د. عدنان الظاهر
ذئبٌ شاميٌّ ـ حلاّويٌّ مُزدوج النشأة والخلقة والولاء . ذئبٌ لكنه في إهاب أسدٍ ، أسد بابل . وأسدٌ في طبيعة ذئب شاميٍّ . إذا صال في حومات الوغى الأدبية فصولات أسود . وإذا كرَّ وتراجعَ فدهاءُ ذئاب البراري والفلوات . إذا مدحَ فمديح المتنبي في سيف الدولة الحمداني . وإذا ذمَّ فذمُّ المتنبي في كافور مصرَ الإخشيدي . ما هذه الإزدواجية في هذا الذيب البشري ؟ أهو بشرٌ ـ ذئبٌ أم ذئبٌ ـ إنسانٌ وما الفرق بينهما ؟ حيّرني أمرُهُ فقلتُ بل سأستنجد بأخينا الزاهد أبي الزاهدين الرابض أسداً بابلياً حقيقياً هناك ما بين القاسم والحلة . لم يبارحهما إذْ إدلهمّت الخطوبُ وسادت الظلمةُ وحلت أعوام الجوع والحصار . بقي هناك صامداً صَمَداً في وسط سواد الناس . قلتُ إنه يعرف ـ كما أعرفُ ـ الذئب هذا بلونيه الأبيض والأسود بل ، وربما يعرفه أفضل مني بحكم علاقات القربى والمصاهرة وما شابه ذلك . قال إنه مثلي محتار في لغز هذا الذيب الشامي / الحلاوي الذي يشرب ماء دجلةَ كما يعبُّ من ماء الفرات . قَدَمٌ هنا وقدمٌ هناك فمن ذا الذي يستطيعُ أنْ يظفرَ منه بشئٍ ذي بال ؟ جلده مصفّحٌ مدرّعٌ مُعفَّصٌ مُدبّغٌ لا يخترقه الرصاص ولون شعره دائم التبدّل بين اللونين الأبيض والأسود بحسب الأجواء والمواسم وحرارة الشمس . فهو شديد البياض صيفاً لأنَّ اللون الأبيض يعكسُ ولا يمتص الحرارة . وهو حالك السواد شتاءً لأنَّ اللونَ الأسود يمتص الحرارة ولا يسرّبها إلى ما تحته . عجيبٌ أمرك يا ذيبُ ! من أية طينة جبلك أبواك وهما بشران وليسا ذئبين ؟ كان الذئبُ ـ كشأنه أبداً ـ على الخط ، يتسمّعُ ويُصغي ويلتقط ولا تفوته فائتةٌ . قال بصوتٍ منخفضٍ قد ظلمتماني يا رجال . أنا كما قد تعلمان ذئبٌ بالإسم فقط ، لا تجمعني والذئاب جامعة ولا من صلة قرابة بيننا . ثم إننا مختلفان في كل شأنٍ وأمر . إهابي إهابُ إنسانٍ سويٍّ وكذلك أسناني التي شرعت تتساقط وقد جاوزتُ الخمسين . أنا بشرٌ قد أمدح كالمتنبي وقد أذمُّ . أمدحُ من يستحق مديحي بدون مقابل وأذمُّ الحقيق بذمي ولا أقبض من خصومه كما يفعلُ بعض الشعراء والكتاب اليوم وفي سالف العهود . هزَّ الزاهدُ حتى بملبسهِ رأسَهُ مؤكّداً صحة بيان الذئب ودفاعه عن نفسه . لا يأتيه الباطلُ لا من قدّامٍ ولا من دُبُرٍ ... قالَ . ثم أشار لي أنْ أبينَ وجهة نظري في دفاع الذئب عن نفسه . قلتُ : أعرف حق المعرفة نزاهة هذا الذئب البشري وعفة منبته ويده وذيله ، لكني على يقين من الطبع الثنائي المزدَوَج الأصيل فيه . فهو الأبيضُ الناصع / الأسودُ المبالغ في حلكته . وهو الظاهر في العيان / المُبطّن في الخفاء . تراه حيناً { أفندياً } على آخر طراز . وتراه أحياناً قروياً بعباءة الجنوب وعقال ويشماغ أهل الجَنوب . هل هذا ذئبٌ أم غضبٌ مركّبٌ وليس مزدوج التشكيل ؟ تنهّدَ أبو زاهد والأمير بين زاهدي بابل المبلبلة منذ ما قبل حمورابي بقرون وقرون . تنهّدَّ ثم قال بصعوبة بالغة مرتجزاً قولاً شعبياً يعرفه العراقيون [[ يا ذيبْ ليشْ تْعَويْ // حالكْ مثلْ حاليْ ]] . أضحكني يا أبا زاهد رجزك هذا . إي ، أضحكني وأيم الحق حتى كاد يُبكيني . شعرت لحظتها أنَّ قائله كان قد تلطّفَ فشملني بالمقصود من هذا الكلام البليغ . هل حالُك يا أميرَ ذئاب الشامية وحلة بابل فعلاً مثل حالي وحال أخينا كثير التزهد ؟ إحتج الذيبُ بعنف نافياً ذلك جملةً وتفصيلاً . هددنا بضربنا بعقاله الصلد المفتول لفّاً وبرماً شديداً كأنه حبلٌ من مَسَدٍ ... كعادة قرويي الفرات الأوسط حين يشجرُ بينهم عراكٌ أو خصامٌ ولا يحملون في أواسطهم أو على مناكبهم أسلحة نارية أو أسلحة حديد كالخناجر مثلاً. ويا ما رأيتُ في طفولتي الكثير من أمثال هذه المشاجرات التي تسيل الدماءُ جرّاها بغزارة . ما رأيك يا أبا زاهد بعد هذا التهديد الكثير الجديّة وحالنا كما تعرف ضعيف لا نقوى على مشاجرة ولا حتى نستطيعُ الدفاع عن النفس ؟ قال إنه وربي لذئبٌ أطلسُ عسّالٌ كما جاء في وصف الشاعر المدّاحُ البحتري لذئبٍ دنا من خيمته ليلاً في بعض صحارى العرب العاربة . وما قال الشاعر في هذا الذئب قبلُ وبعدُ ؟ أخذ أبو زاهد يحدو بنبرة الشاعر الشعبي صاحب عبيد الحلي الجميلة ، وهو مؤلف وملحن الأغنية التي طبّقت شُهرّتها الآفاق {{ يا عزيز الروحْ // يا بعد عيني // شنهو ذنبي وياكْ // ما تحاكيني }} . قال أبو زاهد مُنشداً بعض أبيات البحتري في الذئب الصحراوي وليس الذئب الحلاوي ـ الشاماوي :
وأطلسَ ملءِ العينِ يحملُ زَورَهُ
وأضلاعُهُ من جانبيهِ شوىً نهدُ
لهُ ذَنبٌ مثلُ الرِشاءِ يجُرُّهُ
ومتنٌ كمتنِ القوسِ أعوجُ مُنأدُّ
طواهُ الطوى حتى استمرَّ مَريرُهُ
فما فيهِ إلاّ العظمُ والروحُ والجلدُ
يُقضقضُ عُصْلاً في أسرّتها الردى
كقضقضةِ المقرورِ أرعدهُ البردُ
سما لي وبي من شدّة الجوعِ ما بهِ
ببيداءَ لم تُعرفْ بها عيشةٌ رَغْدُ
كلانا بها ذئبٌ يُحدِّثُ نفسَهُ
بصاحبهِ والجَدُ يُتعسهُ الجَدُّ
عوى ثم أعقى فارتجزتُ فهجتُهُ
فأقبلَ مثلَ البرقِ يتبعُهُ الرعدُ
...
قلتُ واصلْ إنشادك أبا زاهد . قال كفى . أتعبني حالُ هذا الذئب وأشجاني . أحسستُ بشئٍ من التعاطف معه بل وبعض العطف عليه . إنه حيوان جائع من حقه أنْ يسدَّ رمقه ببُلغة طعامٍ فإنْ لم يقدمها له البشرُ وجدها فيهم طعاماً حلالاً طرياً ذاكي الدم . حمحمَ وغمغم الذيب الشامي الغُلامي ففهمتُ أنه يعترض على إفادة أبي زاهد . قلْ يا ذيبُ وكفَّ عن العواء . قال إني أجدُ نفسي في تعارض مطلق مع بيان أخي أبي زاهد ! كيف ، أوضحْ ، قلت له . قال أفلم أكن جائعاً حين صادفتني الطفلة الحلاوية ليلى في الغابة وهي في طريقها لزيارة جدتها العجوز ؟ قلتُ بلى ، قد كنتَ . قال لكني أحجمتُ ولم أفترسها . صدقتَ يا أيها الذيبُ البابلي ، لم تفترسْ ليلى . لكنك يا أيها الذيبُ الشهمُ الشجاعُ لم تقاتل خالها وجبنت عن مصارعته ومنازلته فأهوى على رأسك بفأسه الحادة القاتلة فخررتَ صريعاً دون قتال ! قال بإمتعاضٍ شديد : كنتُ أحسبك أكبرَ وأكثرَ حزماً وفهماً لأمري . كيف يا ذيب الذئاب ، وضّحْ رجاءً . نكّسَ رأسه ومسح دموع عينيه بحافة يشماغه . رفع رأسه ثم قال : لم أستطعْ مجابهةَ خال ليلى وبأسَ فأسه لا عجزاً ولا جبناً ولا تقاعساً عن حقي بالدفاع عن النفس . أصختُ وأصاخَ أبو زاهد السمع . قال : لقد إستخدم الجبان اللئيمُ ليلى درعاً بشرياً يعزله عني ويحميه مني، تماماً كما فعلَ صدام حسين يوماً من أجساد بعض الأسرى والمحتجزين الأجانب. أصابني إذّاك شللٌ تامٌ فلم أتحركْ ولم أهاجم فأقعيتُ على مؤخرتي كأي ثعلب أو كلب أجرب جبان . كان تصوري للموقف أنًّ هذا الخال سوف يتوقف عن رعونته ويقدّر شهامتي وإنسانية موقفي فينسحب دون قتال لكنه ركبَ رأسه وقد رآني بما كنتُ عليه من وضع مستسلم غير هجومي فأهوى على يافوخي بحاد نصل فأسه وأرداني قتيلاً ولكنْ قرباناً وفداءً لليلى عزيزتي . صفقنا طويلاً لهذا الذيب الطيب النادر والغريب الطبع .
مرّت فترةُ صمتٍ طويلة دخّن فيها ذيبُ الذئاب القتيل دفاعاً عن حياة ليلاه ... دخّن الكثير من سجائر اللف والمزبّن حتى توقف ( زنادهُ ) عن أنْ يوري . تلفّتَ يمنةً ويسرة فلم يجد من يسعفه . ما كان أبو زاهد من مدخني السجائر ولم أكنْ أبداً . نهضَ الذئبُ نافضاً ذيلَ عباءته الشامية من نوع { البِشِتْ } السميك فرجوته أن يتريثَ ولا ينصرف عنّا . قال ما خطبكَ وقد بلغتَ بي حالة مأساتي ومكرمتي بشهامتي التي لا يذكرها أحدٌ بكلمة خير ؟ قلتُ بل لديَّ لك سؤال . جلس على مضضٍ وقال هيا قل واختصرْ . يا ذيبُ ، أزاح عباءته عن كتفيه وعدّل من وضعية يشماغه ، فاسترسلتُ قائلاً : هل تجد فرقاً بين ظرف مقتلك ومقتل ذئب الشاعر البحتري ؟ قال بالطبع . الفرق كبير جداً . كيف ؟ البحتري رجلٌ قتل حيواناً جائعاً مشرّداً يطوي البراري والفلوات بحثاً عن طعام يسدُّ به رمقه . قتله دفاعاً عن نفسه ثم إشتواه طعاماً شهيّا لأنه كان مثل ضحيته في حالة جوع شديد .
سما لي وبي من شدّةِ الجوعِ ما بهِ
ببيداءَ لم تُعرفْ بها عيشةٌ رغدُ
كلانا بها ذئبٌ يحدِّثُ نفسَه بصاحبه ...
أستشهدَ ذئبُ البحتري في معركة غير متكافئة أصلاً . كان الشاعر مسلّحاً بأدوات الموت من نبال حديد وأقواس ورماح وسيوف وما كان الذئبُ مسلّحاً إلا بوسائل بدائية هي أسنانه ومخالبه وإنها ليست من الحديد . أما أنا يا صاحبي فأمري غير أمر هذا الذئب . لم أدخلْ في معركة مع خال ليلى إنما إرتضيتُ لنفسي الموتَ ضماناً لسلامة حياة الصبية ليلى . نعم ، كلانا ضحية ولكنا قضينا بأسباب ودوافع وظروف مختلفة . ذاك كان أشجع مني إذْ قاتل دفاعاً عن نفسه ومصالحه في أن يجد شيئاً يأكله ليُديمَ حياته . أما أنا فأفضلُ وأشرف منه لأني ضحيّت بحياتي وقبلتُ الموت لكي لا أتسبب في أذيّة صبيّة بريئة . تأهبَ ثانيةً للنهوض فأشرتُ لأبي زاهد أنْ يقولَ كلمة أخيرة . تردد أبو زاهد قبل أن يسألَ ممازحاً الذئبَ الشهمَ والقديسَ المُضحّي : يا أيها المسيحُ بين ذئاب البشر / قل لنا رجاءً ، إنْ كنتَ فعلاً كما ذكرتَ أنقذتَ حياة ليلى بموتك ، فكيف سوّلتْ لك نفسك إفتراس يوسفَ إبن يعقوب في بعض براري بلاد كنعان ؟ وضع عباءته على كتفيه وهمَّ بالمغادرة قائلاً : معاذَ الله ! إنه ربي أكرمَ مثوايَ فكيف أفترسُ من أكرمني وآواني ؟ ثم ، كيف تقولُ هذا الكلام وأنت تعرفُ أنَّ يوسفَ حيٌّ إبتاعه عزيزُ مصرَ وتعرفُ حكايته الدرامية مع السيدة زُليخا قرينة العزيز العاقر التي راودته عن نفسهِ فهمّت به وهمَّ بها لولا ان رآى برهانَ ربّهِ فقال [[ معاذَ اللهِ ، إنه ربّي أكرمَ مثوايَ ]] . قالَ أفلمْ أقلْ للتوِّ مثلَ هذا القول ؟ صدقتَ يا ذيبُ ، صدقتَ يا ذياب مهدي آل غلام .
ذئبٌ شاميٌّ ـ حلاّويٌّ مُزدوج النشأة والخلقة والولاء . ذئبٌ لكنه في إهاب أسدٍ ، أسد بابل . وأسدٌ في طبيعة ذئب شاميٍّ . إذا صال في حومات الوغى الأدبية فصولات أسود . وإذا كرَّ وتراجعَ فدهاءُ ذئاب البراري والفلوات . إذا مدحَ فمديح المتنبي في سيف الدولة الحمداني . وإذا ذمَّ فذمُّ المتنبي في كافور مصرَ الإخشيدي . ما هذه الإزدواجية في هذا الذيب البشري ؟ أهو بشرٌ ـ ذئبٌ أم ذئبٌ ـ إنسانٌ وما الفرق بينهما ؟ حيّرني أمرُهُ فقلتُ بل سأستنجد بأخينا الزاهد أبي الزاهدين الرابض أسداً بابلياً حقيقياً هناك ما بين القاسم والحلة . لم يبارحهما إذْ إدلهمّت الخطوبُ وسادت الظلمةُ وحلت أعوام الجوع والحصار . بقي هناك صامداً صَمَداً في وسط سواد الناس . قلتُ إنه يعرف ـ كما أعرفُ ـ الذئب هذا بلونيه الأبيض والأسود بل ، وربما يعرفه أفضل مني بحكم علاقات القربى والمصاهرة وما شابه ذلك . قال إنه مثلي محتار في لغز هذا الذيب الشامي / الحلاوي الذي يشرب ماء دجلةَ كما يعبُّ من ماء الفرات . قَدَمٌ هنا وقدمٌ هناك فمن ذا الذي يستطيعُ أنْ يظفرَ منه بشئٍ ذي بال ؟ جلده مصفّحٌ مدرّعٌ مُعفَّصٌ مُدبّغٌ لا يخترقه الرصاص ولون شعره دائم التبدّل بين اللونين الأبيض والأسود بحسب الأجواء والمواسم وحرارة الشمس . فهو شديد البياض صيفاً لأنَّ اللون الأبيض يعكسُ ولا يمتص الحرارة . وهو حالك السواد شتاءً لأنَّ اللونَ الأسود يمتص الحرارة ولا يسرّبها إلى ما تحته . عجيبٌ أمرك يا ذيبُ ! من أية طينة جبلك أبواك وهما بشران وليسا ذئبين ؟ كان الذئبُ ـ كشأنه أبداً ـ على الخط ، يتسمّعُ ويُصغي ويلتقط ولا تفوته فائتةٌ . قال بصوتٍ منخفضٍ قد ظلمتماني يا رجال . أنا كما قد تعلمان ذئبٌ بالإسم فقط ، لا تجمعني والذئاب جامعة ولا من صلة قرابة بيننا . ثم إننا مختلفان في كل شأنٍ وأمر . إهابي إهابُ إنسانٍ سويٍّ وكذلك أسناني التي شرعت تتساقط وقد جاوزتُ الخمسين . أنا بشرٌ قد أمدح كالمتنبي وقد أذمُّ . أمدحُ من يستحق مديحي بدون مقابل وأذمُّ الحقيق بذمي ولا أقبض من خصومه كما يفعلُ بعض الشعراء والكتاب اليوم وفي سالف العهود . هزَّ الزاهدُ حتى بملبسهِ رأسَهُ مؤكّداً صحة بيان الذئب ودفاعه عن نفسه . لا يأتيه الباطلُ لا من قدّامٍ ولا من دُبُرٍ ... قالَ . ثم أشار لي أنْ أبينَ وجهة نظري في دفاع الذئب عن نفسه . قلتُ : أعرف حق المعرفة نزاهة هذا الذئب البشري وعفة منبته ويده وذيله ، لكني على يقين من الطبع الثنائي المزدَوَج الأصيل فيه . فهو الأبيضُ الناصع / الأسودُ المبالغ في حلكته . وهو الظاهر في العيان / المُبطّن في الخفاء . تراه حيناً { أفندياً } على آخر طراز . وتراه أحياناً قروياً بعباءة الجنوب وعقال ويشماغ أهل الجَنوب . هل هذا ذئبٌ أم غضبٌ مركّبٌ وليس مزدوج التشكيل ؟ تنهّدَ أبو زاهد والأمير بين زاهدي بابل المبلبلة منذ ما قبل حمورابي بقرون وقرون . تنهّدَّ ثم قال بصعوبة بالغة مرتجزاً قولاً شعبياً يعرفه العراقيون [[ يا ذيبْ ليشْ تْعَويْ // حالكْ مثلْ حاليْ ]] . أضحكني يا أبا زاهد رجزك هذا . إي ، أضحكني وأيم الحق حتى كاد يُبكيني . شعرت لحظتها أنَّ قائله كان قد تلطّفَ فشملني بالمقصود من هذا الكلام البليغ . هل حالُك يا أميرَ ذئاب الشامية وحلة بابل فعلاً مثل حالي وحال أخينا كثير التزهد ؟ إحتج الذيبُ بعنف نافياً ذلك جملةً وتفصيلاً . هددنا بضربنا بعقاله الصلد المفتول لفّاً وبرماً شديداً كأنه حبلٌ من مَسَدٍ ... كعادة قرويي الفرات الأوسط حين يشجرُ بينهم عراكٌ أو خصامٌ ولا يحملون في أواسطهم أو على مناكبهم أسلحة نارية أو أسلحة حديد كالخناجر مثلاً. ويا ما رأيتُ في طفولتي الكثير من أمثال هذه المشاجرات التي تسيل الدماءُ جرّاها بغزارة . ما رأيك يا أبا زاهد بعد هذا التهديد الكثير الجديّة وحالنا كما تعرف ضعيف لا نقوى على مشاجرة ولا حتى نستطيعُ الدفاع عن النفس ؟ قال إنه وربي لذئبٌ أطلسُ عسّالٌ كما جاء في وصف الشاعر المدّاحُ البحتري لذئبٍ دنا من خيمته ليلاً في بعض صحارى العرب العاربة . وما قال الشاعر في هذا الذئب قبلُ وبعدُ ؟ أخذ أبو زاهد يحدو بنبرة الشاعر الشعبي صاحب عبيد الحلي الجميلة ، وهو مؤلف وملحن الأغنية التي طبّقت شُهرّتها الآفاق {{ يا عزيز الروحْ // يا بعد عيني // شنهو ذنبي وياكْ // ما تحاكيني }} . قال أبو زاهد مُنشداً بعض أبيات البحتري في الذئب الصحراوي وليس الذئب الحلاوي ـ الشاماوي :
وأطلسَ ملءِ العينِ يحملُ زَورَهُ
وأضلاعُهُ من جانبيهِ شوىً نهدُ
لهُ ذَنبٌ مثلُ الرِشاءِ يجُرُّهُ
ومتنٌ كمتنِ القوسِ أعوجُ مُنأدُّ
طواهُ الطوى حتى استمرَّ مَريرُهُ
فما فيهِ إلاّ العظمُ والروحُ والجلدُ
يُقضقضُ عُصْلاً في أسرّتها الردى
كقضقضةِ المقرورِ أرعدهُ البردُ
سما لي وبي من شدّة الجوعِ ما بهِ
ببيداءَ لم تُعرفْ بها عيشةٌ رَغْدُ
كلانا بها ذئبٌ يُحدِّثُ نفسَهُ
بصاحبهِ والجَدُ يُتعسهُ الجَدُّ
عوى ثم أعقى فارتجزتُ فهجتُهُ
فأقبلَ مثلَ البرقِ يتبعُهُ الرعدُ
...
قلتُ واصلْ إنشادك أبا زاهد . قال كفى . أتعبني حالُ هذا الذئب وأشجاني . أحسستُ بشئٍ من التعاطف معه بل وبعض العطف عليه . إنه حيوان جائع من حقه أنْ يسدَّ رمقه ببُلغة طعامٍ فإنْ لم يقدمها له البشرُ وجدها فيهم طعاماً حلالاً طرياً ذاكي الدم . حمحمَ وغمغم الذيب الشامي الغُلامي ففهمتُ أنه يعترض على إفادة أبي زاهد . قلْ يا ذيبُ وكفَّ عن العواء . قال إني أجدُ نفسي في تعارض مطلق مع بيان أخي أبي زاهد ! كيف ، أوضحْ ، قلت له . قال أفلم أكن جائعاً حين صادفتني الطفلة الحلاوية ليلى في الغابة وهي في طريقها لزيارة جدتها العجوز ؟ قلتُ بلى ، قد كنتَ . قال لكني أحجمتُ ولم أفترسها . صدقتَ يا أيها الذيبُ البابلي ، لم تفترسْ ليلى . لكنك يا أيها الذيبُ الشهمُ الشجاعُ لم تقاتل خالها وجبنت عن مصارعته ومنازلته فأهوى على رأسك بفأسه الحادة القاتلة فخررتَ صريعاً دون قتال ! قال بإمتعاضٍ شديد : كنتُ أحسبك أكبرَ وأكثرَ حزماً وفهماً لأمري . كيف يا ذيب الذئاب ، وضّحْ رجاءً . نكّسَ رأسه ومسح دموع عينيه بحافة يشماغه . رفع رأسه ثم قال : لم أستطعْ مجابهةَ خال ليلى وبأسَ فأسه لا عجزاً ولا جبناً ولا تقاعساً عن حقي بالدفاع عن النفس . أصختُ وأصاخَ أبو زاهد السمع . قال : لقد إستخدم الجبان اللئيمُ ليلى درعاً بشرياً يعزله عني ويحميه مني، تماماً كما فعلَ صدام حسين يوماً من أجساد بعض الأسرى والمحتجزين الأجانب. أصابني إذّاك شللٌ تامٌ فلم أتحركْ ولم أهاجم فأقعيتُ على مؤخرتي كأي ثعلب أو كلب أجرب جبان . كان تصوري للموقف أنًّ هذا الخال سوف يتوقف عن رعونته ويقدّر شهامتي وإنسانية موقفي فينسحب دون قتال لكنه ركبَ رأسه وقد رآني بما كنتُ عليه من وضع مستسلم غير هجومي فأهوى على يافوخي بحاد نصل فأسه وأرداني قتيلاً ولكنْ قرباناً وفداءً لليلى عزيزتي . صفقنا طويلاً لهذا الذيب الطيب النادر والغريب الطبع .
مرّت فترةُ صمتٍ طويلة دخّن فيها ذيبُ الذئاب القتيل دفاعاً عن حياة ليلاه ... دخّن الكثير من سجائر اللف والمزبّن حتى توقف ( زنادهُ ) عن أنْ يوري . تلفّتَ يمنةً ويسرة فلم يجد من يسعفه . ما كان أبو زاهد من مدخني السجائر ولم أكنْ أبداً . نهضَ الذئبُ نافضاً ذيلَ عباءته الشامية من نوع { البِشِتْ } السميك فرجوته أن يتريثَ ولا ينصرف عنّا . قال ما خطبكَ وقد بلغتَ بي حالة مأساتي ومكرمتي بشهامتي التي لا يذكرها أحدٌ بكلمة خير ؟ قلتُ بل لديَّ لك سؤال . جلس على مضضٍ وقال هيا قل واختصرْ . يا ذيبُ ، أزاح عباءته عن كتفيه وعدّل من وضعية يشماغه ، فاسترسلتُ قائلاً : هل تجد فرقاً بين ظرف مقتلك ومقتل ذئب الشاعر البحتري ؟ قال بالطبع . الفرق كبير جداً . كيف ؟ البحتري رجلٌ قتل حيواناً جائعاً مشرّداً يطوي البراري والفلوات بحثاً عن طعام يسدُّ به رمقه . قتله دفاعاً عن نفسه ثم إشتواه طعاماً شهيّا لأنه كان مثل ضحيته في حالة جوع شديد .
سما لي وبي من شدّةِ الجوعِ ما بهِ
ببيداءَ لم تُعرفْ بها عيشةٌ رغدُ
كلانا بها ذئبٌ يحدِّثُ نفسَه بصاحبه ...
أستشهدَ ذئبُ البحتري في معركة غير متكافئة أصلاً . كان الشاعر مسلّحاً بأدوات الموت من نبال حديد وأقواس ورماح وسيوف وما كان الذئبُ مسلّحاً إلا بوسائل بدائية هي أسنانه ومخالبه وإنها ليست من الحديد . أما أنا يا صاحبي فأمري غير أمر هذا الذئب . لم أدخلْ في معركة مع خال ليلى إنما إرتضيتُ لنفسي الموتَ ضماناً لسلامة حياة الصبية ليلى . نعم ، كلانا ضحية ولكنا قضينا بأسباب ودوافع وظروف مختلفة . ذاك كان أشجع مني إذْ قاتل دفاعاً عن نفسه ومصالحه في أن يجد شيئاً يأكله ليُديمَ حياته . أما أنا فأفضلُ وأشرف منه لأني ضحيّت بحياتي وقبلتُ الموت لكي لا أتسبب في أذيّة صبيّة بريئة . تأهبَ ثانيةً للنهوض فأشرتُ لأبي زاهد أنْ يقولَ كلمة أخيرة . تردد أبو زاهد قبل أن يسألَ ممازحاً الذئبَ الشهمَ والقديسَ المُضحّي : يا أيها المسيحُ بين ذئاب البشر / قل لنا رجاءً ، إنْ كنتَ فعلاً كما ذكرتَ أنقذتَ حياة ليلى بموتك ، فكيف سوّلتْ لك نفسك إفتراس يوسفَ إبن يعقوب في بعض براري بلاد كنعان ؟ وضع عباءته على كتفيه وهمَّ بالمغادرة قائلاً : معاذَ الله ! إنه ربي أكرمَ مثوايَ فكيف أفترسُ من أكرمني وآواني ؟ ثم ، كيف تقولُ هذا الكلام وأنت تعرفُ أنَّ يوسفَ حيٌّ إبتاعه عزيزُ مصرَ وتعرفُ حكايته الدرامية مع السيدة زُليخا قرينة العزيز العاقر التي راودته عن نفسهِ فهمّت به وهمَّ بها لولا ان رآى برهانَ ربّهِ فقال [[ معاذَ اللهِ ، إنه ربّي أكرمَ مثوايَ ]] . قالَ أفلمْ أقلْ للتوِّ مثلَ هذا القول ؟ صدقتَ يا ذيبُ ، صدقتَ يا ذياب مهدي آل غلام .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق