ترجمة وتعليق زهير الخويلدي
"إن ابن خلدون كان مكتشفا لأخطر ظاهرة في عصرنا وهي ظاهرة التخلف وعالجها بأسلوبنا الحديث فكان زميلا لنا ومعلما" ايف لاكوست
"بعض المختصين يعتبرون ابن خلدون بوصفه مكتشف علم الاجتماع. والمؤلفات التي كتبها حول التاريخ الكوني تبرز بشكل حديث جدا مفهوم الحضارة. ابن خلدون امتلك الإحساس بالوحدة العضوية لمجتمع ما، وكل عنصر أو بعد تم اعتبارهما في علاقة ضرورية مع العناصر والأبعاد الأخرى، علاوة على أن صيرورته تغذيها سببية نوعية. لقد عاش في القرن الرابع عشر وكان آخر مفكر كبير للإسلام. في الأثناء اتجهت أوروبا بواسطة علمها وتقنيتها إلى غزو الأرض. انه في هذه اللحظة بالذات التي غطس فيها العالم الإسلامي في ليل فكري حيث لن يخرج البتة"[1]
هذا النص الذي نقلته إلى العربية من الفرنسية خطير بكل ما في الكلمة من المعنى ويعبر عن تمركز لوغووسي واثني وثقافي غير مبرر في زمن العولمة لأنه نشر مؤخرا وبعد مراجعات عديدة قام بها الفكر الغربي لنفسه وادعائه العزم على تلطيف النظرة إلى الآخر والتشريع إلى التنوع والاختلاف وتوجهه نحو إجراء حلقات من الحوارات مع الثقافات والأديان واللغات المغايرة وظل يتبنى نفس الذهنية التي تنظر إلى الآخر من زاوية الشرفة المتعالية وتتحكم فيه عقدة التفوق والكبرياء. وخطورته تتمثل في توجهه نحو الاستهلاك العمومي وحكمه المسبق على العالم الإسلامي كونه غطس في الظلام ولن يعود إليه النور وكون ابن خلدون هو آخر مفكر عرفه الإسلام وأنه اختص بالتاريخ والاجتماع والحضارة في حين أن هذا الأخير اختص في مجالات من بينها اللغة والتربية والفن والصناعة وترك وراءه نظرة موسوعية أثرت في رواد النهضة الأولى أيما تأثير وساهمت مدونته في بناء الثقافة الرسمية لمعظم الدول العربية المستقلة.
إن ابن خلدون مفكر عالمي وليس مجرد باحث إسلامي وان الفكر في حضارة اقرأ لم ينقطع بموت ابن خلدون بل تواصل وتطور في قطاعات علمية أخرى بشكل لافت وان العالم الإسلامي خرج من عصور الانحطاط مرات عديدة وأنه وجد العديد من العلماء والمفكرين والفلاسفة ورجال الإصلاح والتربية وان هذا العالم الآن هو بصدد الإعداد للاستئناف الثاني على الصعيد الكوني. إن أهمية ابن خلدون ليس فقط من جهة التاريخ والعمران بل من جهة الأخلاق والسياسة لأن نظرته الواقعية مكنته من فهم طبيعة الملك وعلاقة الروحي بالدنيوي وتفسير كيفية انتقال الدول من البداوة الى الحضارة ووضع قانون يحدد المراحل والأطوار التي تمر بها كل دولة وهي خمسة:
- "الطور الأول: طور الظفر بالبغية وغلب المدافع والممانع والاستيلاء على الملك وانتزاعه من أيدي الدولة...
- الطور الثاني: طور الاستبداد على قومه والانفراد دونهم بالملك وكبحهم عن التطاول للمساهمة والمشاركة...
- الطور الثالث: طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك مما تنزع طباع البشر إليه من تحصيل المال وتخليد الآثار وبعد الصيت، فيستفرغ وسعه في الجباية وضبط الدخل والخرج وإحصاء النفقات والقصد فيها وتشييد المباني الحافلة والمصانع العظيمة والأمصار المتسعة والهياكل المرتفعة وإجازة الوفود من أشراف الأمم ووجوه القبائل، وبث المعروف في أهله...
- الطور الرابع: طور القنوع والمسالمة: ويكون صاحب الدولة في هذا قانعا بما بنى أولوه سلما لأنظاره من الملوك وأقتاله مقلدا للماضين من سلفه فيتبع آثارهم حذو النعل بالنعل ويقتفي طرقهم بأحسن مناهج الاقتداء. ويرى أن في الخروج عن تقليدهم فساد أمره وأنهم أبصر بما بنوا من مجده.
- الطور الخامس: طور الإسراف والتبذير ويكون صاحب الدولة في هذا الطور متلفا لما جمع أولوه في سبيل الشهوات والملاذ والكرم على بطانته..."[2]
هذا هو ابن خلدون عالم الأنثربولوجيا السياسية يؤرخ لأطوار صعود الدول وانحطاطها ويحذر بأن الحضارة لا تدوم والدور يعود على الجميع وينبه أن المسألة الأساسية ليست في البحث عن الشروط المساعدة على السؤدد بل عن الشروط المبعدة للانحطاط والتخلف، فمتى تتخلى المؤلفات التاريخية الغربية عن التمركز على الذات وتحترم القيم الكونية التي بشرت بها العالم وتعمل على إنصاف للآخرين في الحكم على القيمة والرتبة؟ وألا ينبغي أن يفهم الآخر أن ابن خلدون ليس الشعلة الأخيرة؟ فما رأيه أن يتدبر هذا القول من المقدمة:" وأهل الدول أبدا يقلدون في طور الحضارة وأحوالها للدولة السابقة قبلهم فأحوالهم يشاهدون ومنهم في الغالب يأخذون. ومثل هذا وقع للعرب لما كان الفتح وملكوا فارس والروم واستخدموا بناتهم وأبناءهم، ولم يكونوا لذلك العهد في شيء من الحضارة"[3]؟ أليست هذه دعوة نحو التواضع والتثاقف؟
المراجع:
عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، تحقيق سعيد محمود عقيل، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 2005
Christian Godin, la philosophie, Antiquité, moyen Age et renaissance, pour les nuls, First- Editions, 2008
-------------------------------------
[1] Christian Godin, la philosophie, Antiquité, moyen Age et renaissance, pour les nuls, First- Editions, 2008,p.314.
[2] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، تحقيق سعيد محمود عقيل، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 2005، ص.ص. 162-163.
[3] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، تحقيق سعيد محمود عقيل، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 2005، ص.159.
"إن ابن خلدون كان مكتشفا لأخطر ظاهرة في عصرنا وهي ظاهرة التخلف وعالجها بأسلوبنا الحديث فكان زميلا لنا ومعلما" ايف لاكوست
"بعض المختصين يعتبرون ابن خلدون بوصفه مكتشف علم الاجتماع. والمؤلفات التي كتبها حول التاريخ الكوني تبرز بشكل حديث جدا مفهوم الحضارة. ابن خلدون امتلك الإحساس بالوحدة العضوية لمجتمع ما، وكل عنصر أو بعد تم اعتبارهما في علاقة ضرورية مع العناصر والأبعاد الأخرى، علاوة على أن صيرورته تغذيها سببية نوعية. لقد عاش في القرن الرابع عشر وكان آخر مفكر كبير للإسلام. في الأثناء اتجهت أوروبا بواسطة علمها وتقنيتها إلى غزو الأرض. انه في هذه اللحظة بالذات التي غطس فيها العالم الإسلامي في ليل فكري حيث لن يخرج البتة"[1]
هذا النص الذي نقلته إلى العربية من الفرنسية خطير بكل ما في الكلمة من المعنى ويعبر عن تمركز لوغووسي واثني وثقافي غير مبرر في زمن العولمة لأنه نشر مؤخرا وبعد مراجعات عديدة قام بها الفكر الغربي لنفسه وادعائه العزم على تلطيف النظرة إلى الآخر والتشريع إلى التنوع والاختلاف وتوجهه نحو إجراء حلقات من الحوارات مع الثقافات والأديان واللغات المغايرة وظل يتبنى نفس الذهنية التي تنظر إلى الآخر من زاوية الشرفة المتعالية وتتحكم فيه عقدة التفوق والكبرياء. وخطورته تتمثل في توجهه نحو الاستهلاك العمومي وحكمه المسبق على العالم الإسلامي كونه غطس في الظلام ولن يعود إليه النور وكون ابن خلدون هو آخر مفكر عرفه الإسلام وأنه اختص بالتاريخ والاجتماع والحضارة في حين أن هذا الأخير اختص في مجالات من بينها اللغة والتربية والفن والصناعة وترك وراءه نظرة موسوعية أثرت في رواد النهضة الأولى أيما تأثير وساهمت مدونته في بناء الثقافة الرسمية لمعظم الدول العربية المستقلة.
إن ابن خلدون مفكر عالمي وليس مجرد باحث إسلامي وان الفكر في حضارة اقرأ لم ينقطع بموت ابن خلدون بل تواصل وتطور في قطاعات علمية أخرى بشكل لافت وان العالم الإسلامي خرج من عصور الانحطاط مرات عديدة وأنه وجد العديد من العلماء والمفكرين والفلاسفة ورجال الإصلاح والتربية وان هذا العالم الآن هو بصدد الإعداد للاستئناف الثاني على الصعيد الكوني. إن أهمية ابن خلدون ليس فقط من جهة التاريخ والعمران بل من جهة الأخلاق والسياسة لأن نظرته الواقعية مكنته من فهم طبيعة الملك وعلاقة الروحي بالدنيوي وتفسير كيفية انتقال الدول من البداوة الى الحضارة ووضع قانون يحدد المراحل والأطوار التي تمر بها كل دولة وهي خمسة:
- "الطور الأول: طور الظفر بالبغية وغلب المدافع والممانع والاستيلاء على الملك وانتزاعه من أيدي الدولة...
- الطور الثاني: طور الاستبداد على قومه والانفراد دونهم بالملك وكبحهم عن التطاول للمساهمة والمشاركة...
- الطور الثالث: طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك مما تنزع طباع البشر إليه من تحصيل المال وتخليد الآثار وبعد الصيت، فيستفرغ وسعه في الجباية وضبط الدخل والخرج وإحصاء النفقات والقصد فيها وتشييد المباني الحافلة والمصانع العظيمة والأمصار المتسعة والهياكل المرتفعة وإجازة الوفود من أشراف الأمم ووجوه القبائل، وبث المعروف في أهله...
- الطور الرابع: طور القنوع والمسالمة: ويكون صاحب الدولة في هذا قانعا بما بنى أولوه سلما لأنظاره من الملوك وأقتاله مقلدا للماضين من سلفه فيتبع آثارهم حذو النعل بالنعل ويقتفي طرقهم بأحسن مناهج الاقتداء. ويرى أن في الخروج عن تقليدهم فساد أمره وأنهم أبصر بما بنوا من مجده.
- الطور الخامس: طور الإسراف والتبذير ويكون صاحب الدولة في هذا الطور متلفا لما جمع أولوه في سبيل الشهوات والملاذ والكرم على بطانته..."[2]
هذا هو ابن خلدون عالم الأنثربولوجيا السياسية يؤرخ لأطوار صعود الدول وانحطاطها ويحذر بأن الحضارة لا تدوم والدور يعود على الجميع وينبه أن المسألة الأساسية ليست في البحث عن الشروط المساعدة على السؤدد بل عن الشروط المبعدة للانحطاط والتخلف، فمتى تتخلى المؤلفات التاريخية الغربية عن التمركز على الذات وتحترم القيم الكونية التي بشرت بها العالم وتعمل على إنصاف للآخرين في الحكم على القيمة والرتبة؟ وألا ينبغي أن يفهم الآخر أن ابن خلدون ليس الشعلة الأخيرة؟ فما رأيه أن يتدبر هذا القول من المقدمة:" وأهل الدول أبدا يقلدون في طور الحضارة وأحوالها للدولة السابقة قبلهم فأحوالهم يشاهدون ومنهم في الغالب يأخذون. ومثل هذا وقع للعرب لما كان الفتح وملكوا فارس والروم واستخدموا بناتهم وأبناءهم، ولم يكونوا لذلك العهد في شيء من الحضارة"[3]؟ أليست هذه دعوة نحو التواضع والتثاقف؟
المراجع:
عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، تحقيق سعيد محمود عقيل، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 2005
Christian Godin, la philosophie, Antiquité, moyen Age et renaissance, pour les nuls, First- Editions, 2008
-------------------------------------
[1] Christian Godin, la philosophie, Antiquité, moyen Age et renaissance, pour les nuls, First- Editions, 2008,p.314.
[2] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، تحقيق سعيد محمود عقيل، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 2005، ص.ص. 162-163.
[3] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، تحقيق سعيد محمود عقيل، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 2005، ص.159.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق