الخميس، فبراير 05، 2009

أيها الجذع الذي شحذنا عليه المناقير, وداعا

د. حبيب بولس
محمود أمين العالم رائد فذ من رواد الحداثة والنقد الأدبي النظري والتطبيقي, ينفلش عطاؤه على مساحة زمنية واسعة, حيث بدأت منذ أواخر الحرب الكونية الثانية وظلت تتدفق حتى وفاته عام (2009) العالم يعتبر أستاذا للعديد من الدارسين والأكاديميين والمهتمين في مجال الفكر والأدب, وعلما تذيع صيته واخترق العالم العربي من المحيط إلى المحيط, وذلك لما له من إضافات نظرية ومن جديد دائم في عالم الأدب والنقد والفكر, ونحن نجلّ هذا العطاء ونكبره لدوره الريادي والكبير في صقل معرفتنا وتوجيهها وترشيدها.
"العالم" ركيزة أساسية وعمود شامخ طالما شحذنا عليه المناقير في بداية حياتنا الأدبية وخلال مسيرتها الشاقة, قد أنار أحداقنا بما لديه من قدرة تنظيرية وتحليلية سليمة وبما قدمه من رؤى ثورية صحيحة خاصة في مجال الأدب التخييلي- القصة الرواية\ المسرحية- وكل ذلك بلغة بسيطة تخلو من البهرجة والتقعر والتعقيد- آفة المنظرين عادة- حيث يقدم منظوره بلا مكيجة ولا أصباغ- وبلا لف أو دوران, يشدك إليه بكلمات دافقة دافئة مأنوسة يجعلها رافعة لتتبناها أو على الأقل لتتفق معه في الكثير الكثير من الطروحات.
كانت طلقة العالم النقدية الأولى عام (1955), حين أصدر مع صديقه عبد العظيم أنيس كتاب في الثقافة المصرية, الكتاب الذي جاء لينقد النظريات الغائمة والغيبية والضبابية وليجذر ويؤصل لمذهب جديد في النقد ينسف ما سبق أو ما درجنا عليه بعد الحرب الثانية. ففي تلك السنوات دخل العالم العربي في صراع ثقافي أدبي وفكري, واحتدمت الساحة بالعديد من المعارك, ومرت بالكثير من الاجتهادات, واختلطت الطروحات والتيارات, وتنوعت وجهات النظر, وتأرجح النقد والتقويم الأدبي بين مذاهب ومدارس عديدة مستنسخة عن أوروبا, وتمحور العراك الأدبي بين بنيوية ووجودية وجمالية, ومتيا فيزيقية, وإنسانية, ورومانسية, فظهرت أصوات كثيرة تنادي بإتباع هذا المذهب أو ذاك, وتشيّع الأدباء وانقسموا, الأمر الذي جعل الأديب والقارئ يحاران معا ويلتبس عليهم, بسبب هذا الخلط بحيث ما عاد بالمقدور مواكبة هذا الكم الوافد والمزيج الغريب الهجين, إلى أن جاء كتاب في الثقافة المصرية, فرجّ ساحة الأدب والثقافة بطروحاته الجريئة المبنية على الأسس الواقعية الداعية إلى تبني المذهب والمنهج الواقعي مسفهة كل ما هو خارج عن الدلالة الاجتماعية, وكل ما يعزل النص الأدبي عن سياقه الاجتماعي والتاريخي والثقافي والإنساني, هذا الكتاب الذي حدد الأمور وفرزها ووضعها في نصابها الصحيح, جوبه في حينه بعاصفة من النقد والاتهامات, بدعوى أن صاحبيه يدعوان إلى تغليب الأدب والى تغليب المضمون والسياق السياسي الاجتماعي على النقد الأدبي الذي كان هو نفسه آنذاك فصيلا من فصائل الصراع الأيديولوجي.
هذا الكتاب الثورة في حينه فتح الباب للعالم على مصراعيه فولج منه بثبات واقتناع رغم كل الخصوم. وللحقيقة أقول: إن ما جاء به العالم من طروحات نقدية نظرية في حينه لاءم العالم العربي الذي كان يتأهب في قسم منه ويبدأ في آخر لثورة سياسية اجتماعية ثقافية أدبية. واضح أن الكتاب متأثر جدا بالواقعية الاشتراكية الروسية التي رأى فيها العالم نموذجه, ولكن رغم تشيعه لهذا المبدأ لم يعكسه مراويا في تنظيره ولم يستنسخه آليا في تطبيقه, بل طوعه ليلاءم الأدب العربي ضاخا فيه الكثير من عندياته, ومرتكزا في العديد على التراث العربي الضخم وماتحا من حاضر الحركة الفكرية والأدبية العربية. وكان لهذا أكبر الأثر على العديد من الدارسين والنقاد وعلى رأسهم "حسين مروه" الذي أكمل الحلقة بكتابيه الرائعين دراسات نقدية على ضوء المنهج الواقعي. والنزعات المادية في الإسلام, وكذلك محمد دكروب والياس خوري ويمنى العيد وغيرهم. العالم لم يلج عالم الفكر والأدب إلا بعد أن تسلح بالنظريات الفلسفية والأدبية, وذلك من خلال دراسته في السور بون في باريس, الجامعة التي كانت تمور فيها أيامه أحدث النظريات.
إلى جانب عطائه الأدبي والفكري والثقافي لم يقف العالم متفرجا ولم يأسر نفسه في قفص من زجاج يطل منه على مجتمعه من خلفه, بل كان مشاركا فعالا في صنع مستقبل شعبه وفي بناء كينونته الحضارية والأدبية والثقافية, ولأنه كذلك كان دفع الثمن غاليا.
الأديب ابن واقعه: امن العالم أن الأديب الحق لا يمكن أن يقف خارج أحداث عصره, لأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش في مجتمع وأن يكون حرا من هذا المجتمع في آن معا, امن بأن الأديب الحق هو ليس ذلك الأديب الذي يجلس على مقعد وثير ويحتج. فالأدب الثوري عنده ليس قطيعة مع الواقع وإلا سقط في العدمية. الأديب الأصيل يستطيع استخدام كل المعطيات الإيجابية في تأريخ شعبه لينطلق ويتجاوزها في الوقت نفسه, وهو يعيد صياغتها من جديد مركزا على مضمونها الفكري والاجتماعي. امن العالم بأن الأدب شكل من أشكال الوعي, وما يحدد الوعي هو الوجود الاجتماعي, لذلك يجب على العمل الأدبي أن يكون نابعا من جذور المجتمع وتعبيرا عن مشاكله الراهنة, وليس مطلا عليه من عل وإلا كان هجينا. الإنسان محصلة اجتماعية, لذلك فان مستوى العلاقات الاقتصادية والأيديولوجية هو الذي يحدد نفسية الأديب وتركيبها العاطفي, وبنيانه الفكري, وبالتالي أيضا يحدد أعماله الفنية, ولكن ربط الإبداع بهذه العلائق لا ينبغي أن يفهم وأن يطبق بشكل ميكانيكي بل ديالكتيكي.
من هنا استمد العالم منظوره, ولكن للموضوعية أقول انه لم يعلب نفسه ولم يحصرها ضمن هذا الإطار, بل كان على مدى أكثر من نصف قرن أو يزيد يرقب ويعاين المستجدات ويجدد ويتجدد, لذلك عانت تجربته النقدية من انقطاعين:
انقطاع زمني هو نفسه انقطاع منهجي نسبي. كان الانقطاع الأول بسبب غيبة داخل مصر, على حين الانقطاع الثاني كان بسبب غربة خارج مصر, وقد شكل الانقطاع بمرحلتين انقطاعا منهجيا نسبيا في مستوى الممارسة النقدية بين المرحلة السابقة على الانقطاع الأول بين عامي (1964-1977) وبين مستواها كذلك عقب هذا الانقطاع الثاني أي منذ (1985) إلى الآن.
إن غيبته داخل مصر وغربته خارجها أتاحتا له اطلاعا واسعا على جديد النظريات والتطبيقات في الأدب والنقد, بالإضافة إلى السياق السياسي والاجتماعي والتاريخي الذي اختلف على طول هذه المساحة الزمنية.
في المرحلة الأولى ويمثلها كتاب في الثقافة المصرية (1955), كانت الممارسة النقدية تتم في سياق محتدم بالأحداث والصراعات الوطنية والاجتماعية والديمقراطية والقومية العاصفة, وانعكس هذا على الجانب التحليلي والتقييمي للممارسة النقدية.
المرحلة الثانية, رغم كونها امتدادا للأولى برؤيتها الدلالية الاجتماعية للإبداع الأدبي حاول فيها تعميق القدرة على تحديد واكتشاف البنية الفنية والقيمة الجمالية ويمثلها كتاب تأملات في عالم نجيب محفوظ (1970).
أما المرحلة الثالثة فقد كانت امتدادا للثانية من حيث الحرص على الدلالة الاجتماعية, ولكنها انضج من حيث أصبحت أكثر تطورا في القدرة على تحديد واكتشاف البنية الفنية والقيمة الجمالية, ولقد استفادت من استيعاب وتمثيل لبعض المناهج النقدية الجديدة ولكن دون أن تتبناها وأن تقف عندها جامدة, يمثلها كتاب ثلاثية الرفض والهزيمة.
رحلة نقدية وثلاث مراحل: وخلاصة القول إن رحلة العالم النقدية والنظرية التطبيقية عبر أكثر من نصف قرن مرت بمراحل ثلاث تتسم بالاتصال والانقطاع في آن معا: الأولى: هي مرحلة الازدواج بين رؤية نظرية نقدية من ناحية وعدم القدرة على تطبيق هذه الرؤية بشكل صحيح في العملية النقدية من أخرى, مما جعل الممارسة النقدية يغلب عليها طابع التعميم والتوجيه السياسي والاجتماعي. أما الثانية, فهي نقلة أكثر نضجا من الأولى تتسم بمحاولة الاقتراب من إزالة هذا الازدواج. ثم الثالثة, التي تعد أعمق غوصا في محاولة التعرف وتحديد تضاريس البنية الفنية والدلالة العامة من علاقة حميمية.
وبناء على ما تقدم وجدنا العالم يتربع مع عدد قليل على قمة النقد الأدبي تنظيرا وتطبيقا, ويدعى للمشاركة في عدد كبير من المؤتمرات العالمية والعربية التي عالجت الأدب التخييلي.
على الصعيد الإنساني: هذا كله على الصعيد الأدبي والفكري والمعرفي أما على الصعيد الإنساني, فقد كان لي شرف الالتقاء به أكثر من مرة, الأولى كانت في القاهرة (1987), حيث دعيت للحديث عن انتفاضة الأهل في فلسطين في ندوة أدبية ثقافية, شارك فيها العديد من أدبائنا ومفكرينا وفنانينا الكبار, أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر عبد العظيم أنيس, محمود أمين العالم, لطيفة الزيات, الطاهر وطار, انجي أفلاطون, رضوى عاشور, فريدة النقاش ومريد البرغوثي. وهناك تعرفت على هذا المفكر الكبير عن كثب ولمست فيه جوانب إنسانية وشت بعبقريته منها: الطيبة والصدق والدماثة والتواضع والانفتاح. ثم كان اللقاء الثاني في باريس في مؤتمر عن القضية الكردية,حيث أوفدت عام (1992) ممثلا لاتحاد الكتاب العرب برئاسة سميح القاسم في حينه, وهناك في باريس أخذني العالم في جولة في معالم باريس مرتع شبابه, تعرفت أثناءها على جوانب إنسانية أرحب كامنة فيه, واكتشفت التزامه الوطني الصادق واهتمامه الكبير بالقضية الفلسطينية وحبه العظيم لشعبنا ومواكبته لنتاجاتنا الأدبية والفكرية.
أستاذنا الكبير محمود أمين العالم, نحن نعتبر أنفسنا تلاميذك, لا بل أنت أستاذنا الأول الذي سدد خطانا وأنار أحداقنا. نحن هنا نعزك ونجل عطاءك, ونكبر دورك الأدبي والفكري, ونعرف جيدا أنك وأنت تعطي لم تكن تتغيا مردودا ولا شهرة, إنما أعطيت عن إيمان وإخلاص صادقين بأهمية وعظمة الكلمة. أنت كنت البيادر الفسيحة التي حبونا عليها إلى أن اشتد عودنا, وكنت الصخرة الصلبة التي شحذنا عليها المناقير, حيث اصلبت أدواتنا الفكرية والأدبية والنضالية.
وحين عرفنا بنيلك جائزة الدولة التقديرية عام 1999, اخترقتنا الفرحة العارمة, مع علمنا أنك تستحقها منذ زمن بعيد, ومع علمنا أيضا أن الجائزة لن تضيف لك مركزا ولا شهرة ولا شرفا, لأنك بعطائك, بصدقك, بنضالك, بإخلاصك, برؤاك, أنت أكبر منها, وأنت تشرفها.
واليوم مع رحيلك لا يسعنا إلا أن أقول: رحيلك خسارة فادحة للأدب وللفكر وللنقد, لكنها مشيئة الحياة.
كفاك فخرا ما أحدثته في العالمين الأدبي والفكري من تغير وتطور.
كفاك فخرا هذه القائمة الطويلة ممن درسوا على إبداعك وأفكارك, كفاك فخرا انك بما قدمت كنت المثال والقدوة, فنم قرير العين.

حبيب بولس – ناقد أدبي ، محاضر في مادة الأدب العربي في الكلية العربية للتربية في حيفا وكلية اورانيم الأكاديمية

drhbolus@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: