د. حبيب بولس
هل نعمل بما فيه الكفاية على نشر أدبنا العربي عامة والفلسطيني خاصّة, عالميا؟
انه سؤال شائك ارتفع حين كنت أشارك في إحدى الدورات الدراسية في جامعة ادنبره في اسكتلندا. الذي فجّر هذا السؤال في ذهني كان أحد الأساتذة الذين يعلّمون هذه الدورة, حيث اخترق هذا الأستاذ العادات المتبعة في التعريف إلى طريقة أخرى, فطلب من كل مشترك- والمشتركون خليط من عدد لا بأس به من البلدان الشرقية والغربية-, أن يعرّف على نفسه من خلال مداخلة قصيرة يلقيها على زملائه يكون موضوعها الرئيس أحد الأعلام المشهورين في تراثه الماضي أو الحاضر, بهدف فتح الأبواب والنوافذ على الثقافات والآداب العالمية المختلفة. استساغ جميعنا الفكرة, ولا أكتمكم سرا أنني احترت كثيرا في انتقاء ذلك الاسم الذي سأتحدث عنه, وذلك لكثرة أعلامنا. أولا احترت في قضية هل أعود إلى الماضي؟ فتراثنا العربي قديما خصب غني يحفل بإعلام كثر كان لهم فضل كبير في تطور الحضارة العالمية, وخاصة الأوروبية؟ أم ألجأ إلى الحاضر حيث فيه نملك أيضا قائمة لا بأس بها من الأعلام الذين لهم بصمات قوية على الأدب والفكر؟ أخيرا قررت اللجوء إلى الحاضر وذلك لأنني أكره أن نظل نتكئ على ماضينا ونجتره وننبش في حناياه وكأننا لا نملك ما نتحدث عنه في الحاضر.
اخترت أديبين في رأيي كبيرين, لا لأنهما أفضل من الغير بل لجملة من الأسباب. اخترت من الأدب العربي المعاصر نجيب محفوظ وذلك لأنه حاز على جائزة نوبل للأدب عام 1988, فلا بدّ أن يكون إنتاجه قد ترجم إلى لغات عالمية كثيرة لهذا السبب. كما اخترت جبرا إبراهيم جبرا من إعلام أدبنا الفلسطيني المعاصر لأنه على ما اعتقد من المفروض أن يكون معروفا عالميا, خاصة في البلدان الناطقة باللغة الانكليزية وذلك لأن جبرا كان قد درس دراساته العليا في أرقى جامعات انجلترا أولا, ولأنه كتب وأبدع باللغتين العربية والانجليزية شعرا ونثرا, ثانيا ولأنه عمل على نقل روائع الأدب العالمي ودراساته من الانجليزية إلى العربية ثالثا, وأخيرا لأنه كاتب فلسطيني يعكس في إنتاجه خاصة القصصي القضية بكل ملابساتها.
قدّمت المداخلة, وكانت مفاجأتي كبيرة حين علمت أن كل المشتركين الزملاء بهتوا أمام هذين العلمين وأمام إنتاجهما, وذلك كان لأمرين: ألأول لأنهم لم يسمعوا بمها إطلاقا, والثاني لأنهم لا يعرفون شيئا عن أدبنا العربي المعاصر عامّة والفلسطيني خاصة. كل ما علق بأذهانهم هو ما عمل الغرب على ترسيخه وهو القليل من قصص ألف ليلة وليلة المترجم والمشوه والمحرّف والذي له علاقة باللصوصية والجنس والبلاهة والسّذاجة وما إلى ذلك. فرحت واستأت في ان معا. فرحت لأنني نجحت في تقديم علمين كبيرين من أعلامنا, واستأت لأن الغرب على ادعاءاته وعلى سعة اطلاعه وأهميته يجهل أدبنا المعاصر. فارتفع سؤال للتو من الملوم في ذلك؟ بمعنى إلى من نوجه إصبع الاتهام؟ إلى الغرب نفسه؟ إلى أدبنا وأدبائنا؟! إلى أنظمتنا وهيئاتنا ومؤسساتنا الأكاديمية؟! إلى من؟!
أعرف أن أسهل الطرق هي أن نلوم الغرب- وفي هذا كثير من الحقيقة-, بادعاء أن هذا الغرب ولأسباب سياسية عديدة, لا مجال لذكرها هنا, لم يهتم لأدبنا ولم يلتفت إليه بل حاول تقزيمه. ولكن هل هذا يكفي؟! وهل نحن الوحيدون الذين لا يهتم بهم الغرب؟! ماذا مع الشعوب الأخرى الآسيوية والأفريقية واللاتينية التي تغزو آدابها أسواق أوروبا اليوم. لا أنكر وجود أسماء عربية يقرأها الغرب, ولكنها أسماء تكتب باللغات الأوروبية ذاتها, لذلك تعتبرهم أوروبا أبناءها كأمين معلوف ولفيف من المغاربة. ولكن بالرغم من ذلك يظل السؤال الكبير مفتوحا: من الملوم؟!
ويزداد الجرح نزفا وحرقة حين نعرف أن الواحد من المشتركين يعرف الكثير عن أدب الآخر. فالألماني يعرف الكثير عن أدب فرنسا, وبالعكس, وهكذا الانكليزي, والياباني, والايطالي وألخ... فلماذا إذن يجهل هؤلاء أدبنا؟ هل نلوم هذا الدارس؟!- بالمناسبة كل المشتركين من المختصين بالأدب-, طبعا لا, لأنك حين تسأله يجيبك كم أود أن أعرف ولكنني لا أجد هذا الإنتاج. صحيح أن الظروف السياسية لها دورها ونحن لا ننكر هذا الدور. ولكن بالرغم من ذلك اللوم في رأيي يقع كله علينا, أفرادا ومؤسسات وأنظمة, فنحن لا نسعى إلى نشر أدبنا بما فيه الكفاية كما يسعى الآخرون. بل إن مؤسساتنا على اختلاف على أنواعها مشغولة باجترار الماضي أو بأنفسها. من الممكن أن يكون هذا الادعاء عند هذه المؤسسات أننا لا نملك الأدوات ولا الوسائل لنشر هذا الأدب! ولكن هذا الادعاء يجانب الكثير من الصحة, إذ كلنا يعرف أننا اليوم نملك وسائل إعلامية مرئية ومقروءة حتى في أوروبا نفسها. إذن لماذا هذا التقصير؟!
هل يعقل أن نظل على هامش الحضارة والأحداث الأدبية؟ ونحن في القرن الواحد والعشرين ؟! ألا تعرف مؤسساتنا وأنظمتنا أن الشعوب تخلد بأعلامها من الأدباء والمفكرين والفلاسفة والعلماء والفنانين؟! إذ ماذا سيبقى للتاريخ سواهم. وماذا تخلد الأمم سوى أعمالهم وإنتاجهم؟ ماذا نذكر نحن إذا طرحت علينا أسماء الأمم الغربية في الماضي والحاضر؟! طبعا, لا نذكر سوى الأعلام الذين احتلوا ضمائر العالم وذاكرته. صحيح أن بعض أعلامنا في الماضي ارتفعوا إلى مستوى العالمية ولكن ماذا مع الحاضر؟ ماذا سيذكر العالم وخاصة الغرب من أدبنا وفكرنا اليوم؟! خاصة إذا ظللنا مجهولين لديهم؟ هل علينا أن نلوم الأدب نفسه؟ بمعنى هل ما زال هذا الأدب يلهث وراء الأدب الغربي؟ طبعا لا يمكن لنا أن نلوم الأدب والأدباء فالحقيقة الواضحة تقول نحن نملك اليوم حركة أدبية نشطة ذات مستوى جيد تضاهي بمستواها الآداب الغربية وآداب الشعوب الأخرى. حتى الادعاء الذي يقول إن الغرب لا يهتم بأدبنا لأن أدبنا ما زال غارقا في خصوصياته ولم ينجح في اختراق هذه الخصوصية الى الرحابة والشمولية وهو ادعاء كاذب. فالأدب الذي لا يعالج قضايا مجتمعه الخاصة لينطلق الى العام ليس أدبا, وأدبنا من هذا النوع الذي يلحّ على الخاص لكن لا من اجل تكريسه بل من أجل تحسينه وهو بهذا الالحاح يكسر الخاص وينطلق ليعانق الرحابة والشمولية. والدليل على ذلك نستمده من الأدب الغربي والعالمي. خذوا مثلا بول ايلوار ولوركا وناظم حكمت وغيرهم الكثير من الأدباء الذين التزموا مواجع شعبهم, هل ظلوا محصورين بلغاتهم؟!
في الحقيقة نحن لا نستطيع أن نلوم الاخرين ونترك أنفسنا. اذا اللوم كله في رأيي يقع علينا نحن. فنحن لا نحب أدبنا بما فيه الكفاية, ولا نحترمه كما يجب. اذ لو كنا كذلك لسعينا الى نشره واشهاره فهو يستحق ذلك, والوسائل اليوم متاحة. هل أبالغ في ذلك؟ لنفحص أنفسنا أولا. خذوا أي شريحة من مثقفينا واسألوهم عن أدبنا ومفكرينا, ماذا تجد لديهم؟ نجد أنهم يعرفون بعض الأسماء فقط, ولكنهم يجهلون انتاجهم أو أفكارهم. ماذا يعرف هؤلاء عن الفارابي والخوارزمي وابن هيثم في الماضي؟ ماذا يعرفون عن أدبنا اليوم زمفكّري اليوم؟ في الواقع لا شيء سوى القليل. ولو وجّهنا هذا السؤال الى مثقف انكليزي أو ألماني, فماذا نتوقع أن تكون الاجابة؟ هل يمكن لنا أن نتصور انكليزيا لا يعرف شكسبير أو ميلتون أو ديكنز أو أدباء اليوم؟ أو فرنسيا يجهل بلزاك وروسو ودوماس وسارتر وبيكيت وكافكا وكامو والقائمة طويلة. أو ألمانيا لا يعرف جوته أو نيتشه وهكذا قس على الروسي وتشيكوف وتولستوي وبوشكين. وعلى الايطالي دانتي وبراندللو ومورافيا وهكذا.
نحن اذن مقصرون بحق أنفسنا. وعلينا اليوم كي نلحق بركب الاداب الاخرى, وكي نثبت أنفسنا على خارطة هذا الأدب أن نقيم مؤسسة مختصة تترجم اثارنا وتسعى الى نشر هذه الاثار عالميا, والعملية ليست صعبة أو مستحيلة بل هي سهلة ولا تتطلب التأجيل. لوم كبير يقع أيضا على مؤسساتنا الاكاديمية فعليها هي أن تكون المبادرة الى مثل هذا المشروع. فهي الوحيدة التي تملك المادة البشرية والعلمية لتنفيذ مشروع كهذا.
واذا انتقلنا للحديث عن أدبنا الفلسطيني طبعا ستكون المشكلة أصعب وأقسى وحارقة أكثر. اذ نحن لا نكاد نعثر على اوروبي الا بعد جهد يعرف القليل عنا وذلك لقلة الترجمات ولقلة الاعلام عن هذا الأدب. والعملية تأخذ شكل المأساة اذا تحدثنا عن أدبنا المحلي ولكن الفرق شاسع بين الأمرين. فنحن فعلا وبسبب الظروف لا نستطيع أن نقدّم للغرب انتاجنا, وحين أقول الظروف أقصدها جميعا سياسيا وماديا واعلاميا. ولكننا رغم ذلك نستطيع أن ننضم الى مؤسسة عربية تسعى الى نشر الأدب عامة, بما فيه أدبنا كي نصبح مقروئين ومعروفين. انها قضية تستحق وقفة طويلة وتتطلب منا أن نحك أدمغتنا, وتستدعي التفكير الطويل الجاد. كيف الوصول الى ذلك؟ وماذا علينا أن نفعل؟ لن ينقذنا من هذا المستنقع الاسن سوى أنفسنا, علينا أن نخرج من دائرة الظل الى النور, فعندنا الكثير مما نفتخر به وما علينا سوى العمل على ايصاله الى العالم. فهل يقدر لنا انسان او مؤسسة يسعيان الى ذلك قريبا؟! هل يقدًّر لنا دارس كجبرا ابراهيم جبرا يسعى الى نقل أدبنا الرائع الى الغرب كما سعى هو نفسه الى نقل أدب الغرب الى لغتنا؟ لدينا الكثير مما يثري ادب الغرب وفكره فهل من مؤسسة أو نظام يشمّر عن ساعديه؟! مهم جدا أن نقرأ أدبنا لكن الأهم أن يقرأنا الغير, فمتى سنكسر حاجز الصمت ونخترق العالم ونرجّ ساحته؟! ما من شيء يجعل الشعوب ترقى وتسمو في نظر بعضها أكثر من الأدب والفكر. فلنستيقظ سريعا ونباشر كي نثبت للاخرين أننا شعب حي يملك أسباب الحضارة, بل نفوق الكثير من الشعوب, وهكذا فقط سنغير نظرة العالم الينا ونصبح من الشعوب التي تحتل مكان الصدارة.
حبيب بولس – ناقد أدبي ، محاضر في مادة الأدب العربي في الكلية العربية للتربية في حيفا وكلية اورانيم الأكاديمية
drhbolus@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق