وانشأ المنفى لنا لغتين
دارجة.. ليفهمها الحمام ويحفظ الذكرى
وفصحى.. كي افسر للظلال ظلالها (لماذا تركت الحصان وحيدا)
وفي مواجهته للموت يصر محمود على الحياة ويصر على فلسطينيته وعلى امتلاك الاشياء المنتزعة من ذاكرته ووجوده من ماضيه وحاضره ويقول:

"هذا البحر لي/ هذا الهواء الرطب لي/ هذا الرصيف وما عليه/ من خطاي وسائلي المنوي.. لي/ ومحطة الباص القديمة لي/ ولي شبحي وصاحبه/ وآنية النحاس وآية الكرسي، والمفتاح لي/ والباب والحراس والاجراس لي/ لي حذوة الفرس/ التي طارت عن الاسوار../ لي ما كان لي/ وقصاصة الورق التي انتزعت من الانجيل لي/ والملح من أثر الدموع على جدار البيت لي" (الجدارية)
وحين يحدث الانقسام في صفوف شعبه يتعذب محمود ويشعر ان كل ما بنيناه قد صار آيلا للسقوط فيطلق زفراته المؤثثة بالمرارة والمحملة بالكثير من العتاب واللوم ويقول:

"سنصير شعبا إن اردنا، حين يؤذَن للمغني ان يرتل آية من "سورة الرحمن" في حفل الزواج المختلط. سنصير شعبا حين نحترم الصواب، وحين نحترم الغلط" (أثر الفراشة)

وحين يعود الى حيفا عشيقته الاولى قبل وفاته، حين يمكث في الجليل فترة طويلة نسبيا لأنه كان يستشعر على ما يبدو قرب اجله يقول لحيفا:

"حيفا: يحق للغرباء ان يحبوك، وان ينافسوني على ما فيك، وان ينسوا بلادهم في نواحيك، مِن فرط ما انتِ حمامة تبني عشها على انف غزال! حيفا تقول لي: انتَ منذ الآن انتَ!" (اثر الفراشة)
يقترب الموت من محمود ويزداد استشعاره به فيزداد تأملا وتلبس قصائده حالة من العمق الصوفي والفلسفة الانسانية العميقة كقوله:

"الصمت اطمئنان الصاحب للصاحب/ وثقة الخيال بنفسه بين مطر وقوس قزح/ قوس قزح هو تحرش الوحي بالشاعر، بلا استئذان.. وافتتان الشاعر بنثر القرآن/ فبأي آلاء ربكما تكذبان/ وغائبان انا وانتَ، وحاضران انا وانت، وغائبان/ فبأيّ آلاء ربكما تكذبان" (في حضرة الغياب).
او كقوله:

"سيري ببطء، يا حياة، لكي اراك بكامل النقصان حولي، كم نسيتك في خضمك باحثا عني وعنك. وكلما ادركت سرا منك قلت بقسوة: ما اجهلك!/ قل للغياب: نقصتني/ وأنا حضرت لأكملك. (كزهر اللوز او ابعد)
في مطولته الاخيرة يرتفع السؤال حارقا عند محمود درويش "من انا؟ من أنا؟" لأنه لا يستطيع ان يخيب ظن العدم كما كان يحسب، وفعلا ينتصر هذا العدم في النهاية فيقول:

"كان يمكن لو كنت ابطأ في المشي ان تقطع البندقية ظلي عند الارزة الساهرة/ كان يمكن لو كنت اسرع في المشي، ان اتشظى وأصبح خاطرة عابرة/ كان يمكن، لو كنت اُسرف في الحلم ان افقد الذاكرة/ ومن حسن حظي اني أنام وحيدا فأصغي الى جسدي وأصدق موهبتي في اكتشاف الألم/ فأنادي الطبيب، قبيل الوفاة بعشر دقائق/ عشر دقائق تكفي لأحيا مصادفة وأخيب ظن العدم/ مَن انا لأخيب ظن العدم؟ من انا؟ من انا" (لاعب النرد).
في مرحلته الشعرية الاخيرة يصل محمود الى ما بعد الحداثة ويصل فيها الى تأملات تحاول ابداعيا ان تجد صيغا غير مألوفة لحوار الانسان مع نفسه، مع الطبيعة ومع الخالق، فالانسان هنا محور تدور حوله التناقضات والثنائيات.
في قصائده في هذه المرحلة يلتقي محمود درويش مع الفيلسوف "هيدجر" الذي قال: "اذا اردنا لأنفسنا ان نصل الى مرتبة الوجود الاصيل فلا بد لنا من ان نرتد الى ذواتنا لكي نأخذ على عاتقنا مسألة وجودنا". في شعر محمود درويش نلتقي مع مقولة الشاعرة والناقدة اميلي ركنسون التي تقول: "اذا ما بدأت اقرأ وشعرت ان قمة رأسي قد انتزعت، فانني حينئذ اقول ان ما اقرأه شعر".
وانتزاع قمة الرأس في شعر محمود يعني نجاحه في نقل مأزومه الينا لنصير وإياه واحدا ولندخل معه جرن التجارب ولنتعمد في المعاناة، او لم يقل تولستوي: "الفن عملية انسانية فحواها ان ينقل الانسان للآخرين واعيا مستعملا اشارات خارجية معينة الاحاسيس التي عاشها فتنتقل عدواها اليهم فيعيشونها ويجربونها".
ان شعر محمود درويش الدافق يشعرك انه قطعة منك، شعر جديد، له حقيقته الخاصة، حقيقة العالم الذي لا يعرف الذهن التقليدي ان يراه، ولكن الذي يراه ويكشف عنه هو الشاعر، فشعره في مرحلته الثالثة خصوصا يرى في الكون ما تحجبه عنا الالفة والعادة ويكشف وجه العالم المخبوء كما ويكشف عن علائق خفية ويستعمل لغة ومجموعة من المشاعر والتداعيات الملائمة للتعبير عن هذا كله، كما يقول "يوسف الخال" هذه هي بعض سرية شعر الدرويش، وهذا هو امتيازه في الخروج عن التقليدية، فقوامه شعر خلاق توليدي لا معنى سردي وصفي، أي قوامه الكشف عن عالَم يظل دائما في حاجة الى الكشف كما يقول "رينيه شار". من هنا يصير شعر الدرويش ذا خاصية تلتصق به تعني انه يعبر دائما عن قلق الانسان ابديا.
ومحمود شاعر شاعر يعرف كيف يوازن بين حدود اللغة قواعدها وأصولها واساليبها المتواررثة وبين الجديد، فهو شاعر موهوب يعترف بقواعد لغته واصولها وبمبادئ الاساليب المتأثرة بهذه اللغة المتوارثة في تاريخها الادبي، وفي الوقت ذاته يأخذ لنفسه قدرا كافيا من الحرية لتطويع هذه القواعد والاساليب لينفخ شخصيته فيها. يقول "روزنتال": "الشعر الجديد في اقوى دفقاته يعتمد على الصلة بالتقاليد وانجازاتها الجمالية، والطرافة في القصيدة ليست وحدها التي تحدد مدى اصالة الشاعر وانما ما يحددها كذلك قدرتها على الافادة من التراث الشعري. اذ لا نجد شعرا قديما له قيمته دون ان يكون له ما يمثله اليوم".
من هنا، ليس غريبا ان نجد اكثر الشعراء نشاطا – كما الحال مع الدرويش -، في مجال الابداع والتجربة هم كذلك اكثرهم تأثرا بصوت الماضي. فالماضي ليس عبئا بل مصدرا رائعا ذا معين لا ينضب، يقول تي.إس.اليوت: "نجد ان خير اجزاء القصيدة، بل نجد اكثرها تميزا، تلك التي تؤكد فيها آثار اسلاف الشاعر الموتى". وهذا يعني ان الدرويش كشاعر كان عليه في خلقه ان يجتاز عملية صراعية مع اللغة والاسلوب ليخرج سيدا منتصرا، لأنه في قدرة الشاعر – وهذا امتحانه – ان يتناول اللغة والطريقة المتوارثة ويرغمهما على التفاعل كمعنى مع المعنى الفردي والفريد الذي جاءت به تجربته، وهذا الشيء هو بالذات الذي يأسرنا في شعر الدرويش، فشعره بناء موضوعي ذو معنى ينعم بوجود خاص به وهذا البناء يتميز بثالوث الشعر العميق الجيد، اعني: "التضمين وتلاقي الاضداد والتلميح" لانه بالتضمين تكتسب القصيدة الجدة والطرافة وتعالج القضايا في ضوء تعقيداتها الحقيقية، وبتلاقي الاضداد تكتسب التوتر والزخم وترتفع عن مساق الكلام العادي، وبالتلميح تكتسب الضبابية والسرية اللتين تثيران في القارئ حب الاستطلاع والتشويق والتحدي والمغامرة في المجهول، وحجارة هذا البناء الموضوعي عند الدرويش الالفاظ لأنها في الشعر تؤدي الى ما وراء المعاني فتضاف اليها ابعاد جديدة وبذلك تتجدد وتحيا.
"ان ابرز مظاهر الفرق بين اسلوبي الشعر القديم والحديث ليست ناجمة كما هو الاعتقاد السائد عن التحول من التعبير الواضح الى لغة الاحاجي،وانما هي ناجمة عن انتقال من الصيغة الشكلية الى البساطة وصراحة التعبير. فالشعر الجيد يتصف بألفة لا صنعة فيها ولا تكلف وادراك لحقائق الحياة اليومية بصورة لم تكن معهودة من قبل" كما يقول "روزنتال":
شعر الدرويش يتجه نحو التخلي عن الحادثة والوقائعية ويستخدم كلمات منزاحة "ليست وفقا لدلالاتها المألوفة، كما انه يتخلى عن الجزئية ليتبنى رؤيا للعالم ولكنها رؤيا ليست مباشرة.
يقول "مارلو": "الاثر الشعري الذي لا يكون الا شكلا من اشكال المديح والهجاء هو في الحقيقة ضد الشعر". لذلك الشعر عند الدرويش ليس انعكاسا بل فتحا، وليس رسما بل خلقا، الشعر عنده يتخلى عن الرؤية الافقية كما الشعر القديم الذي تمترس ووراء بستان من الالفاظ وتغطى بزخارف عديدة تركت لنا القصيدة اللعبة، القصيدة الجلية وتستّر بكابوس من التشبهات والاستعارات ليتغلّب على افقيته، لذلك ظل القديم على السطح كما يقول ادونيس، في شعر الدرويش لا نجد شعرا يتسكع على السطح ويعاني الوجود من خارج، بل يتحول الى محايأة هذا الوجود" كما يقول "امطانيوس ميخائيل".
شعر الدرويش وارتكازا على ما ذكر يقوم على تنافر بين الشاعر والواقع يوازيه تنافر بينه وبين القارئ، وهذا التنافر هو ابرز خصائص هذا الشعر، والتنافر شعريا هو الغرابة، و"الجميل غريب دائما" كما يقول "بودلير".

* ملاحظة (1): قدمت هذه المحاضرات ضمن شهر الثقافة الذي كرس هذا العام لأمير الكلام الشاعر الكبير محمود درويش

* ملاحظة (2): ارتكزت هذه المحاضرات بشكل مباشر بايجاز حينا وبتصرف احيانا على المراجع التالية:

1. ادونيس: "الشعر والثورة"، مجلة الهدف، العدد 20، 1969
2. محمد دكروب: "الادب الجديد والثورة"، الفارابي، بيروت، 1980
3. حسين مروة: "الموقف الثوري في الادب"، دار الفكر العربي، بيروت 1976
4. رجاء النقاش: "ادباء معاصرون"، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، 1968
5. الياس خوري: "دراسات في نقد الشعر"، مؤسسة الابحاث العربية، بيروت، طـ 3، 1986
6. احمد جواد مغنية: "الغربة في شعر محمود درويش"، الفارابي، بيروت، 2004
7. بسام قطوس: "مقاربات نصية في الادب الفلسطيني الحديث"، مؤسسة حمادة، ودار الشروق، اربد – عمان، 2000
8. نعيم عرايدي: "الجدارية" – مجلة مشارف، العدد 18، حيفا 2002 ص 184 – 197
9. حسين حمزة: "العين الثالثة"، مواقف، 2005 مقال: "موثيف الموت في شعر محمود درويش"
10. ادونيس: "زمن الشعر" دار العودة ط 2، بيروت، 1978
11. يوسف الخال: "الحداثة في الشعر" الطليعة، بيروت، 1978
12. ميخائيل، امطانيوس: "دراسات في الشعر العربي الحديث"، المكتبة العصرية، صيدا – بيروت، 1968
13. يمنى العيد: "في القول الشعري"، دار توبقال، الدار البيضاء، 1987
14. عبد الواحد لؤلؤة: "منازل القمر"، دار رياض الريس، لندن، 1990
15. اليزابيث درو: "الشعر كيف نفهمه ونتذوقه"، ترجمة محمد ابراهيم الشوش، مكتبة منيمنة، بيروت، 1961
16. احسان عباس: "اتجاهات الشعر العربي المعاصر، دار الشروق، ط 2، عمان، 1992
17. حبيب بولس: "قضايا ومواقف ادبية" المعهد العالي للفنون وبيت الكاتب، الناصرة، 1997

ليست هناك تعليقات: