الثلاثاء، فبراير 24، 2009

عود على قضية الكتابة الروائية

د. حيب بولس

في غمار حديثنا عن قضية الكتابة الروائية, تحدّثنا في المرة السابقة عن أمرين عامين خارجين عن إرادة المبدعين, يشكلان في رأينا عائقا أمام تطور كتابتنا الروائية وهما: قضية تقلب المجتمع وتحولاته السريعة, وقضية قلّة المرجعية والموروث الروائي محليا وفلسطينيا. أما في هذا المقال فسنحاول أن نعالج قضية خاصّة لها علاقة مباشرة بالمبدع نفسه, وهي كما ذكرت في المقال السابق: قضية صعوبة الموازنة بين الخطابين: الروائي/الإبداعي/ التخييلي والأيديولوجي/ الواقعي/ التاريخي. وبالرغم من وجود علاقة بين هذه القضية وقضية الواقع الذي نعيشه, إلا أنها تشكّل صعوبة خاصة تتحدى المبدع.
لنحدّد أولا ارتباط هذه القضية بواقعنا المعيش:
إن واقعنا ولكثرة ما فيه من أحداث متصارعة متسارعة في آن, على اختلاف أنواعها, تدعو الروائي دائما إلى الكتابة عنها والمتح منها. والفن مهما يكن نوعه يكون صادقا فقط وفنا فقط حين يستطيع أن يعبر عن الواقع المعيش بطريقة فنية, وكي يعبّر عن هذا الواقع بفنية عليه أن يخوض في هذه الأحداث السريعة/ الساخنة, وأن يوازن بينها وبين المتخيّل, وهذا أمر في غاية الصعوبة, يتطلب معرفة ودراية كبيرة في أصول اللعبة الروائية. وفي مجتمع كمجتمعنا وفي ظروف كظروفنا نجد أن الرواية دائما تخاتل طموح كتابة التاريخ الفني للمخاض السياسي/ الاجتماعي في فلسطين- إبان النكبة, قبلها, في خضمها, بعدها, ومحليا أيضا-, وهذا أمر من الممكن أن يشكّل منزلقا للكتابة الروائية في ظروفها الاجتماعية المعيشة. فعلى الكاتب- أي كاتب- أن يحذر التاريخ, وأن يعرف كيف يقيم توازنا بينه وبين الإبداع, إذا أراد فعلا كتابة رواية فنية. وكم كان محقا ذلك الكاتب المفكر المغربي- عبد الكبير الخطيي- حين قال: "التاريخ هو الوحش المفترس للكاتب", وهو يقصد بذلك أن صوت التاريخ –الواقع- الايدولوجيا, حاضر على الدوام في شغاف قصصنا, يتأدى بطرائق وأساليب مختلفة متنوعة , جهيرا حينا- خافتا حينا آخر.
من هنا يتحتم الحذر للذي يحاول ولوج حقل الرواية, خوفا من الوقوع في براثن هذا الواقع- الأيديولوجي- التاريخي على حساب الروائي الإبداعي المتخيل, مما يجعل العمل الروائي عندها مجرد شعارات, وبيانات وتقارير ووثائق بعيدة كل البعد عن الفنية.
وكي لا نربك القارئ بهذا الحديث توجب علينا الموضوعية أن نبيّن ما معنى هذا الواقع- التاريخ- الايدولوجيا وما القصد بالإبداع- الروائي- المتخيل.
إن الواقع الموضوعي بما يعنيه من مادة ومن اجتماع, هو الواقع المادي والاجتماعي, اما الواقع الروائي فهو ذلك العالم الذي يبنيه الكاتب في نص روائي, انه ذلك المتخيل بفضائه وبشره وعلاقاته. والايدولوجيا كما يصفها عبد الله العروي: "مفهوم مشكّل وغير بريء, وهي هنا ذلك النسق من الأفكار والآراء والمعتقدات التي يبثها النص الروائي كذات, وهي بقدر ما تكون مستقلة فإنها مخلوقة من خالق معين هو مبدع النص. وهذا النسق هو قناع لانتماء طبقي ولمواقف في الصراع الطبقي. إننا نبحث في مجتمعنا وليس في جنان الخلد". ويتضح هذا الأمر عند محمود أمين العالم, حيث يقول: "الخطاب الروائي بشكل عام بنية لغوية دالة أو تشكيل لغوي سردي دالّ يصوغ عالما موحدا خاصا, تتنوع وتتعدد وتختلف في داخله اللغات والأساليب والأحداث والشخوص والعلاقات والأمكنة والأزمنة, دون أن يقضي هذا التنوع والتعدد والاختلاف على خصوصية هذا العالم ووحدته الدالّة بل هو يؤسسها".
الخطاب الروائي إذن هو التجلي الإبداعي الخاص للتاريخ الإنساني العام, ومن هنا نجد واقعين. الواقع الإنساني الخارجي بكل ما يحتدم به من حياة وإنتاج وممارسات. والواقع الروائي وهو إعادة إنتاج لمعطيات الخارج (المرجع), وخبراته الجمة المعيشة بالمنطق الخاص للخطاب الروائي. "الاختلاف والتناقض بين الواقعين المتخيل المبتدع والخارجي المعيش هو عامة رفض للواقع السائد, مهما اختلفت دلالة ومستوى هذا الرفض باختلاف الوقائع الروائية. وهو رفض يتحقق بإبداع عوالم متخيلة أي بإعادة تشكيل معطيات العالم الخارجي تشكيلا قد يكشف جوهر نواقصه أو جوهر صراعاته أو جوهر حركة قواه الاجتماعية المختلفة, وقد لا نتبين هذا الجوهر عند حدود بعض المعطيات الجزئية والهامشية, وهو يعيد تشكيل هذه المعطيات بمنطق الخطاب الروائي لا بمنطق الخطاب الخارجي".
من هنا يختلف الواقعان الروائي والمتخيل والمبدع عن واقع العالم المعيش, دون أن يعني هذا الانقطاع والقطيعة بينهما. إن الخطاب الروائي كل خطاب روائي, بل إن الأدب عامة لا مصدر له غير الواقع الذاتي\ الاجتماعي\ الموضوعي. ولهذا فالخطاب الروائي برغم خصوصيته التشكيلية الإبداعية واقعي المصدر والدلالة.
مما تقدم نرى إلى تداخل وانسجام الواقعين, ولا يكون الواقع الروائي تقليدا للواقع المعيش, كما أنه لا يكون استنساخا آليا وانعكاسا مراويا أو مجرد انعكاس جدلي للواقع وإنما يكون معلولا إبداعيا لهذا الواقع وعلة فاعلة فيه كذلك, من حيث انه اضافة إليه بإبداعية بنيته الخاصة, وبما يصدر عن هذه الإبداعية من دلالة مؤشرة بالضرورة سلبا أم إيجابا في هذا الواقع, وهكذا نصل إلى مقولة تقول: "إن الخطاب الروائي ليس تشكيلا لأيديولوجية بل هو أيديولوجية نابعة من تشكيل". فهل نجح مبدعونا في إقامة مثل هذا التوازن؟! أي هل نستطيع أن نقول أن مبدعينا في كتابتهم الروائية نجحوا في خلق\ إنتاج واقع متخيل يستمد أصوله من آخر موضوعي\ مرجعي؟! أم أن عملهم الروائي كان استنساخا آليا أو انعكاسا مراويا لهذا الواقع الموضوعي\ المرجع.
في الحقيقة إن قراءة متأنية لمعظم إنتاجنا الروائي لغاية الآن تقول: إن مبدعينا على اختلاف مصادرهم وانتماءاتهم وطرائقهم وأساليبهم لم ينجحوا في خلق هذا الواقع المتخيل, بل إن صوت التاريخ\ الواقع\ الايدولوجيا كان عاليا لدرجة الصراخ في أعمالهم الروائية. بحيث يشعر القارئ بارتباك هذه الأعمال الروائية وبتقديم الفنية تضحية على مذبح هذا الواقع, وذلك لأن الكاتب ما زال يعاني من عدم السيطرة على أدواته الإبداعية. فاللعبة ذات أصول, وهي ليست سهلة, بل تحتاج إلى تمرين وقراءة وتجريب, تحتاج إلى وضع التجربة الروائية على نار هادئة كي تستطيع أن تنضج براحة وبطء لا أن نستعجل الكتابة لأن الحقل الروائي كما يشعر بعض المبدعين ما زال بكرا فكتابة رواية, أي رواية, ولا يهم مستواها الفني- من الممكن أن تشهر هذا المبدع أو من الممكن أن تدرج اسمه بين الرواد والأوائل, بحيث يطمح عندئذ لاحتلال مركز في الإعلام المحلي وتعاطف في الإعلام الفلسطيني أو العربي, على ما يعتقد.
وأخيرا, هل نجحت في إلقاء الضوء على العقبات التي تعترض طريق روايتنا؟ ربما. ولكن للحقيقة أقول إن مبدعينا- رغم قلتهم- استطاعوا بما يملكون من صبر وأناة وبما اكتسبوه من ثقافة واطلاع على معظم ما أنتج محليا وفلسطينيا وعربيا وعالميا, وبما خاضوه من تجارب إبداعية وعانوه أن يكسروا هذا الحاجز. وأن ينطلقوا إلى أمام. صحيح أن إنتاجهم هذا لم يكن الإنتاج الوحيد في حقل الإبداع, ولكن رغم ذلك كانت التجربة تستحق مثل هذا العناء. كما انه صحيح أن إبداعهم الروائي فيه بعض النواقص الفنية, ولكن رغم ذلك أيضا يجب أن نعرف أن للتجربة وللريادة ضريبتها. فهل أنا متشائم؟!
طبعا لا. إذ أنني إذا بينت الواقع وكشفت عن المعوقات التي أراها فهذا لا يعني أنني أغض النظر أو أتعامى عن التقدم الذي بدأنا نراه أو نلمسه, ولكنه تقدم بطيء وليس متواصلا كنا نود أن نراه يخطو خطى أوسع وأكبر كي نتمكن من القول إننا اليوم نملك جانرا روائيا لا بأس به, كما نملك جانرا شعريا متقدما وجانرا قصصيا وأعني- القصة القصيرة- جيدا.
وأنا متفائل.
حبيب بولس – ناقد أدبي ، محاضر في مادة الأدب العربي في الكلية العربية للتربية في حيفا وكلية اورانيم الأكاديمية
drhbolus@yahoo.com


ليست هناك تعليقات: