الأربعاء، يوليو 22، 2009

زفة العروس -2

انطوني ولسن
استراليا

كانت شلبية تفكر في مصير نعيمة حين تذكّرت فجأة «المعلم» الذي ابدى اهتماما ملحوظا بها، فازداد همُّها وبدأت تبكي حظها العاثر معه، وخروج نعيمة بهذا الشكل المجنون الغريب.

نعم، نعيمة كانت تصرفاتها مؤخرا غير عادية، كانت متمردة لا تريد ان تستمر في عملها كراقصة في القرية. كرهت هذه الحياة وكرهت عيون الرجال التي تكاد تخترق ملابسها لتعريها في شهوة جائعة. ولم تخلُ نظرات النسوة من غيرة حاقدة حاسدة، فهي اجمل من اي فتاة او امرأة اخرى.. قوام ميّاس ووجه مليح وشباب وحيوية تفتقر الكثيرات اليها.

وصلت نعيمة الى دار العمدة وهي تلهث. سألت عن العمدة فقالوا لها انه في المركز وسيعود غدا. سألت عن ابنه، فأجابوها ايضا انه خارج المنزل ولا احد يعرف متى سيعود. فما كان منها إلا ان قالت لهم:

نعمية: واين الحرامي؟

الخفير: في الحجز.. ولماذا تسألين؟

نعيمة: لقد رأيت الحرامي.. واريد أن اتأكد ان كان هو.

الخفير: حقا؟!.. رأيت الحرامي؟!

نعيمة: نعم.. نعم رأيته.

الخفير: اذا كنت قد رأيته.. فلماذا تريدين ان تريه الآن؟

نعيمة: اريد فقط ان اتأكد أنه نفس الشخص..

الخفير: «ودي ح تفرق حاجه»؟

نعيمة: «جرى ايه يا شيخ الخفر».. «انا حُرمه.. خايف من ايه»؟

الخفير: «يبرم شواربه».. «انا لا خايف ولا حاجه».

نعيمة: «طب خليني أطل عليه»

يحتار الخفير وينظر اليها بإعجاب ويسألها ان تتبعه الى داخل الدار، فتسير خلفه الى ان يصلا الى غرفة صغيرة خارج الدار محاطة بسور صغير يفصل الدار عن مزارع الذرة. ورأت خفيرين واقفين امام الغرفة بسلاحهما للحراسة.

نعيمة: ياه.. يبدو انه مجرم خطير!!

الخفير: هذه اوامر العمدة فتح الله.

نعيمة: هل لي ان اراه؟

الخفير: يا نعمية.. «بلاش» اللي في دماغك..»

نعيمة: «والنبي.. والنبي علشان خاطري».

ينظر الخفير الى الخفيرين الاخرين ويطلب منهما فتح الباب واحضار المتهم، يخرج المتهم وهو شارد في حالة ذهول.. تدور نعيمة حوله وتدفعه بطريقة عفوية ناحية السور.. يتحرّك الفتى دون ان يعرف ما الذي يفعله او تفعله نعيمة.. ينظر الخفر الثلاثة اليهما وهم في عجب من أمر نعيمة. انها تحاور الفتى بجسدها وكأنها ترقص.. تنظر اليهم وتبتسم.. ولا احد يعرف ماذا في رأسها.

اقتربت نعيمة والفتى من السور.. وفجأة صرخت فيه وقالت:

نعيمة: اقفز واجرِ بسرعة..

قفز الفتى وتبعته نعيمة في سرعة خاطفة.. اختفى الاثنان داخل عيدان الذرة، وكالبرق، كانا يجريان وتبعهما الخفر الثلاثة وهم يطلقون العبارات النارية.. ولم يوقفهما شيء.

***

وصل شهدي ونعيمة الى كفر البلاص وهما في حالة من التعب والارهاق. فقد ظلاَّ يجريان الى ان خرجا بعيدا عن دار العمدة ودائرة القرية.. وعلى الطريق الزراعية بدأت خطواتهما تتباطأ. نظر اليها وكانت المرة الاولى التي يرى وجهها. عندما كانت تُزفُّ العروس، لم يلتفت اليها او الى الزفة. بل كان في طريقه الى الكفر بعد ان انهى عمل اليوم في مزرعة الحاج وهدان. ومع ذلك وجد نفسه فجأة مقبوضا عليه ومتهما بسرقة محفظة من احد المزارعين وموضوعا في الحجز لحين عودة العمدة من المركز. والآن الى جواره امرأة. سمع الخفر ينادون عليها باسم نعيمة، جازفت بنفسها وحياتها لانقاذه.. امرأة جميلة وتبدو بريئة على الرغم انه سمعهم ايضا يقولون عنها نعيمة الراقصة.

أما هي فقد تطلّعت الى وجهه واحتارت ماذا تقول له، لا بد انها قرأت ما يدور في خاطره من تعريض نفسها للمخاطر من اجل انقاذه، وهي التي لا تعرف عنه شيئا. هدأت خطواتهما اكثر فأكثر، ولكنه تذكر فجأة انهما مطاردان. لا بد وان الخفر سيلحقون بهما الى الكفر. لذا اسرع الخطى مرة اخرى واخذ يجري واشار اليها ان تتبعه.. ففعلت.

وفي داخل أزقة الكفر، بدأ يرقب الطريق ويسير في حذر وطلب منها ان تسير خلفه حتى لا يلحظ احد انها معه. وصل الى حيث يقطن.. دقَّ باب البيت ففتحت له زوجته وما أن رأته حتى صرخت وولولت.. طلب منها ان تسكت وتخفض صوتها فما كان منها ان قالت له:

- غائب منذ أمس دون ان نعرف عنك شيئا.. وتأتي الآن ومعك امرأة ولا تريدني أن اصرخ واولول واجعل اهل الكفر يرونك وانت هكذا؟

ما ان انهت زوجته قولها، حتى بدا على مرمى النظر عدد من الخفر ومعهم فتح الله ابن العمدة.. وحين رأتهم نعيمة صرخت فيه:

نعيمة: انهم قادمون نحونا.. هيّا بنا وإلا قتلونا.

جرى الاثنان مرة اخرى وزوجة شهدى لا تعرف ماذا تقول او ماذا تفعل.. رأهما الخفر وفتح الله، فجروا وراءهما مارين امام بيت شهدى.

***

سقطت نعيمة من الاعياء والتعب، التفت شهدى خلفه قرآها على الأرض. توقف لحظة.. ثم عاد اليها.. نظرت اليه وقالت:

نعيمة: اهرب انت.. اجرى.. لا تخاف علي..

شهدى: لا.. انهضي لنهرب معا.

لم تستطع النهوض، فأنحنى على الأرض وحملها فوق «كتفه» واخذ يركض، وكان من البديهي ان يلحق بهما فتح الله ابن العمدة والخفر الذين معه. انهال فتح الله على نعيمة بالضرب والركل والسب. وأما الخفر، فامسكوا شهدى، ودارت معركة بينه وبينهم، انضم اليه اهل الكفر الذين تعاطفوا مع ابن كفرهم دون ان يسألوا عن شيء آخر.

من يرى فتح الله وهو يضرب نعيمة هذا الضرب المبرح، يظن ان ثأراً بينهما، وأنه يريد ان ينتقم منها لشيء هم يجهلونه، لم يهتم بالسارق بل كان جلُّ همِّه ضرب نعيمة دون رحمة.

امسك بعض من الشباب بفتح الله محاولين ابعاده عن نعيمة.. فجُنَّ جنونه وأخذ يضربهم ويسبهم، وساعد آخرون نعيمة على الهرب بعيدا عنه. كما استطاع شهدي ان يجري بعيدا دون ان يلحق به احد.

فقد فتح الله السيطرة على نفسه، واخذ يضرب الخفر ويسبهم ويتوعدهم بفصلهم من العمل وهدد اهل الكفر متوعدا بتربيتهم وحبسهم جميعا، لانهم ساعدوا على تهريب مجرم مقبوض عليه في قضية سرقة، كذلك مساعدة شريكته وعشيقته «الراقصة نعيمة، والتي يعرف الناس جميعا سمعتها السيئة واخلاقها الفاسدة، واقسم لهم وتوعدهم وادار ظهره عائدا من حيث أتى.

توجّه كل من كان موجودا في كفر البلاص الى منزل شهدي لمعرفة حقيقة ما يحدث. رأى الناس زوجة شهدي وهي تصرخ و»تلطم» وحولها أقاربها يحاولون تهدئتها، سألها احد رجال الكفر الذين سمعوا العمدة فتح الله وهو يتوعد شهدي ونعيمة:

- يا ست ام اسحق، ما الذي حدث .. سمعنا العمدة فتح الله يتحدث عن «ابا اسحق» وراقصة اسمها نعيمة !؟

اجابته زوجة شهدي والأعياء بادٍ عليها..

لا اعرف.. فوجئت به يطرق الباب ومعه تلك المرأة!.. تدخَّل في الحديث رجل آخر فقال:

هذا فجر ما بعده فجر.. شهدي يأتي الى منزله وبصحبة امرأة يقولون عنها انها راقصة..

يتساءل ثالث:

- ولكن يا ست «أم اسحق» اليس من المفروض انه في عمله في مزارع الحاج وهدان؟

وهنا يتدخّل والد شهدي المقدس زكي ويقول:

- يا ناس ارحمونا.. «علشان خاطر المسيح سيبونا في حالنا دا شهدي غايب عن البيت من امبارح».

تدور همهمة بين الناس وتساءلات حول غياب شهدي عن المنزل ويسأل احدهم مؤكدا:

- تقول يا مقدس انو غائب عن المنزل «من مبارح»؟

يرد عليه والد شهدي المقدس زكي:

-»ايوه من امبارح» يا مقدس غطاس..

تصرخ زوجة شهدي في الناس وتقول لهم:

- يا ناس «سيبونا في حالنا»..

يقترب منها المقدس غطاس وهو يقول لها:

- «لا يا بنتي.. احنا عيلة واحدة لازم نعرف الحكاية».

دخل من دخل الى دار شهدى.. وغادر المكان من غادر، وهدأت زوجة شهدي، وأخذ المقدس زكي والد شهدي يقصُ عليهم ويخبر الجميع أن شهدي كان غائبا عن الدار منذ الأمس. لم يعد من عمله كالمعتاد. وانهم سهروا الليل في انتظار عودته. واحتار الجميع لانهم لا يعرفون ماذا يفعلون. وقد فاجأ زوجته بحضوره ومعه هذه المرأة، وبعد ذلك مطاردة العمدة فتح الله والخفر لهما بهذه الصورة.

وقد علق البعض على الطريقة الوحشية التي كان يضرب بها فتح الله المرأة المسكينة التي كانت تحتمل ركلات قدمه وتصرخ في صمت والدم ينزف من أنفها وفمها بغزارة نتيجة صفعات يده «الثقيلة».

ايقن الجميع أن في الأمر شيئا غامضا تعرفه نعيمة فقط. لذا يطاردها فتح الله ورجاله ويضربها بهذه الطريقة.. «اللا آدمية».. اما عن شهدي، فقد اكدت زوجته امام الجميع، انها اخطأت في حقه عندما اتهمته اتهاما باطلا مع هذه المرأة.

نهض بعض من الشبان عاقدين العزم على الذهاب والبحث عن شهدي ونعيمة وحمايتهما قبل ان يوقع بهما فتح الله الاذى اكثر من ذلك. وقد عرف بعضا منهم من تكون نعيمة وأين تعيش مع عارف الطبال وزميلتها الراقصة شلبية.

(يتبع)

ليست هناك تعليقات: