الاثنين، فبراير 09، 2009

شاب اسمه محمد

جمانة حداد

لن أكتب اليوم عن رسّام، ولا عن عازف، ولا عن نحّات، ولا عن مخرج، ولا عن كاتب.
لن أكتب عن ظاهرة تشكيلية، أو تيّار أدبي، أو عرض مسرحي، أو حفل موسيقي، أو ديوان شعري، أو عمل روائي، أو معرض فوتوغرافي، أو ندوة فكرية، أو مناسبة ثقافية، أو فيلم سينمائي.
لن أكتب عن رحيل مؤلف كبير، ولا عن ولادة مؤلف جديد.
لن أكتب في الثقافة، ولا في السياسة، ولا في الفلسفة، ولا في العِلم.
لا. سأكتب اليوم عن رجل عادي، أو بالأحرى عن رجل غير عادي، اسمه محمد.

ں ں ں

محمد شاب في أوائل الثلاثينات، متزوج، له طفلة، يعمل رجل توصيلات في أحد المطاعم. حالته "على قدّه"، بل أقل.
كان محمد يعبر على دراجته النارية الصغيرة في شارع الحمراء ليل الخميس الفائت، عندما لمح على الأرض محفظة فضية مرمية على قارعة الطريق. توقّف، لمّها، فتحها. وجد فيها مبلغاً كبيراً من المال، ومجموعة من الأوراق الشخصية. ثم أغلق المحفظة.
لم يشأ محمد أن "ينام" على الغنيمة، ولا رغب في الاستيلاء على محتويات المحفظة، لإيمانه الحاسم بأنها ليست منحة مرسلة إليه من السماء بل هي ملك لأحد الأشخاص، ولا بدّ أنه أحقّ بها من غيره. لكنه لم يعرف ماذا يفعل ولا كيف يتصرف. خشي إن هو سلّم المحفظة إلى جهة ما، أن تصير المحفظة في خبر كان. كما خشي إن هو سلّمها الى المخفر، أن يُتهم بأخذ حصةٍ منها. عاد الى منزله حائراً ومرتبكاً، ولم ينم في تلك الليلة. في صباح اليوم التالي، وبينما كان يوصل احدى الطلبيات إلى سيدة في الأشرفية، هي من زبائنه الدائمين، أحبّ أن يسألها رأيها في الأمر، وبعد مداولة قصيرة بينهما، قرّ الرأي على أن تتصل هذه السيدة بأحد الأرقام الموجودة في المحفظة، حيث تمكنت من التكلم مع صاحبة الشأن، فأطلعتها على المسألة، وجمعتها بمحمد الذي أعاد الى السيدة محفظتها. ثم تنفّس الصعداء.
للأمانة: كان في تلك المحفظة الفضية ما يزيد على ألف دولار أميركي، بطاقتا اعتماد، بعض المال بالعملات الأجنبية، تذكرة هوية، بطاقة تأمين صحي، إخراج قيد فردي وآخر عائلي، صور شخصية، أوراق عليها رسوم لطفل، صور لقديسين، خمس بطاقات هاتف sim card دولية، وأوراق أخرى في غاية الأهمية. وقد عادت كلّها، كلّها، بلا أي نقصان إلى صاحبة المحفظة.
قد تستغربون أني أعرف هذه التفاصيل كلّها عن محتوى ذلك الجزدان.
حسناً، لا تستغربوا، فصاحبة المحفظة هي أنا، ومحمد هو معجزتي الإنسانية الخاصة.
معجزة إنسانٍ أعاد إليَّ، بكرمه النفسي، وبتعاليه الأنوف على الماديات، وبمكابرته الراقية على حاجاته المعيشية الملحة، وبأخلاقياته الأشد رسوخاً من أي إغراء عابر، بعضاً من إيمان كثير فقدته بأخلاقيات البشر، وبقدرتهم على الارتقاء إلى شرطهم الإنساني، ما فوق الجشع، والدناءة، وأوبئة هذا العالم الذي نعيش فيه.
فشكرا لإبائكَ ولكرم أخلاقكَ يا محمد. وشكراً للسيدة النبيلة التي ساعدت محمد على اتخاذ الخطوة الملائمة.
شكرا لأنكما أعدتما اليَّ محفظتي طبعاً.
وشكرا خصوصاً لأنكما على قيد الشرط الأخلاقي للوجود. وهذا لأقول إن الدنيا، دنيانا، هذه الدنيا السافلة بالذات، إذ تمتلئ بممرِّغي القيم، وبالزعران، وبالقتلة، وبالانتهازيين، وبمشوِّهي السمعات، فإنها أيضاً لا تخلو من الأوادم.
oumana.haddad@annahar.com.lb)

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

You are also very nice and grateful