الأربعاء، فبراير 04، 2009

صباحكم أجمل/ وأنا الطير المشرد والأقاح



زياد جيوسي


بوابة المسجد الأموي من سوق الحميدية
بعدسة زياد جيوسي


يوميات دمشقية 3

هي رام الله والعشق الذي لا يفارقني، الدروب والياسمين المتعربش على الجدران، هوائها العليل الذي يحمل في نسماته كل عبق الوطن من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق للغرب، حملتها معي في جولتي الدمشقية لمدينة أعشقها وأبعدني الزمن عنها عقوداً، فما أن أنهيت جولتي في الشام، حتى كنت أسارع بعد إنهاء عملي في عمّان بعد عيد الأضحى مع الأسرة والأهل للعودة بشوق، فلم يتح لي التجوال فيها ومعانقتها والتفيء تحت شجرة بركة إلا يوماً واحد. لأصبح بعدها طريح المشفى وأنتقل لعمان لمواصلة العلاج، ومع كل الألم لم تستطع رام الله أن تغيب يوماً عن القلب والروح، كما لم تغب الشام يوما رغم مرور العقود والسنوات، وما أن تحسنت بشكل معقول حتى كنت أهمس لطبيبي الفنان الرائع: هلا سمحت لي بزيارة رام الله ولو لأيام؟ فلن يتم شفائي إن لم أتنشق عبق ياسمينها، إن لم أعانقها وتسدل شلال شعرها الأسود على أكتافي، ومن بين شلاله أتأمل قمر وجهها المنير، فرق قلبه لهذا العاشق لمدينة، فسمح لي بالسفر لأسبوع وأعود لمواصلة العلاج، فمازجت بين عشق رام الله ودمشق وحب نابلس، حين تجولت فيها بعد محاضرة مطولة ألقيتها حول استخدام الرمز في النقد السينمائي و الأدبي، فهي المدينة التي حرمت منها بسبب الاحتلال سنوات طويلة، وفي أحيائها القديمة ولهجة أهلها المميزة أشعر أني في الشام، وكان الجمال يتدفق حين تناولت وصحبي الغداء في مطعم فندق الياسمين، فتذكرت مطعم البيت الدمشقي في الشام، فنمط البناء متشابه والياسمين بعض من الجمال الذي ينثر في الفضائات بعض عبقه والجمال.

بين ياسمينات رام الله وجماليات نابلس كنت أستعيد ذاكرة الأيام الدمشقية، الأيام التي كانت في نهاية تشرين الثاني من العام الفائت، ولتشرين دوما كان في الماضي ارتباط خاص بالشام، فهو يسكن تلافيف الذاكرة وعبق الروح، فتذكرت أني كرست اليوم الرابع من زيارتي لمخيم اليرموك، تجولته بالكامل سيرا على الأقدام مع زوجتي، وكم كنت سعيداً بلقاء العديد من الأصدقاء والأحبة، ومن جمعني وإياهم التاريخ السابق، ومن جمعني بهم القلم والأدب، وكنا قد استقبلنا في الصباح الكاتبة السورية الرائعة أماني ناصر، وكان لقائنا الأول مواجهة بعد معرفة طويلة عبر القلم والأدب ومواقع الشبكة العنكبوتية، ففوجئت بحجم اللطف والخلق الذي تحمله روحها، وسعدت بلقائها كما سُعدت بها زوجتي، ولوقت لم نشعر به مع القهوة تمتعنا بالحوار الأدبي والفني، ولم تغادرنا إلا بموعد في اليوم التالي لنجول فيه برفقتها أحياء دمشق وأسواقها.

ما أجمل الشام، فكيف حين يلتقي الجمال مع عشق قديم وراسخ في القلب، هكذا شعرت في اليوم الثاني ونحن نجول أحياء دمشق القديمة برفقة الكاتبتين أماني ناصر ونزهة الحج، وشعرت بالصفاء الروحي وأنا أصلي بالمسجد الأموي، وأقرأ الفاتحة على روح صلاح الدين الأيوبي في مقامه، وعبق التاريخ في المدرسة العزيزية وقلعة دمشق، أحياء دمشق وأسواقها، المسكية والقباقبية والساروجة والمرجة وأحياء كثيرة مذهلة بالجمال، مذهلة بعبق التاريخ، ولم نشعر بالتعب حتى جلسنا في العصر في مقهى جميل وقديم يحمل اسما جميلا هو النوفرة، فارتحنا كثيرا وجلنا رئة أسواق الشام، سوق الحميدية بزواريبه وتقاطعاته وأقسامه، فمن حسن الحظ أنني وزوجتي برفقة فتاتين من بنات المدينة، يعرفنها جيدا ويمتلكن الروح المشرقة ككاتبات وحسن الضيافة وجمالها كدمشقيات أصيلات.

لم نفترق إلا بعد تناولنا العشاء جميعاً في مطعم البيت الدمشقي، فقد بلغ منا التعب مبلغه، والرغبة بالطعام ازدادت للمأكولات الدمشقية الطيبة، فكانت جلسة جميلة حفلت بالروح المرحة للكاتبة والصديقة أماني ناصر ومقالبها المرحة بالطيبة نزهة، وودعناهم على أمل لقاء آخر ونحن نشعر بالامتنان لهذه الجولة والنهار الجميل، وأكملت وزوجتي المسير، ورغم التعب لم نشعر بالرغبة في العودة للبيت، فتجولنا في الشوارع متمتعين بالنسمات الدمشقية الناعمة، ولم نعد إلا متأخرين لليرموك بعد أن تناولنا بوظة بكداش الشهيرة، فألقينا حقائبنا، ونزلنا نجول في شارع اليرموك وصفد وغيرها إلى وقت متأخر بعد منتصف الليل لنعود مرهقين جدا لكن الفرح يجتاحنا.

الجمعة كان اليوم التالي، حتى العصر بقينا في المخيم حيث صليت الجمعة في مسجد يحمل اسم مدينة صفد الفلسطينية المغتصبة، لنخرج ونجول في شوارع دمشق شبه الخالية بحكم العطلة الأسبوعية، ونحتسي القهوة في مقهى هافانا، وأكتب هناك كماً من الملاحظات على ورق استعرته من المقهى، لنكمل طريقنا في المساء إلى نادي الصحفيين لحضور حفل تكريم لشعراء فائزين، وكم سُعدنا هناك حين فاجئنا الصديق الصحفي والإعلامي مؤيد عبد القادر والصديقة الكاتبة الرائعة ماجدولين الرفاعي، بالإعلان عن وجودي وتكريمي، فاندفق الدم إلى وجهي خجلا من هذه المفاجئة دون أن ينسى أن يشير وهو ابن الرافدين أنني درست في بغداد وشربت من مياه دجلة، وكان الفرح حين سلم عليّ عدد كبير من الكتاب الذين يعرفوني واعرفهم من خلال القلم، وسعدت أيضا بكم من الكتب التي أهدوها لي مع حروف منبثقة من أرواح محلقة، ومنهم على سبيل المثال الشاعر منذر عبد الحر، انتصار سلمان، مادلين اسبر وغيرهم الكثير، وفرحنا بلقاء الشاعر الكبير عبد الرزاق عبد الواحد الذي التقيته مرة في بغداد، والفنان الرائع جميل الروح رائع الصوت سعدون جابر، وذكرته بلقائنا الأول في عام 1974 وسهرتنا في حديقة الجنينة في بغداد، وأغنية طيور الطايرة التي غناها بتلك الفترة، إضافة للشاعر السوري أحمد جنيد، وآمل أن يسمح لي الوقت بالكتابة النقدية عن بعض من هذه الروايات والقصص والدواوين الشعرية الجميلة، لنكمل السهرة بعد الحفل على عشاء أصرت الأخت الغالية ماجدولين على دعوتنا وأبنائها إليه، فكان عشاء رائع مع أناس رائعين، وكانت الياسمينة المتعربشة على الجدار خلفي تمنحنا جميعا جمالا يزيده القمر المنير في السماء فوقنا.

هي الشام جلتها وروح طيفي برفقة لم تفارقني، حروفي الخمسة تسكب الجمال شذاً وعبقاً، وعمّان وبغداد ترافقني، ورام الله تسدل شعرها الجميل على أرواح المدن وروحي، فأجلس في هذا الصباح العمّاني بعد أن حضرت من رام الله بالأمس، أجلس إلى شرفتي متأملا السماء الصافية التي تشتاق للغيم والمطر، أحتسي قهوتي وحروفي الخمسة تشاركني بها، أستمع لشدو فيروز:

"أصوات أصحابي وعيناها ووعد غد متاح، كل الذين أحبهم ذهبوا رقادِ واستراحوا، فأنا هنا جرح الهوى، وهناك في وطني جراح، وعليك عيني يا دمشق فمنك ينهمر الصباح، يا حب تمنعني وتسألني متى الزمن المباح، وأنا إليك الدرب والطير المشرد والأقاح".

ليست هناك تعليقات: