الخميس، فبراير 26، 2009

حكاية الرجل الذي رهن عقله

خالد ساحلي

ما الذي يريده بالضبط ؟ الفوضى تسكن عقله كما أحاسيسه، نشاط روحي متذبذب عشوائي يشعر به من زمن لا يشبه نشاط الأفراد الذين يراهم ويتعامل معهم أو هكذا بدا له. مالهم مرتاحون لا يبالون لا يأبهون لشيء، لا رباط يشدهم، هم في فوضى إلى درجة تعديهم كل الخطوط الحمراء." أتعبه التفكير وهو لا يقوى على اقتحام المواقف المتكررة معه. كان دائما يردد جملته السحرية كلما عجز عن تخطي أمرا في الحياة" تمسّك بمثالك الأعلى دائما لأنك ستشعر بانحطاط شجاعتك يوما ما"
ركب الحافلة المكتظة بالركاب، الوقوف جميعهم يكادون أو ملتصقون بالكامل كأعواد ثقاب في علبة. تزاحم في الممر بصعوبة حتى ضمن مكانا لقدميه. السيدات واقفات، بعضهن مدرسات تحملن محافظ و بعضهن الطالبات اللواتي تجملن. تفوح من أجسادهن رائحة الماكياج و المراهم. العطر النسائي الصارخ يجلب البلاء كثيرا . الحافلة تمتلأ في الصباح الباكر في ذهاب الجميع للعمل. يجدها كثير من المتطفلين و المتطفلات فرصة وجب اغتنامها. الالتصاق هنا بجسد أنثى في هذا الزحام المهول متعة وغنيمة لا تتكرر. الإناث أفاعي لينة الملمس يترصدن الطريدة في هذا الالتصاق ليجنين من ورائه الكثير من النقود التي تذرها الجيوب السخية فأصحابها في غفلة لحظات النشوة، واقعون تحت تأثير سكرات عسل العيون والأنفاس ، وحشر المؤخرات والأثداء و الابتسامات الكثيرة التي تخفي خراب الجيوب.
ــ عذرا أذيتك بمرفقي، الرجاء لا أكون آلمتك؟
قالها للشاب الذي كان لجانبه وقد أحس يده تجول داخل جيبه، كاد يسرقه هاتفه المحمول. تأكد اللص الفنان أن حظه سيء اليوم مع هذا الرجل الطويل. كان يتصفح وجوه اللصوص الواقفين المدققين الذين كانت وجوههم مألوفة و عيونهم تزداد تعلقا بأمل فيمن لحظوا فيه خوفا وشمّوا فيه أو فيها رائحة النقود أو الحلي.
توقفت الحافلة عند المحطة الشرقية، "الترمينوس" صاح بها السائق البدين كثور. تمكن أخيرا بشق الأنفس من شق هذا الصف البشري. تمكن من الهبوط بعدما علقت رجلاه برجل فتاة في درجة السلم الأخيرة وقعت على أثرها فطارت المحفظة من يدها ولحسن حظها أن جسدها اللطيف تهاوى على بدنه فدفعته بصدرها ثم أمسكته بيديها، أحمّر وجهها : ــ يا له من يوم معوّج. المعذرة أخي.
ــ لم يحدث شيء، بسيطة أمور كهذه تتكرر يوميا بصورة أو بأخرى. طاب يومك سيدتي.
كانت خطواته متئدة، مر على الكشك المعتاد، أخذ ثلاثة عناوين جرائد كعادته وقصد الوزارة البعيدة عشرات الأمتار . أغتنم هذه الأمتار لتصفّح العناوين. فتح الصفحة المقصودة تأسف في أعماقه، شعر بجنون، تأبط الجريدة الأولى، فتح الثانية، وجهته الصفحة الداخلية تأسف مرة أخرى وكما الأولى تأبطها أيضا. الثالثة وكانت دقات قلبه تنبض سريعا. شعر بحرارة تدب في كل جسمه وفتح الصفحة يتحرى شوقه لتصفحها كل أسبوع. لا جديد اليوم أيضا. جمع الجرائد الثلاثة حزمة أوراق في يده. لا زالت رائحة الحبر تفوح من أوراقها الملونة. لواها على شكل عصا قصيرة ومشى ضاربا بها قدمه كلما خطى خطوة. بصق عن شماله ، لم يطفأ البصاق غضبه. هذه المرة بصق بعنف حتى أحدث صوتا سمعه من كان يسير أمامه، ألتفت وطوقه بنظرة استغراب.
ــ لا أقصدك سيدي عذرا.
دخل الوزارة، أكد حضوره على سجل عون الأمن وانصرف إلى مكتبه منهمكا بعد ذلك في عمله المعتاد. كان يقول دائما "ما معنى عملك في وزارة و سومتك سومة كلب.؟"
بعد يوم شاق من العمل و على فكرة هو مطبوع على عمله، يؤديه بإتقان لأجل تحليل دنانيره خوفا و خشية من رب العالمين كما يجيب دائما زملائه في استغبائهم ذكائه و نشاطه بمقابل ما يحصل عليه من أجر زهيد.
كان ينتظر الحافلة لكنها تأخرت اليوم دقائق كما العادة، التأخر سمة في ثقافتنا لا استغناء عنها ومصالح الدولة لا تأبه لمراقبة أصحاب هذه الحافلات الذين جعلوا الركاب كالسمك. لا حيلة إما تركب في الحشر و إما تركب عنادك فتستقل سيارة أجرة تدفع أضعافا مضاعفة. "الميزانية لا تسمح" قالها في نفسه و ضحك ضحكا يشبه الخيبة. أمسك بالدربز ثم بحلقة مشد الركاب. كان الزحام مقززا، كره الالتصاق و لا مفر من قدر صنعه غيره. كانت امرأة تقف أمامه تدير ظهرها ، يدها في الأعلى تمسك بالمقبض الحديدي، يدها الشمال تمسك بمحفظة، حين تحركت الحافلة وأحدث محركها خلخلة التصقت به أكثر و ألتصق بها، استدارت طلبت العذر متأففة من هذا الالتصاق وتفّوهت منزعجة: ــ غبن و نحن فيه
ــ نعم
عرفها، الفتاة نفسها التي كادت توقعه أرضا هذا الصباح
ــ أنت؟ قالاها معا.
ــ كدت أوقعك صباحا.
ــ لم يحدث شيء .
كان الركاب يأكلونهما بنظرات ريبة وخبث و سوء نية أيضا. لحظا ذلك فأوقفا الكلام . ربما هنا عيون تشي بما رأت و تزيد في الإفك وقد تنهش عرضهما.
كانت صدفة ، نزلا معا في نفس المحطة: ــ إذن تقطنين هذا الحي.
ــ نعم، هناك في تلك العمارة، يبدو أنها من زمن الفيل أليس كذلك.؟
ــ أما أنا فأسكن في المقلب الآخر من الحي.
ــ متشرف.
ودّعها ومضى لحاله، كانت واجهات المحلات تلمع بمصابيحها التزينينة وأعمدة الكهرباء أشعلت أضوائها. كان الليل يعلن قدومه ، ما أقصر أيام الشتاء و بخاصة أيام شهر جانفي. وصل لباب غرفته في العمارة المتآكلة المتهرئة، برزت قضبان الحديد من على جوانبها وفي السلالم. دخل الغرفة الشبيهة بعش الطائر وطرد فكرة الزواج بمجرد دخوله؛ طرد معها معنى الصورة التي رآها اليوم في الفتاة التي أخبرته بمكان سكنها و بعض التفاصيل الأخرى عن عملها كمدرسة طور ابتدائي... يا لها من صدفة لكنه يستبعد الارتباط مهما وقعت في قلبه الموقع الحسن. رمى بجسده المنهك على السرير حتى سمع كزيز سريره يشكو مثله السنين. لقد رافقه من زمن طويل و لم يفرّط أحدهما في الآخر. فتح الجريدة الأولى، راح يقرأ كل ما فيها، عثر على مقال يشبه مقاله أو يكاد يكون هو، ممضي باسم مدير التحرير، ليست المرة الأولى التي يجد أفكاره هنا، يغيّرون له الكلمات فقط.
ــ يراسلني مدير التحرير يحثني على الكتابة و إبداء الرأي خدمة القارئ وإظهار موهبتي على حد زعمه وهو يسرقني أفكاري.؟
لم يكن يقوى على مواجهة مدير التحرير أو إثبات سرقته هكذا فكرة مقال له. القراء يعرفون اسم مدير التحرير و الجهات الحكومية أيضا تعرف اسمه، لكن اسمه بالنسبة إليهم نكرة. فتح الجريدة الثانية، لم يجد لقبه فيها وقد وعدوه بنشر إحدى أعماله. مدراء ورؤساء التحرير ليسوا كلهم سيئين وليسوا كلهم كهنة و إن كان بعضهم يخلق الكذب ويتفنن في رسمه. لصوص المعاني . قالها بتهكم وهو ينظر إلى العنوان العريض. بصق على الكاغط و بالضبط على مكان اسم مدير التحرير.
رمى بالجرائد فوق طاولة خشبية فهي كل ما يملك من أثاث كان التلفاز الصغير موضوعا عليها. خرج قاصدا مقهى الانترنت في الحي. بمجرد فتحه الباب نظر فيه صاحب المقهى متضايقا ، هو لم يدفع اجر استعماله النت عشرات الساعات. الاتفاق بينهما كون الدفع بالتقسيط وقد أخلّ بالشروط لم يدفع مدة. انتظر كما الآخرين و حين لحق دوره جلس أمام الحاسوب فتح بريده الالكتروني ، رسالة من مدير التحرير يعرض فيها عليه صفقة بيعه بعضا من مقالاته بمبلغ محترم. فار الدم من رأسه وصاح يكلم نفسه ويبصق على الحاسوب وعادة البصاق قد تقتله يوما" تجرأ هذه المرة الكلب بوقاحة الخسيس." لكن تراجع عن انفعاله ماذا لو يأخذ هو المال ليعين نفسه فالآخر يريد الشهرة عساها توصله لمنصب مرموق كمستشار في وزارة أو وزير خاصة و أنه كما أفضى له أنه عضو وطني في الحزب الحاكم. مدير التحرير هذا تعرف عليه من زمن، حين بعث له بمقال و ترجاه في نشره من ثمة صارت تربطهما علاقة. ينشر له مقالاته وبالمقابل المقالات الجميلة المؤثرة يسرق روح فكرتها ولا تخرج إلا باسمه. " أصحاب الوجوه الوقحة" قالها بحنق. لكن العرض مغري لأجل الظروف القاسية التي يمر بها ، قد يعينه المبلغ على تحسين شيء من حاله، يدخره لأجل أن يصير كباقي خلق الله ويجد زوجة توافقه على كفاف من عيشه. كانت الصفقة مربحة للطرفين، تسير على أحسن حال دون الإخلال بشروطها زمنا " دفع لكل مقال".. إلى أن وافاه مدير التحرير برسالة الكترونية ــ هو لم يقابله و لو مرة واحدة في حياته ــ يبلغه خبر ترقيته لمنصب كبير و لم يعد في حاجة لمقالاته. كانت مقالاته قد أحدثت ضجيجا و أثرا طيبا في الأوساط السياسية والثقافية. ترجمت لعدة لغات ، تداولتها الصحف الأجنبية و المجلات المختصة بالنقد، أثنت على صاحبها . جمعت الأعمال وطبعت؛ نال صاحبها حظوة الجوائز وأرباحا خيالية من ديار النشر الكبيرة، إضافة إلى التكريم. المدير المرقـّى الآن ليس في حاجة إلى كتابات أخرى. الأفكار نفسها قد تتكرر، أو ربما وجد كاتبا آخر أكثر مقدرة منه. كانت الغيرة تأكل قلب الرجل الطويل المملوء حقدا على مدير التحرير و على حظه المنحوس وعلى الفقر. أسقط غضبه على نفسه في هوى سحيقة من العذاب و العتاب.
كيف يرى نجاحه يتجسد في غيره. لكنه تقاضى أجر ما عمل ووافق بمحض إرادته. استسهل الأمر بصفقة لم يكن مرغما عليها أبدا. تجرأ على بيع ما لا يباع.
كان ينتظر الحافلة التي تعج بالركاب، أخذ يتزاحم كما المعتاد ليجد مكانا لقدميه و لعله يحظى بابتسامة من عند الفتاة التي وعدها بالزواج ، لم يعد يراها إنما لا زال يرى وجوه اللصوص المتزاحمين إنهم لا يشبهون اللصوص الخياليين لصوص المعاني و النجاح. لا زال الندم يثقب ضميره ويشغل تفكيره ، خسر الكثير من وزنه و لحقه شيء من الخبل. ذاك اليوم وهو ينزل من الحافلة قاطعا الطريق للشارع المقابل في المقلب الآخر تخطفته سيارة سوداء من القداّم....

ليست هناك تعليقات: