سيد ماجد مجدلاوي
قارض الشعر شخص مؤمن بالله والملائكة والجن والعفاريت ولا يقبل الخروج عن النص إطلاقا. يعرف أصول الإيمان ، ويحفظ غيبا نصوص الدين والصلوات ، بل وقرض بعضها على بحور الخليل التي يبحر فيها بخفة ومهنية. ولولا زلة صغيرة في سجله الرباني، لعدوه مع الصالحين والمعتمدين.
كان يقف للمصلين بالمرصاد منبها عن الخطأ السائد في حركات الوضوء، ماذا نغسل أولا، وكيف وماذا يجب أن يقول المؤمن... وأضحى حجة في موضوعه ومرجعا موسوعيا متحركا.
لولا زلته، العائق الذي يلاحقه منذ شبابه الباكر لارتفعت أسهمه. الشيطان ضلله فقفز على حمارة . الحمارة هربت مذعورة مما أغضب صاحبها ، فصاح به :
- ركبتها .. صحتين . لكن اربطها أولا يا ابن الناس .. من سيركض وراءها الآن ؟
حقا ربنا غفور رحيم، كتب قصائد على أوزان الخليل بن أحمد إلى الله ليمسح له زلته. حمل تعاويذ من شيوخ أجلاء لتخليصه مما علق فيه ... وبات يذكر اسم الله ألاف المرات في نهاره وليله ويقال انه يصرخ باسم الله حتى في نومه.. وماذا يعمل أكثر ؟ لا يصدقه أحد . قصة الحمارة ركبته وكأنها ولدت معه من المهد ، وسترافقه إلى لحده . ربنا يغفر أما خليقته فلا تغفر. مضت ثلاث عقود على الحادث .. وربما أكثر . هو نسي الحادث ، ولكن سهرات البلد ترويها وتزيد عليها وكأنها هيل للقهوة السادة التي تدور فناجينها على المتسامرين .
عندما أنشئوا ناديا ثقافيا في البلدة ، دعوه ليلقي من قرضه في أمسية الافتتاح . أقيمت منصة في الهواء الطلق ليتسع الاحتفال لجميع أهل البلد .لم يبق رجل أو امرأة أو رضيع أو بهيمة لم تحضر للساحة لتحتفل بمناسبة تحدث كل نصف قرن في بلدة مثل بلده.
في الليلة الموعودة ظهر قارض القريض أنيقا، مما يشكل بحد ذاته إعجازا اجتماعيا. كان يرتدي بنطلونا رماديا مكويا في الناصرة عند "مكوجي " مهني ، وكلفه ستة شواكل كاملة ، وقميصا اشتراه من محلات عمر المختار ، حريريا أبيض اللون ، فبدا مثل البرغوث بصحن اللبن .
قبل أن يحين دوره ، وقعت عيناه على صاحب الحمارة الذي جاء راكبا حمارته ليستمع وتستمع هي أيضا لمن كان قراضة وصار قارضا . كان ينظر إليه ويبتسم . حاول تجاهله ، ولكنه يقترب بوقاحة من المنصة ، أجهده العرق البارد .. وقفز مغادرا المنصة بحجة ارتباطه بموعد سابق هام كاد ينساه ، وقد يعود متأخرا ...
ولكن الجمهور ضج بالضحك ...
في اليوم التالي قرر الصيام والصلاة لرب العالمين من الصبح حتى الليل، وحثه على شطب زلته من يوم الحساب في الآخرة ، ومن ذاكرة أهل البلد وشل ألسنتهم الطويلة.
في اليوم الذي بعده ، قرر أن يواصل الخلوة ، ولكن بجولة في الطبيعة التي خلقها أعظم الخالقين .
دب بحذاء جبلي نمرة 48 في السهول والوديان والهضاب وهو يذكر اسم الله منغما على بحور الخليل التي يعتبر نفسه سيدها بلا منازع .ربما لهذا السبب لم يعد الشعراء في بلادي يكتبون إلا الشعر المنثور .... وإذا تعدوا على بحور القارض يغرقون بأمواجها وحواماتها .
عندما لم تعد قدماه تقويان على حمله قرر الجلوس على حافة بئر ما زال قائما في وسط قرية مهدومة ومهجرة .
فتحة البئر غير مغطاة لسبب لا يدريه ، وكل ما هنالك تحذير من الاقتراب وخطر السقوط . ولكن الله قوى عزمه وثقته فجلس يستعيد طاقته ليواصل خلوته ودعواته .. ويبدو أن الإرهاق كان شديدا ، وهبت عليه نسمات فيها بروده .. ولا يعرف كيف غاب في غفوة .
وفجأة فقد توازنه .. فارتطم رأسه بحافة البئر ، ولم يجد ما يتشبث به ليمنع سقوطه ، فهوى داخل البئر وهو يصرخ بأعلى صوته :" رحمتك يا رب " فإذا الرحمة لا تتأخر فيتعثر في سقوطه بجذع بارز على عمق عشرين مترا أو أكثر داخل البئر ، مما منع ارتطامه بالقاع ، والتحطم أو الغرق ..
قبض على الجذع بقوة ذراعيه ، وبدأ يصرخ لرحمة أخرى من الله تخرجه من هذا المأزق .. وبنفس الوقت ينادي لعل عابر سبيل يسمعه فيمد، بمعونة الله .. حبلا يصعد به إلى خارج البئر. كان واثقا أن الله لا يخذل المؤمنين ..
- عونك يا رب .. أنقذ عبدك المؤمن في محنته .
ويصيح يائسا مرعوبا من أن يحدث ما هو أسوأ فلا يحمله الجذع أو لا تصمد قبضتيه فيهوى إلى القاع. واعترته فكرة أرعبته أن يكون ما يحدث له أمر رباني لنقله من الحياة الفانية إلى جنة الخلد . طرد الفكرة من رأسه وعاد يصرخ :
- يوجد أحد فوق ؟ أنا سقطت داخل البئر . أنقذ عبدك المؤمن يا الله ..
نظر إلى أعلى فلم ير إلا فتحة البئر وعبرها قطعة من السماء الزرقاء .
وفجأة يرعد صوتا يهز الأرض وضوء شديد يبهر عينيه:
- إنا ربك موجود هنا ، اترك جذع الشجرة وسوف أنقذك.
القارض مؤمن .. ويعرف اعجازات الرب الكثيرة .. وما سمعه سيكون إعجازا حقا.. ولكنه فكر بعقله .. إن ترك الجذع دون أن يمسك بما يساعده على الخروج ، سوف يجعله يسقط بالتأكيد .
ولكن الصوت حقيقة مؤكدة .. فكر .. وصاح بأعلى صوته مصرا على التشبث بالجذع :
- هل يوجد شخص آخر فوق ؟!
• قاص فلسطيني من مجدل غزة ، يقيم في اللد مؤقتا.
saidmajdalawi@gmail.com
قارض الشعر شخص مؤمن بالله والملائكة والجن والعفاريت ولا يقبل الخروج عن النص إطلاقا. يعرف أصول الإيمان ، ويحفظ غيبا نصوص الدين والصلوات ، بل وقرض بعضها على بحور الخليل التي يبحر فيها بخفة ومهنية. ولولا زلة صغيرة في سجله الرباني، لعدوه مع الصالحين والمعتمدين.
كان يقف للمصلين بالمرصاد منبها عن الخطأ السائد في حركات الوضوء، ماذا نغسل أولا، وكيف وماذا يجب أن يقول المؤمن... وأضحى حجة في موضوعه ومرجعا موسوعيا متحركا.
لولا زلته، العائق الذي يلاحقه منذ شبابه الباكر لارتفعت أسهمه. الشيطان ضلله فقفز على حمارة . الحمارة هربت مذعورة مما أغضب صاحبها ، فصاح به :
- ركبتها .. صحتين . لكن اربطها أولا يا ابن الناس .. من سيركض وراءها الآن ؟
حقا ربنا غفور رحيم، كتب قصائد على أوزان الخليل بن أحمد إلى الله ليمسح له زلته. حمل تعاويذ من شيوخ أجلاء لتخليصه مما علق فيه ... وبات يذكر اسم الله ألاف المرات في نهاره وليله ويقال انه يصرخ باسم الله حتى في نومه.. وماذا يعمل أكثر ؟ لا يصدقه أحد . قصة الحمارة ركبته وكأنها ولدت معه من المهد ، وسترافقه إلى لحده . ربنا يغفر أما خليقته فلا تغفر. مضت ثلاث عقود على الحادث .. وربما أكثر . هو نسي الحادث ، ولكن سهرات البلد ترويها وتزيد عليها وكأنها هيل للقهوة السادة التي تدور فناجينها على المتسامرين .
عندما أنشئوا ناديا ثقافيا في البلدة ، دعوه ليلقي من قرضه في أمسية الافتتاح . أقيمت منصة في الهواء الطلق ليتسع الاحتفال لجميع أهل البلد .لم يبق رجل أو امرأة أو رضيع أو بهيمة لم تحضر للساحة لتحتفل بمناسبة تحدث كل نصف قرن في بلدة مثل بلده.
في الليلة الموعودة ظهر قارض القريض أنيقا، مما يشكل بحد ذاته إعجازا اجتماعيا. كان يرتدي بنطلونا رماديا مكويا في الناصرة عند "مكوجي " مهني ، وكلفه ستة شواكل كاملة ، وقميصا اشتراه من محلات عمر المختار ، حريريا أبيض اللون ، فبدا مثل البرغوث بصحن اللبن .
قبل أن يحين دوره ، وقعت عيناه على صاحب الحمارة الذي جاء راكبا حمارته ليستمع وتستمع هي أيضا لمن كان قراضة وصار قارضا . كان ينظر إليه ويبتسم . حاول تجاهله ، ولكنه يقترب بوقاحة من المنصة ، أجهده العرق البارد .. وقفز مغادرا المنصة بحجة ارتباطه بموعد سابق هام كاد ينساه ، وقد يعود متأخرا ...
ولكن الجمهور ضج بالضحك ...
في اليوم التالي قرر الصيام والصلاة لرب العالمين من الصبح حتى الليل، وحثه على شطب زلته من يوم الحساب في الآخرة ، ومن ذاكرة أهل البلد وشل ألسنتهم الطويلة.
في اليوم الذي بعده ، قرر أن يواصل الخلوة ، ولكن بجولة في الطبيعة التي خلقها أعظم الخالقين .
دب بحذاء جبلي نمرة 48 في السهول والوديان والهضاب وهو يذكر اسم الله منغما على بحور الخليل التي يعتبر نفسه سيدها بلا منازع .ربما لهذا السبب لم يعد الشعراء في بلادي يكتبون إلا الشعر المنثور .... وإذا تعدوا على بحور القارض يغرقون بأمواجها وحواماتها .
عندما لم تعد قدماه تقويان على حمله قرر الجلوس على حافة بئر ما زال قائما في وسط قرية مهدومة ومهجرة .
فتحة البئر غير مغطاة لسبب لا يدريه ، وكل ما هنالك تحذير من الاقتراب وخطر السقوط . ولكن الله قوى عزمه وثقته فجلس يستعيد طاقته ليواصل خلوته ودعواته .. ويبدو أن الإرهاق كان شديدا ، وهبت عليه نسمات فيها بروده .. ولا يعرف كيف غاب في غفوة .
وفجأة فقد توازنه .. فارتطم رأسه بحافة البئر ، ولم يجد ما يتشبث به ليمنع سقوطه ، فهوى داخل البئر وهو يصرخ بأعلى صوته :" رحمتك يا رب " فإذا الرحمة لا تتأخر فيتعثر في سقوطه بجذع بارز على عمق عشرين مترا أو أكثر داخل البئر ، مما منع ارتطامه بالقاع ، والتحطم أو الغرق ..
قبض على الجذع بقوة ذراعيه ، وبدأ يصرخ لرحمة أخرى من الله تخرجه من هذا المأزق .. وبنفس الوقت ينادي لعل عابر سبيل يسمعه فيمد، بمعونة الله .. حبلا يصعد به إلى خارج البئر. كان واثقا أن الله لا يخذل المؤمنين ..
- عونك يا رب .. أنقذ عبدك المؤمن في محنته .
ويصيح يائسا مرعوبا من أن يحدث ما هو أسوأ فلا يحمله الجذع أو لا تصمد قبضتيه فيهوى إلى القاع. واعترته فكرة أرعبته أن يكون ما يحدث له أمر رباني لنقله من الحياة الفانية إلى جنة الخلد . طرد الفكرة من رأسه وعاد يصرخ :
- يوجد أحد فوق ؟ أنا سقطت داخل البئر . أنقذ عبدك المؤمن يا الله ..
نظر إلى أعلى فلم ير إلا فتحة البئر وعبرها قطعة من السماء الزرقاء .
وفجأة يرعد صوتا يهز الأرض وضوء شديد يبهر عينيه:
- إنا ربك موجود هنا ، اترك جذع الشجرة وسوف أنقذك.
القارض مؤمن .. ويعرف اعجازات الرب الكثيرة .. وما سمعه سيكون إعجازا حقا.. ولكنه فكر بعقله .. إن ترك الجذع دون أن يمسك بما يساعده على الخروج ، سوف يجعله يسقط بالتأكيد .
ولكن الصوت حقيقة مؤكدة .. فكر .. وصاح بأعلى صوته مصرا على التشبث بالجذع :
- هل يوجد شخص آخر فوق ؟!
• قاص فلسطيني من مجدل غزة ، يقيم في اللد مؤقتا.
saidmajdalawi@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق