خالد ساحلي
يبدو الكوخ الصغير ملاذا آمنا من سخرية تلوكها الألسن هناك في المدينة التي ودعتها بقلب بارد كالصقيع غير آسف. لست نادما عن قرارك الأخير لمفارقتك أهلها الظالمين. دخلتها وكلّك همة الملوك و الفاتحين وغادرتها كنبي مكروه أخرجه قومه قهرا وعنفا؛ سخطا و سفاهة على ما اعتقدوه بدعة. لست الأول من يناله الأذى و لن تكون الأخير من تقبل عليه الظروف بحالكات شقائها، تكبدبت هزائم كبيرة. لا تعتقد الظروف أقدارا بقدر ما هي عوائق تصنعها أيدي البشر وتتيحها لإحداث خسائر وأضرار نفسية جسيمة. لم ترضى عن نفسك قط، لم ترضى بالوجود الذي أنت فيه. شكّكّت في أقدار الناس وحملت الخطر. لا تدري وقتها أنك لبست اللعنة الأبدية، لو فعلت أي شيء إلا هذا الذي فكرت فيه وقتئذ. عيبك كبير. أيقظت شياطين تعبث معها ، لن تتركك، ارتبطت معك للأبد. لم يكن محتم عليك التفكر في معرفة نفسك ودعوة غيرك لذلك. تريد البحث عن حل لآفة خسر غيرك لأجلها الكثير. لا تود تذكر المزيد، ذكرياتك كحولا على قلبك المجروح ، ستمنحك بدل الراحة مزيدا من ضعف بالتفافك للوراء. يكفيك أنهم منحوك مرتبا غير قابلا للاقتطاع وعطلة مرضية دائمة. أنت لست مريضا برغم تناولك لهذه الحبوب السامة القاتلة . لست مريضا حتى و لو أعتبرك الجميع كذلك. هم بكثير من الريبة ينضرون إليك، يكادون يزلقونك بعيونهم المتلصصة الممزوجة بالشماتة. يتصرفون معك بحذر كبير، يجاملونك أحيانا ويتحاشون مقابلتك ولقائك. منهم من أعتبرك مجنونا ومنهم من قال غير ذلك، أعتبر حالتك مرضا نفسيا مشكلة خطرا على طلبتك وعلى المحيطين بك. كتبوا تقاريرهم الكثيرة المطولة عن سلوكك العدواني على بعضهم وعلى تلقينك الدروس الداخلة في باب الحرام من الكفر. تدعو للخروج من الملة، قالوا أن فيها أسرارا من التهاويل المحاطة بالأكاذيب المشحونة بالهبل. عرفت يوم رجوعك من البلاد الغريبة أن مفهوم التحريض يتضح أكثر كلما اقتربت من معرفة الغيبوبة والعدم الذي يجوس خلال هذه الديار. قالوا لست أهلا لشرف العلم و الكلمة و القلم. لأنك المريض المسكين وما زاد في مرضك قراءتك الكثيرة لجلال الدين الرومي وترديدك أشعاره. منحوك تهمة البدعة و الضلالة. تهم تلقيتها من منخرطي الأحزاب المتكاثرة كالفطر الخارجة من قيح النظام العمالة . مناضلو حزب اليمين رأوا فيك أصولي والمتعاطفون مع اليسار اعتبروك امبريالي والحزب الذي أدعى أن الله له وحده قال أن تفكيرك صهيوني . وغيرهم لم يجد لك تهمة إلا أن قال تتعاطف مع الخوارج . كل هؤلاء زملاء العمل قالوا ما أوحاه لهم عدوك.
يوم قادك الوالد رحمه الله من يدك وهو الشيخ لا يقوى على الحركة يتكأ على عصا من الخشب الأحمر، انهارت أعصابك لهول الصدمة، أخذك للمصحة النفسية البعيدة بمئات الكيلومترات عن هذه المدينة المتيّـم بها. لم تكن تعرف وقتها أنك عبئا يضاف لشيخوخة أبيك. الرحمة والرأفة طلبتهما من الله في قلبك، لم تكن تستطيع الكلام، لسانك كان يعجّ بالعقد. كنت تبكي داخلك ، لا أحد يحس ببركانك المكبوت الذي لا يفيض، كنت تقولها في داخلك وهي إبر تثقب روحك
ــ " عذرا أبتاه أتعبتك على كبرك" .
قضت أمك نحبها و أنت لا تزال طالبا بالجامعة. تذكر يوم كانت تجمع حبات الزيتون فتأخذها للمعصرة و تبيع زيته، دراهمه المعدودات لتغطية مصاريفك بغية رؤية حلمها وهو يكبر أمام عينيها تقولها مفاخرة بحب وعطف وحنان للنساء الأخريات وهن يجمعن حبات الزيتون ويثرثرن والأولاد يحفّون أمهاتهم ، كانت تقول لهن : " ابني جمال، جميل كالقمر وكبير قدّ الدنيا" هكذا كانت تقول دائما وتفخر بك. هكذا حكت لك العجائز ما كانت تقوله لهن من زمان. لم تكن تعرف وهي في الأبدية أنك الآن أضفت شقاء آخر لأبيك. أنت وحيدَ أبيك وهو الوحيد من زمان. انهارت أعصابك وقتها، كدت تهلك، لم تكن تتوقع خيانة أصدقائك ولا حتى هجران حبيبتك. انقلب عليك أحباؤك لحقك ليلهم وقسا عليك الزمن. شكلوا حلقة الوفاء أمام ناظريك ثم غدروا بك. صديقك الثري السياسي المتدين صاحب الحسب والنسب يخطب حبيبتك وله معنى واحد فقط ...حين كان يخطب من على المنابر ويعد الصابرين بالجنة والنعيم كنت تشك في إخلاصه لله... وزميلك الذي تخرّج من الجامعة في العام نفسه تغير سلوكه معك بعدما صارت له لحية طويلة تغطي وجهه وأسفل ذقنه، كلما رآك يصاعر وجهه عنك. كلهم متائمرون عليك، حاصروك حين أذاعوا أنك المتأثر بالخميني وتقرأ كثيرا لفوكو حول الثورة. أخافوا كل من يتحدث إليك. صديقك السياسي الذي لا زال يصعد المنبر خطب حبيبتك التي كرهها بحقد يوما ما وقال أنها شيوعية فاجرة ليبعدك عنها. وقال أنها عاهرة ويشترك فيها الجميع. حبيبتك التي كانت تحمل لافتات عريضة ذات يوم " الفن والمدنية والتحرر، المناصرة للقضايا العادلة والمتحدثة في الديمقراطية " تتعامل مع الأمر على انه صفقة مربحة ببرودة حية رقطاء باردة شرحت لك مبادئ الليبرالية والسوق الحرة وعجزك على أن تكون مثل غيرك؛ وغيرك لن يكون إلا فارسها المغوار الذي لطالما خطب من على المنابر و له غواية كبيرة على النساء. كم يحب اللعب بلهيب أعواد المنابر ؟ كان يتباهي حين يركب السيارة المرسيدس السوداء الفاخرة لأبيه المفتش العام الذي يتدحلق له الجميع .إستعماله قوة الدولة ليرضع حقوق الضعفاء يقول لك ابنه" هي الدنيا."
لم ترى في حياتك النقيض يجتمع، لم تجتمع النار مع الماء، لكن العروس والعريس في الأخير تماثلا تشابها و توافقا. ماذا حصل للعالم؟ هل يذوب النفاق في المكر والجشع؟ سألت القدر في نفسك وحاسبته"ماذا فعلت للعالم حتى أطرد من حدائق الورود الحمراء والأمنية وينفى الحب داخلي لشعاب وقفار كرههم؟ يا للوجوه الجميلة التي تخفي معناها المدنس."
لما سألت الحبيبة عن سبب تمسكها بك كل هذا الوقت؟
قالت : ــ كنت حالمة لا غير .
وقالت ــ "أنها رأت فيك بعض المشاعر الضائعة في هذا الزمن لكن استفاقت على وقع خشخشة الأوراق النقدية ومستقبلها النابض بالحياة تختبره بواقعية السيارة الفضية الثانية رباعية الدفع التي يمتلكها صديقك... والفيلة في قلب العاصمة، وشقق في ولايات أخرى، زواج بزنس يا جميلو"
سقط قناعها وبدت لك الآن تشبه دمية آلية مبرمجة على الشر و التدمير تتكلم بانتقامية في فيلم خيالي. ألم تقل لك مرارا أنك تخيفها بما تتلفظ به من كلام؟ كانت تقيم حجتها عليك وقتذاك، أفلتت يدها من يدك وأمسكت بيد صديقك الإمام الذي بدوره أخبرها عن الجن الذي نال منك بمس ورقاك هو ببصاق. تضاحكا يومها عليك. ومع هذا كان يكذبا على بعضهما البعض. يعرف أن بصاقك أطهر من دمه.
يتخطفك طير الوجع و معاول الغدر تنكش أرض طهورك الخصبة. الذين وثقت فيهم سكاكينهم أدمت إحساسك العميق الغائر. بدا الجميع ينظر حولك بشك وريبة. انتحر صديقك من على الجسر العالي، للأسف كان أقربهم لنفسك يلازمك. انتحر لأمر أنت تعرفه ولا تذكره. ولأنهم فشلوا جميعهم في جعلك مثلهم شكّوا في كونك طبيعي. الغير طبيعي بالنسبة لهم لعنة ينبثق منها الخطر المهدد لحياتهم وحياة أبنائهم.. يالسخرية ... أنت لست بالمريض، ومع هذا تتناول هذه الحبوب السامة حفاظا على عقلك.هم المجانين تحذرهم. تقول هذا. هم يقولون المجنون الوحيد في العالم الذي لا يشبه جنونه أي جنون هو أنت. يوم عرضك أبوك ــ رحمه الله ــ على الطبيب طمأنه بتشخيصه لحالة نفسية انفعالية لا غير. مع هذا كان قلبك يقطر أسفا على الخيانة الساكنة للعيون، تلك العيون ترى فيها مأساتك . يتوفى الوالد و الغصة تملأ قلبه. مات حزنا وخوفا عليك من أنياب الزمن وغدر أهله؟ كيف ستواجه مصيرك المحتوم وقد تسلل اليأس لحياتك و انسلّ من بين تحصين ذاتك؟ كان يكررها لك كل شروق شمس.
ــ " يا ولدي لك الله، والذي له الله لا يشقى، لا تبكي عليها و لا عليهم، هم لهم معارفهم وأموالهم و أنت لك الله لا تأسى على ما فقدت. خُبرت بمصابك لسنا من طينة هؤلاء، سيسجنونك، أو يقتلونك. لا تفكر فيها و لا فيهم. ارحم أباك و أحرق كتبك، انظر كيف أصبحت، لما لا تتكلم صرت كالميت"
ثم يجهش أبوك في البكاء، يمسح دموعه بمنديله الأبيض، كنت ترى المنديل يبتل كأن كوب ماء صب عليه. كنت تود أن تصيح من العذاب والألم، تمنيت لو كانت لك قوة سحرية وأوقفت الزمن. لست نادما على شيء إلا على بكاء أبيك الغالي وامتناعك عن الكلام وقتها، نادما على أمنية أمك التي تاقت لتحقيقها، تعرف أنها لم تتمنى شيء في حياتها و لم تحصل على السعادة أبدا تعرف هذا من يوم صرت تفرّق بين الأسماء والأشياء... كانت فترة فقط "كل قعود و له قيام" هكذا قلت لنفسك. اخترت العزلة و أنت الغريب في بلدك. تفكر الآن وأنت في هذا الكوخ كيف تقطع البحر و ترمي خلفك الوجع و الحصى السبعة. استطعت التخلص من تلك الحبوب السامة . وانفلتّ من مخالب عجزك كزئبق، رجعت ثقتك لنفسك من جديد. لا زلت تتظاهر بحالتك المرضية نفسها، يوم رحلت لم ينتبه لك أحد.
لم تأسى على أحد منهم. وقفت يومها عند قبر أمك و أبيك وعدتهم بالعودة لزيارتهما متى تقوّيت. مسحت على شواهد قبريهما، بكيت طويلا عليهما وقبّلت الحجر الذي يحفّهما. لو قدر لصدرك و انشق لانفجرت عيون ولأغرقت القرية بكاملها. حين رجعت للبلاد الغريبة نجحت في الذي فشلت فيه في وطنك، ومع هذا لم تشتم بلادك كما يفعل الجشعون لأجل أن يرضى عنهم أسيادهم و يعطونهم فتات خبزهم. عملت ونجحت في إنشاء مشروعك. أمنيتك تحققت لكن وجعك يقول " ماتت العزيزة ما جدوى النجاح."
صقلت مرآة عقلك، و ما فائدة الآدمي إن عجز عن معرفة قيمة نفسه.
ضحكت هناك أخيرا و لم تضحك من زمن بعيد، ضحكت على ضرب الجنون هناك في القرية التي حوّلتك لمجنون، ضرب اللامعقول. ضحكت ولم تضحك سنينا طويلة .سألت نفسك:" الفاشلون في ديارهم وبين ذويهم ينجحون هنا بين الأغراب المتحضرين" . النور هنا يتدرج للأعلى فأرتقيت معه.
تتذكر ذاك الكوخ ، هو من حملك على كتابة شرف خلودك. قسا عليك الذين أحببتهم، قست أيامهم معهم عليك. تبتسم الآن. هزيمة يقولها المكتوب انتصار، تحفر دمعتك كنزها، تلألأت جواهرها ، لم تتذكر تلك الوحوش التي سامحتها أمام مرآة الذات والضمير في محراب الرب . إنما تذكرت الوالدين وصديقك المنتحر انتقاما لوئد تَفَوَقَهِ..ــ لم ينتحر صديقك بسبب ما أشيع عنه أن المجاهد المزوّر صاحب المزرعة طرده شر طردة لما ذهب لخطبة ابنته ــ. لقد أنقذت نفسك أخيرا، أنجيت عقلك لتكون لمن خلفك آية وعنونت أول ما كتبت " الكوخ الذي أنتفض منه رجل ميت" " الجسر الذي فتح ذراعيه لصديق منتحر" "الكوخ الذي خبأ داخله أشياء الرجل المفقود". تتذكر كل هذا على إيقاع نغم سنفونية حزينة جدا ممزوجة بماضي صنع لك جزءا من مستقبلك المستجد أحدثه تغيير قديم لتكون لمن بعدك آية... رجعت للقرية كما وعدت والديك وزرت مدينة الأموات، ومن ثمة رحت على الجسر و نثرت أزهارا من أعلاه... عدت للقرية و لم تمكث فيها إلا ساعة و اتخذك أهلها إله لمّا رأوك لأنهم رأوا فيك المعجزة.. رجعت وشئت أن لا تتذكر فيهم أحدا فقد كنت وحدك لهم آية... مباركة هي المعجزة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق