الاثنين، فبراير 09، 2009

مهمة الاديب والمبدع في زمن المدفع والدبابة

د. حبيب بولس

في زمن رديء كهذا الزمن الذي نمر فيه اليوم، لا بد من كلمة تخرج، من وقفة نحاسب فيها النفس لنصل بعد ذلك الى توصيف لمهمتنا كمبدعين وكأدباء يهندسون ارواح البشرية، ويستشرفون المستقبل، ويرسمون الواحة الخضراء لشعبهم.
فيا اخوتي الادباء والشعراء، اننا نجتاز منعطفا مليئا بالحفر وبالالغام، اننا نسير على ارض ساخنة لاهبة مليئة بالحصى وبالبثور، لذلك علينا ان نعرف كيف ننقل الخطوات، وكيف نرتقي الى مستوى المسؤولية، ومستوى اللحظة الساخنة وملامستها، لذلك علينا ان نشهر كلمة الحق حتى نستحق شرف الانتماء لهذا الشعب الصابر.
ان شعبنا يتطلع الينا، انه يسير على درب الآلام، وفي سيره يطأ الكثير من الاشواك. شعبنا اليوم يدفن شهداءه، ويمشي على الجرح، ولكن رغم ذلك ينهض ويستأنف المسيرة ويقاوم، ويحرق المسافات نحو الفجر من هنا ولأنه كذلك ينظر الينا كمبدعين نظرة اكبار واحترام، وينتظر منا الكثير، ولعله لا يخفى على احد ما للادب وللابداع من اهمية في شحذ الهمم وترشيدها ودفعها وصقلها، وعن ذلك يحدثنا التاريخ عن الدور الكبير للمبدع وللاديب على مر العصور، فالمبدع/ الاديب على انواع الادب جميعها انزله شعبه منزلة رفيعة لما في الابداع والادب من فائدة ومتعة من جهة، ولما للمبدع وللاديب من دور فعال في مناهضة الظلم والقهر، وفي النضال ضد السلطة القامعة، وفي الوقوف في وجه الجلاد، من جهة اخرى، وفي الدفاع عن اصحاب الحق من جهة ثالثة.
ولست اجدد اذا قلت: ان للقلم ولصاحبه عند العرب قديما وحديثا معزة خاصة. فكم قيل في القلم وفي مهمته! فهو مسؤول اجتماعي وكذلك صاحبه، وهو سلاح يشهره صاحبه ويتحدى به كل انواع القمع والتمييز والاحتلال والاذلال، وشاهدي على مسؤولية القلم وصاحبه ما جاء في التراثين العربي والغربي من اقوال ترفع من شأن القلم ومن شأن صاحبه وترسم له مهمته الاجتماعية والسياسية والنضالية والعقلية والثقافية.
فهذا شاعرنا العتّابي يقول: ببكاء القلم تبتسم الكتب، والاقلام مطايا الفطن. وهذا الخليفة المأمون يقول: لله ذكر القلم كيف يحوك وشْي المملكة. وهذا ارسطو يؤكد على القلم ويقول: عقول الرجال من تحت اقلامهم. وهذا وليّ الدين يكن يسلّ قلمه في وجه السلطان عبد الحميد فيكتب له: لأهزّن به اركان قصرك هزا. وهذا فولتير الفرنسي الذي يواجه الملك فردريك البروسيّ الكبير فيتحدث قائلا: لك صولجان ولكنّ لي قلما. وهذا شاعرنا ابن الرومي يقول:
بذا قضى الله للاقلام مذ بُريت
ان السيوف لها مذ اصلتت خدَم
وأخيرا هذا قائدنا الفذ صلاح الدين الايوبي يقول لجنوده: لا تظنوا اني فتحت البلاد بسيوفكم، بل بقلم القاضي الفاضل.
من هذه الاقوال، ومن غيرها نخلص الى ما للقلم وصاحبه من مسؤولية ومن اهمية، اذا عرف المبدع كيف يوظفه. وفي زمن كزمننا، فيه يعلو صوت المدافع ويهدر صوت الطائرات وتمزق وجه السماء القنابل على شظياتها، تصبح المهمة اكبر – اعني مهمة القلم وصاحبه، تصير المسؤولية الملقاة على عاتقنا اكبر. من هنا اوجه هذا الكلام الى ادبائنا ومبدعينا الذين يشكلون رافدا هاما من روافد هذا الشعب، كلمة تحمل في ثناياها رؤية تنطلق من مسيرة هذا الشعب، ومن تجاربه ومن واقع حاله، مفادها:
ان المبدع مهما تعددت مواقعه واختلفت، ومهما تنوعت تجربته وتلونت وتباينت، لم يعد ممكنا له ان يقف خارج احداث العصر الذي يعيش فيه. فالانسان لا يستطيع ان يعيش في مجتمع وان يكون حرا من هذا المجتمع في آن معا.
لم يعد كافيا اليوم ان يجلس المبدع على مقعده الوثير ويحتج على رائحة الجثث البشرية، فالابداع الثوري على تشظياته ليس قطيعة مع الواقع والا سقط في العدمية.
وفي ايامنا هذه اصبحت مهمة المبدع تتلخص في كشف طبيعة الدوافع والقوى التي تحرك مجمل العلاقات الانسانية بشكل واع وبحدْس شفاف قادر على رؤية ما هو كائن. ان الابعاد الحقيقية للمشكلات الانسانية تتلخص في اكتشاف اسباب الخلل الذي يلف العالم، ويؤدي الى هذه الاضطرابات العنيفة اللاانسانية.
اصبح المبدع اليوم ضمير العصر الذي يعيش فيه، وهكذا يجد نفسه بالضرورة ملتزما بالانسان وبالحياة. انه الالتزام بمعناه الرحب الواسع، ولا يكون العمل الابداعي اليوم ايجابيا الا عندما ينحو باتجاه التاريخ ويعبر عن قضايا الشعب بأكمله. فعظمة أي عمل ابداعي لا تنفصل عن مضمون القضية التي يطرحها ويدافع عنها. العمل الابداعي/الادبي، اداة تعليمية، اداة تنوير فكري، اداة نضال سياسية واجتماعية، اداة تثويرية، وهكذا يصبح هذا العمل بمثابة مغامرة الى كل المواقع التي يجب ان ينصب عليها النضال.. وهنا يصبح العمل الابداعي على الوانه بالتالي اداة تحريض وتنوير اجتماعيين.
ايمانا بهذه الرؤية الثورية علينا ان نرى الى عملنا الابداعي عملا يسعى الى الرقي بشعبنا نحو الافضل دائما. وتأسيسا على هذه الرؤية علينا ان نخوض تجربتنا الابداعية/الادبية ونحن نمتح من واقع شعبنا، من معاناته اليومية، ونرسم له شمس مستقبله وواحته الخضراء. على عملنا الابداعي الا يسلخ نفسه عن واقع جماهيرنا وألا يتقوقع في صدفة الفن الصافي، بل عليه ان يستمد من التجارب التي تعمّد فيها شعبنا، ومن المقلاة التي غاص فيها حتى النخاع.
من هنا وارتكازا على ما تقدم ارتأي ان نقوم بخطوة احتجاجية صارخة، وان نرفع الصوت الغاضب احتجاجا على ما حدث وما يحدث. وهذه الخطوة المنشودة تأتي لتعلن مشاركتنا كمبدعين وكأدباء لابناء شعبنا في المواجهة والتصدي لحملات القتل الجماعي والقمع والاعتقال البشعة التي تمارس ضده لمجرد صرخته من اجل حقه بالوجود وبالعيش بكرامة.

ايها المبدعون/الادباء،

نحن شعب على كثرة ما تمرّس بالمصاعب وعاقر المحن، صرنا نفتش عن لحظة فرح. وهكذا فاننا بقدر ما ندين هجمة السلطة الشرسة وآلاتها الوحشية في عدوانها على اهلنا الابرياء في غزة، وبقدر ما نكرم شهداءنا ونجلّ دماءهم، بقدر ما نلح على حقنا في الحياة ونعلن اصرارنا على مواصلة الابداع.
نحن شعب على كثرة ما مر به من محن، وعلى كثرة ما خاض في مستنقعات القهر والظلم والتمييز الصارخ، اصبحنا نعرف كيف ننبت من دخان الحرائق ومن خاصرة الجرح الفرح، اصبحنا نمسك جراحنا بيد وبالأخرى نقاوم حتى يبزغ الفجر فنحمل بالاثنتين الورود، ورود النصر.
من هنا على صرختنا الاحتجاجية اليوم ان تأتي وردة للشهداء، ونشيدا للحياة الحرة الكريمة، وعليها ان تجيء خاصة بعد ان شربنا كأس قدرنا وتجربتنا حتى الثمالة، اليوم، لنقول، من خلالها للعالم اجمع، ولكل قوى الظلام والقمع. ان الحزن قد ينبت فرحا، وان الشر قد يفرّخ خيرا، وان المأساة مهما طال ليلها قد تلد املا، وان اكثر الناس رؤية للاسد اشجعهم.
وانتم ايها الاخوة من المبدعين والادباء، انتم من الشجعان، كنتم دائما ممن تصدى، وممن دفع المهر غاليا لمستقبلنا الزاهر حتما، كنتم دائما بكتاباتكم بأفعالكم بأقوالكم تجسّدون قولة شاعرنا الفلسطيني الثائر "عبد الرحيم محمود":
سأحمل روحي على راحتي وأهوي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العِدا
هكذا كنتم، وهكذا انتم اليوم ايضا، لا ترضون بضيم، ولا تسكتون عن ظلم او قمع. فتعالوا اليوم نتوحد في اتحاد يضم شعنا ويلم بعثرتنا وتبعثرنا، تعالوا نتعال على كل الجراح، لتصبح كلمتنا مسموعة ومتفقا عليها، فالحلول الفردية امام الحاصل لا تجدي، وليس كالجماعة التي تقف كالبنيان المرصوص في درء الخطر المحيق بنا. تعالوا لنحتج ولنرفع الصوت، غاضبا، تعالوا لنكتب احتجاجنا، لنوثقه فما فضح انظمة القهر والقمع في الماضي وقضى عليها سوى الاعمال الادبية. اقرأوا ما انتجته اقلام الادباء والشعراء من قصص وروايات وقصائد ومسرحيات تعري تلك الانظمة كالنازية والفاشية، وكل الحركات والايديولوجيات الرجعية الساقطة والهالكة. تعالوا نرفع الصوت عاليا لنثري ابداعنا بصوت الغضب، بصوت الكرامة، تعالوا اليوم نشحذ اقلامنا وافكارنا ونوظفها في خدمة شعبنا، وفي جلد غاصبي حقوقه. تعالوا نبلسم بأشعارنا وبكتاباتنا جراحه، ونرسم له الامل، ونلمّع بريق الابتسامة لتعلو الوجوه المتعبة المقهورة من جديد. تعالوا نرسم بكلماتنا بمواقفنا دولته المستقلة وحريته.

ايها الاخوة،
شعبنا ينتظر منكم الكثير، ويعلق عليكم الآمال العراض فلا تخيبوها. شعبنا يناديكم ويطلب منكم ان تتوحدوا، وان توحدوا الجهود، يطلب منكم الا تتنابذوا ولا تتباغضوا وان تكونوا في الملمات اخوانا، واذا كانت المأساة لا تجمّعنا، فما الذي عساه يجمّعنا؟
ولكن ونحن نقول الوحدة، يجب ان ننتبه ان للوحدة شروطا والتزامات،اهمها ايثار المصلحة العامة على المصلحة الشخصية وكذلك تحكيم العقل والاحتكام اليه لا الارتكاز على النقل وعلى المحنطات، وكذلك ايضا الصدور عن معرفة لا عن وهميات وغيبيات. واضيف الى ذلك الانطلاق من مفاهيم حداثية ترتكز على العقلاني وتأخذ من الواقع وتستمد منه وترفض كل افتئات طائفي بغيض وبعيد عن روح شعبنا وعن اصالته المعروفة بالتسامح وبالعيش الكريم المشترك. ولعل الشرط الاكثر اهمية في هذا السياق عدم ممالأةالسلطة، بل قول الحق والمجاهرة به، فليس كقول الحق من سلاح يفضح ويعري.
ايها المبدعون والادباء،
انتم قادة شعبنا نحو الفجر القريب، لذلك كونوا الصرخة، كونوا الضربة كونوا وعد الشمس.
أمطرونا شموخا وكرامة وعزة، وردوا الى تاريخنا نصاعته، وذلك اضعف الايمان. إشحذوا الاقلام والهمم ووظفوها في خدمة شعبنا والا فاكسروا اقلامكم واجلسوا مكتوفي الايدي وانتظروا ان تمطر السماء عليكم ذهبا وفضة، كرامة وحقوقا.
فهلا فعلنا، اقتحمنا وتقحّمنا!!
حقا لقد صدق شاعرنا بقوله:
بذا قضى الله للاقلام مذ بُريَت
ان السيوف لها مذ اصلِتت خدم
وعلى ميعاد.

ليست هناك تعليقات: