محمد محمد على جنيدي
لم تُغره ابتساماتُ المجاملةِ بالجلوسِ معهم
طويلاً ، كذلك لم يستطيعْ الوقوفَ في مكانِه
قليلاً من الوقت ، فكم كان قلقاً وبالرغمِ من
هياجِ مشاعرِه حاول الصمودَ كي يبقى متماسكاً
ولكنَّه لم يكُن يتصورُ أبداً أن تتصدعَ
إرادتُه ويتزلزلُ شموخُه وتهتزُّ ثقتُه
بنفسِه بهذه السرعة - وله كلُّ العُذر-
فالمشهدُ الذي يراه بعينِه هو الأصعبُ
والأسوأ في حياتِه - باختصار- التي تتزوجُ
الآن هي حلمُ طفولتِه وشبابِه وأميرةُ حبِّه
العذري ... ومع هذا .. حاول أن يتقدمَ نحو
العروسين ليتخلصَ من واجبِ التهنئةِ القابعِ
على قلبِه ، فالعريسُ ( وبكلِّ الأسف ) هو
ابنُ عمِه وهى في نَفْسِ الوقتِ جارةُ
الأحلامِ ورفيقةُ ذكرياتِ عمرِه ، المهم وقبل
أن تتثاقلَ عليه أقدامُه وتُغرقُه همومُه ،
كان قد توجَّه للعروسين وهو يتجرعُ مرارةَ
الأحزانِ ، قائلاً لهما : أسعدكُم اللهُ وجمع
بينكُما في خَير .. ثمّ استدار وانطلق
مُسْرِعاً مُبْتَعِداً عن منصةِ اعتقالِ
الجائزةِ ومآتمِ الأضواءِ التي حَوْلَه وهو
يُرثى نفسَه ويشتكى إلى اللهِ حيرتَه وجحودَ
الوصايةِ الجاثمة عليه - نعم - تلك الوصايةُ
التي فرضها عليه عَمُه الظَّالمُ منذ وفاةِ
والده (عمدة القرية وشيخ قبيلته ) .. والأسوأ من
ذلك كان فيما يراه من سفاهاتِ
ابنه الساقطِ واغتصابه لكلِّ خاطِرةٍ
تتنفَّسُ فيها أحلامُه وكان أخرها فرمانَ
حرمانِه من حُبِّه الكبير .. إذن فالرَّجُلان
معاً يُسيطران على ميراثِه من والدِه
ويَضغطان على إرادتِه ويُخَيِّمان باليأسِ
على كلِّ بارقةِ أملٍ في حياتِه - وهما أيضاً -
يُهَيْمِنان على جميعِ مواردِ ومشاريعِ
وأسواقِ قريتِه الضَّاربةِ في أعماقِ
الزَّمنِ البعيدِ وقد كان لهما بذلك اليدُ
الطولى والأمرُ والنَّهْي على أبناءِها
البائسين ، هكذا عاش بطلُ روايَتِنا وهكذا
ينتظرُ أن يعيشَ ما بَقِيَ له من عمرِه الحزين
.على كلِّ حالٍ لم يَطُلْ عليه الوقتُ كثيراً
ولم يبتعدْ به المكانُ عن أهازيجِ الفرحِ
وزغاريدِ الصَّبايا ولكن تبقى المشكلةُ
الأولى في حياتِه هي - عيون عمه الظالم - فتلك
كعادتِها دائماً ما تُحيطُ به وتُطْبِقُ عليه
أينَما وُجِد وقد لاحقته بالفعلِ هذه المرَّة
أيضاً وهو ثاوٍ على صخرةِ أحزانِه وأنيسةِ
طفولتِه وصباه وإذا بيدِه الحديديةِ
تُجْهِزُ على كتفِه وإذا بصوتِه الكريه
يَصِيحُ في أذُنَيْهِ قائلاً : أأَغلقتْ
الدُّنيا أبوابَها عليكَ لتتركَ عُرْسَ
أخيكَ وابنِ عَمِكَ لتقعدَ في مقعدِكَ هذا في
ظلمةِ ليلِكَ هذا يا بغيضَ النفسِ والقلب ..
قال العَمُّ قولتَه هذه وهو لا يُدْرِكُ
بأنَّه قد أزاح بها كلَّ الحدودِ وأسقط
بنيرانِها كلَّ الحواجزِ التي بينهما - حسناً
- فقد جاءتْ في ميقاتِها وكأنَّما كان
الرَّجُلُ قد أطلق بها آخرَ رصاصاتِه عليه -
وهنا - وقف له ابنُ أخيِه صارخاً في وجهِه :
تآمرتَ على حياةِ أبى فقتلتَه وأنا صغيرٌ
وكِدْتَ لأمي كيداً عظيماً فأوقعتَها في
الزواجِ منكَ وبعدما اكتشفت جرائِمَكَ
ودناءةَ نفسِكَ شُلّ لسانُها وسكت حديثُها
للأبد ، ثم تَمادَيْتَ في غَيِّكَ فأطلقتَ
رهانَ وصايَتِكَ الظالمةِ على حريتي وها أنت
مازلتَ تُحِيكُ بمكائدِكَ بي لتستمرَ بها
قابعاً على أنفاسي وأخيراً سوَّلتْ لَكَ
نَفْسُكَ وابْنُكَ فانْقَضَضْتُمْ على
حُلمِي الأخير ، فإلى متى تلعبون ؟! وإلى أين
أنتم بي ذاهبون ؟!.
هنا أدركَ العَمُّ أنَّه يواجه طوفاناً من
غضبِ ابنِ أخيِه ، فحاول أن يَطْلُبَ
النَّجدةَ ويستغيثُ بحراسِه وعيونِه .. وأخذ
يصرخُ بأعلى ما في صوتِه ، فَسَمِعوه بالفعلِ
وأطلقوا بنيرانِهم صوب الضَّجِيجِ وفى كلِّ
اتِّجاهٍ في عتمةِ هذا المكانِ ولكن !! هيهات ..
هيهات وقد أصبحتْ رَقَبَةُ الكبيرِ ( تحت
السيطرة ) نعم أخيراً تحت السيطرةِ ! وقد
ساقَتْه أقدارُه بأقدامِه إلى هذا المشهدِ
المُفاجىء ( وغير المدروس !!) .. فيا لَحكمةِ
الأقدارِ حينما تَسْخَرُ بمَكْرِ الماكرين !!
بل ويا لها من نهايةٍ غير محسوبةٍ أيَّها
الرجلُ الكبير!!
وفى هذه اللحظاتِ الفاصلةِ كانت قد عَرَفَتْ
ألسِنَةُ اللَهَبِ طريقَها إلى صخرةِ
الأحزانِ - بغيرِ فائدة - فماذا ينفعُها وقد
تأخَّر الوقتُ بها كثيراً عن نجْدَةِ العجوزِ
بل وماذا ينفعُها وقد أطاحتْ مشيئةُ القدرِ
بكلِّ شفاعاتِ الحَذَرِ منهم ، فَرَأوا
كبيرَهم وقد تَدَلَّى لسانُه صامِتاً
وأطَلَّتْ عيناه القبيحةُ من نوافذِها
وهنالِكَ عَرَفَتْ صرخةُ الفتى طريقَها إلى
بارئِها ومولاها وطبيبِها الأعظم ، وأدْرَكَ
الحرَّاسُ جميعُهم أن لغةَ الصَّمْتِ هي
سيدةُ الوقتِ والمكان ، فعرفوا أنَّ كُلَّ
شيءٍ قد انتهى بالفعل – وهنا - سَكَنَتْ
نيرانُهم وألقوا بأسلحتِهم وسقطوا في
مُهِمَّتِهم وسقط معهم الفَرْحُ الكبير!
السبت، فبراير 28، 2009
وسقط الفرح الكبير
Labels:
محمد جنيدي
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق