زياد جيوسي
غرب رام الله منظر باتجاه الساحل السليب"
بعدستي الشخصية
العيد.. كل عام وأنتم بخير، أمنيات وأحلام ورسائل قصيرة يكتظ بها هاتفي المحمول وعلبة بريدي الالكترونية، أبتسم لهذه التقاليد الرقمية الحديثة بالتهنئة، بعد أن غزتنا التكنولوجيا والثورة الرقمية، أتجه لمصلى صلاة العيد وأتذكر عبارة لطيفة متداولة عن رام الله تقول: "في رام الله في أعياد الفطر والأضحى يكون أول من يعّيد عليك صاحبك المسيحي، وفي عيد الميلاد يكون أول من يعيّد عليك صاحبك المسلم"، أتذكر هذه العبارة الجميلة وأنا أمر من دوار الساعة، فيكون الصيدلي إبراهيم إيليا أول من يلتقيني ويعيّد عليّ، أقرر أن أجول بعد الصلاة رغم رذاذ الأمطار وبرودة الجو في رام الله قليلاً، الشوارع فارغة إلا من بعض باعة الصحف في بعض الزوايا، بعض محلات الجزارة لتوفير خدمة ذبح الأضاحي، والذين يبدأون جولة الأعياد على أرحامهم مبكرين، فمنذ اشتداد الحصار وحواجز التفتيش على مداخل المدن وبينها، أصبحت المسافات أكثر تباعداً وتأخذ أكثر وقتاً، فلم تعد هناك طرقاً مباشرة بين المدن، وأصبح التحرك بين المدن مغامرة، إضافة للوقت الطويل والزمن الذي يدمر الأعصاب، فوجود ما يزيد عن مائة وثلاثين مستوطنة وما ينوف عن خمسمائة حاجز احتلالي، كفيلة بزيادة التمزيق للأرض والتواصل.
عيد يعود وغزة تحترق بين حصار وقتل وتدمير، فأطفال غزة لن يجدوا فرحة لعيد ولا وقت لفرحة، فلا تكاد تجد أسرة إلا ودفعت ثمناً باهظاً من الدم والدمار، فمن شهداء الغدر الصهيوني الذين يستشهدون كل يوم، هذا الغدر الذي لا يفرق بين راية وراية، حتى وصل العدد إلى اثنا عشر شهيداً خلال يومين، مروراً بضحايا القتل والتعذيب والتشويه في صراع الفصائل، إلى الجوع الذي ينخر العظام والبطون في ظل حصار يكاد أن يمنع الهواء، وصولاً إلى قمع واضطهاد للحريات والبشر، في ظل سيطرة البندقية على الحكم المنخور وأنفاس البشر.
هو العيد الذي تلتئم فيه شمل العائلات والأُسر في العالم إلا في وطني، فكيف يمكن أن تتجمع ألاف العائلات، وأفرادها بين أسير وشهيد ومفقود ومنفي، وأنا كالعادة ومنذ سنوات أجول وحيداً، فلا أُسرة هنا ولا أبناء، وحتى الأصدقاء كل يغادر إلى أهله وبلدته، وأبقى وحيداً أنا ورام الله والياسمين، وإن سيختلف الوضع قليلاً بوجود بيت أخي هذا العيد، فألتقيهم على الغداء ونقضي بعض من الوقت، ثم أعود وأعتكف بصومعتي حتى تنتهي العطلة مستغلاً الوقت بما هو مفيد بين قلم وقرطاس وحاسوب، أسير في دروب رام الله وأشعر بالبرد يخترق مني العظام والمفاصل، أستعيد بعض من أيام مضت على رام الله وجمالها، فقد أضيئت أشجار الزينة في المنارة احتفاءً بالعيدين الأضحى والميلاد، وأقيم أكثر من احتفال فني في القصبة وقصر الثقافة، وكم كنت متشوقاً لحضور حفل فرقة "شيبات"، هذه الفرقة القادمة من القدس وتضم في صفوفها قدامى العازفين والمغنين، فأسموا فرقتهم "شيبات" اشتقاقاً من الشيب الذي غزا ما تبقى من شعر على رؤوسهم، ولكن ظروف ما عزلتني عن المشاركة بالعديد من المناسبات، فلم أتمكن من حضور ثلاث احتفالات بين قصر الثقافة والقصبة، كما لم أتمكن من حضور إنارة شجرة الأعياد على دوار المنارة، ولم يتح لي إلا حضور الحفل الختامي لتوزيع جوائز الكاتب الشاب لبرنامج الثقافة والفنون للعام الحالي، الذي أقامته مؤسسة عبد المحسن القطان ككل عام، وفي هذا العام وكما العام الماضي كان الحفل على خشبة مسرح وسينماتك القصبة، وقد تميز الحفل بفقراته الفنية الجميلة وأسلوب إخراجه بحلة بهية، وزاد في ذلك حضور السيد عبد المحسن القطان لأرض الوطن وحضور الاحتفال، وتميز الحفل بتقديم فرقة جديدة شابة اسمها فرقة "دار قنديل"، وهي فرقة قادمة من طولكرم، رغم كل الظروف الصعبة التي تحيط بتلك المحافظة، ورغم العمر القصير لهذه الفرقة التي لم تتجاوز العامين، إلا أنها تحاول تطوير صوتها وأسلوبها المميز من خلال تقديم أغانٍ من إنتاجها الخاص، وللحقيقة لا بد أن أشير لقوة الصوت والأداء المميز لعضو الفرقة أحمد طنبوز، وصاحبة الصوت الجميل نجاح مخلوف، التي فقدت البصر ولم تفقد الحس والبصيرة، مما دفعني فور انتهاء الفرقة من أمسيتها القصيرة التي لم تتجاوز أربع أغنيات، للبحث عن مدير الفرقة الشاب علاء أبو صاع وتهنئته وأعضاء الفرقة، على أدائهم المميز، وتقديم شكري للسيد عبد المحسن القطان لإعلان تبرعه بمبلغ مالي لدعم الفرقة، فهؤلاء الشباب المتميزين بحاجة لوقفة من يستطيع أن يقف إلى جانبهم.
أزمة المواطنين في شوارع رام الله وفرق الكشافة التي تجولها، هي من مميزات الأيام التي تسبق الأعياد، ورغم البرد الشديد في الأمسيات إلا أن الناس تتأخر إلى وقت متأخر من الليل، متجاوزة البرد مستدفئة بالذكرى والأحاديث في الشوارع وعبث الأطفال ومناداتهم.
هو العيد يصر أن يبحث في دهاليز الذاكرة والطفولة فيعيدني لاستكمال مسيرة بدأت الحديث عنها، رحلة الطفولة والشتات واللجوء، فقد غادرني الأهل إلى القدس وبقيت لاجئاً بين لاجئين، حتى أكملت السنة الدراسية في الصف الثاني الابتدائي واستلمت نتيجة المدرسة لأنتظر قدوم والدي، الذي وصل على دراجته النارية بقامته الفارعة ولباسه العسكري، فسارعت لتقبيل يده وتقديم شهادتي المدرسية إليه، فابتسم وقال لجدتي: سأغيب ساعة أو أكثر وآتي لأخذه، وغادرني وسارعت الجدة بالمناداة على أحد خالاتي الكثيرات، قائلة لها: "حمميه" ليكون جاهزاً للسفر لوالدته، وبعد الحمام ألبستني بنطالاً جميلاً أزرق اللون بصدر وأزرار ملونة لامعة، كان من نصيبي من "بقجة" ملابس كانت توزع على اللاجئين، واحتفظت به جدتي لي لهذه اللحظة، فقبلت يدها مودعاً وشاكراً وحين حضر والدي وضعني بسيارة سفريات متجهة للقدس، سار أمامنا على دراجته النارية وأنا أشعر بالزهو به وهو يسير أمامنا طوال الوقت وكأننا في موكب رسمي، وسارت السيارة بطريق متعرج باتجاه الأغوار، وتوقفنا بالعدسية قليلاً للتزود بالماء من هذا النبع التاريخي الذي لم يتوقف يوماً عن العطاء، وكنت أنظر من نافذة السيارة لهذه الطريق التي لم أراها إلا مرة واحدة قبل هذه المرة، حين ذهبت بالرحلة المدرسية للبحر الميت، وكنت معجباً بمنظر الأشجار حيناً والجبال الجرداء حيناً آخر، ورغم ارتفاع درجة الحرارة في الأغوار، إلا أني كنت أتأمل الطريق وأتخيل لقاءي مع أمي وأخي جهاد وأختي الصغيرة، حتى وصلنا الجسر الفاصل بين الضفتين، ووقفنا لتدقيق الهويات قليلاً وأنا أتأمل نهر الأردن، أنظر للماء وهو ينساب فيه ماراً من تحت الجسر، فأتذكر كل ما سمعته عن النهر وقدسيته وتعميد السيد المسيح فيه، فأشعر بالنشوة والفرح، حتى اجتزنا النهر وبدأنا الإطلالة على أريحا.. فلسطين الآن.. الوطن الذي لم ألتقيه سابقاً، كانت فلسطين في الذهن فكرة جميلة ورائعة ولكنها حزينة، وصلنا أريحا واسترحنا قليلاً، وفي هذه الوقفات القصيرة كنت أسارع لأكون بجوار والدي حتى يحين وقت المسير، وسألته إن كان المشوار ما زال طويلاً، فأجاب بالنفي وعدت للسيارة لنغادر أريحا إلى القدس، القدس التي ترتبط بأذهاننا بالقدسية والحرم القدسي وقبة الصخرة الذهبية، وأحاديث سمعتها عن مجاهد كبير استشهد وهو يقاتل، فارتبط بأذهاننا بالبطولة والرجولة والشجاعة، فليرحم الله القائد الشهيد عبد القادر الحسيني، وليرحم شهدائنا جميعاً.
هو الصباح إذاً والعيد يرافقه، أكمل جولتي وأنظر من البعيد للبحر السليب، لكن الغيوم تحجبه، والضباب يحجب زرقته التي تعيد لروحي بعض مما أفتقده من عبق جميل، فأذكر يافا وحيفا وبيسان والناصرة، أعود لصومعتي أحمل صحيفتي لأكتب وأحتسي قهوتي، أستذكر أحبة بعيدون وأهل فارقتهم، طيف قريب بعيد أشتاقه بقوة، آه يا طيفي الشقي الحلو أنت كم أفتقدك، أتفقد الطعام الذي أضعه للحمام والعصافير في حوض النباتات المتسلقة، أجدها قد أنهته بالكامل، أضيف بعض الحبوب والخبز للحوض، فلعل بعض الحمامات لم تأكل بسبب سيطرة كبيرات الحجم على البدايات، وقد اعتدت أن اترك لهذه الطيور البرية الطعام على النافذة، فلم تعد تخشى رؤيتي وهي تأكل مما قسم الله لها، أعد قهوتي المرة وابدأ بسماع شدو فيروز:
"كانت لنا من زمان بيارة جميلة ضيعة ظليلة ينام في أفيائها نيسان، ضيعتنا كان اسمها بيسان، خذوني إلى بيسان، إلى ضيعة الشتاء، هناك يعيش الحنان على الحفاف الرمادي، خذوني إلى الزهيرات إلى غفوة عند بابي، نعانق صمت التراب، أذكر يا بيسان يا ملعب الطفولة أفياءك الخجولة، وكل شيء كان، باب وشباكان، بيتنا في بيسان، خذوني مع الحساسين إلى الظلال التي تبكي، رفوف من العائدين على حنين لها تحكي".
صباحكم أجمل.
رام الله المحتلة
بعدستي الشخصية
العيد.. كل عام وأنتم بخير، أمنيات وأحلام ورسائل قصيرة يكتظ بها هاتفي المحمول وعلبة بريدي الالكترونية، أبتسم لهذه التقاليد الرقمية الحديثة بالتهنئة، بعد أن غزتنا التكنولوجيا والثورة الرقمية، أتجه لمصلى صلاة العيد وأتذكر عبارة لطيفة متداولة عن رام الله تقول: "في رام الله في أعياد الفطر والأضحى يكون أول من يعّيد عليك صاحبك المسيحي، وفي عيد الميلاد يكون أول من يعيّد عليك صاحبك المسلم"، أتذكر هذه العبارة الجميلة وأنا أمر من دوار الساعة، فيكون الصيدلي إبراهيم إيليا أول من يلتقيني ويعيّد عليّ، أقرر أن أجول بعد الصلاة رغم رذاذ الأمطار وبرودة الجو في رام الله قليلاً، الشوارع فارغة إلا من بعض باعة الصحف في بعض الزوايا، بعض محلات الجزارة لتوفير خدمة ذبح الأضاحي، والذين يبدأون جولة الأعياد على أرحامهم مبكرين، فمنذ اشتداد الحصار وحواجز التفتيش على مداخل المدن وبينها، أصبحت المسافات أكثر تباعداً وتأخذ أكثر وقتاً، فلم تعد هناك طرقاً مباشرة بين المدن، وأصبح التحرك بين المدن مغامرة، إضافة للوقت الطويل والزمن الذي يدمر الأعصاب، فوجود ما يزيد عن مائة وثلاثين مستوطنة وما ينوف عن خمسمائة حاجز احتلالي، كفيلة بزيادة التمزيق للأرض والتواصل.
عيد يعود وغزة تحترق بين حصار وقتل وتدمير، فأطفال غزة لن يجدوا فرحة لعيد ولا وقت لفرحة، فلا تكاد تجد أسرة إلا ودفعت ثمناً باهظاً من الدم والدمار، فمن شهداء الغدر الصهيوني الذين يستشهدون كل يوم، هذا الغدر الذي لا يفرق بين راية وراية، حتى وصل العدد إلى اثنا عشر شهيداً خلال يومين، مروراً بضحايا القتل والتعذيب والتشويه في صراع الفصائل، إلى الجوع الذي ينخر العظام والبطون في ظل حصار يكاد أن يمنع الهواء، وصولاً إلى قمع واضطهاد للحريات والبشر، في ظل سيطرة البندقية على الحكم المنخور وأنفاس البشر.
هو العيد الذي تلتئم فيه شمل العائلات والأُسر في العالم إلا في وطني، فكيف يمكن أن تتجمع ألاف العائلات، وأفرادها بين أسير وشهيد ومفقود ومنفي، وأنا كالعادة ومنذ سنوات أجول وحيداً، فلا أُسرة هنا ولا أبناء، وحتى الأصدقاء كل يغادر إلى أهله وبلدته، وأبقى وحيداً أنا ورام الله والياسمين، وإن سيختلف الوضع قليلاً بوجود بيت أخي هذا العيد، فألتقيهم على الغداء ونقضي بعض من الوقت، ثم أعود وأعتكف بصومعتي حتى تنتهي العطلة مستغلاً الوقت بما هو مفيد بين قلم وقرطاس وحاسوب، أسير في دروب رام الله وأشعر بالبرد يخترق مني العظام والمفاصل، أستعيد بعض من أيام مضت على رام الله وجمالها، فقد أضيئت أشجار الزينة في المنارة احتفاءً بالعيدين الأضحى والميلاد، وأقيم أكثر من احتفال فني في القصبة وقصر الثقافة، وكم كنت متشوقاً لحضور حفل فرقة "شيبات"، هذه الفرقة القادمة من القدس وتضم في صفوفها قدامى العازفين والمغنين، فأسموا فرقتهم "شيبات" اشتقاقاً من الشيب الذي غزا ما تبقى من شعر على رؤوسهم، ولكن ظروف ما عزلتني عن المشاركة بالعديد من المناسبات، فلم أتمكن من حضور ثلاث احتفالات بين قصر الثقافة والقصبة، كما لم أتمكن من حضور إنارة شجرة الأعياد على دوار المنارة، ولم يتح لي إلا حضور الحفل الختامي لتوزيع جوائز الكاتب الشاب لبرنامج الثقافة والفنون للعام الحالي، الذي أقامته مؤسسة عبد المحسن القطان ككل عام، وفي هذا العام وكما العام الماضي كان الحفل على خشبة مسرح وسينماتك القصبة، وقد تميز الحفل بفقراته الفنية الجميلة وأسلوب إخراجه بحلة بهية، وزاد في ذلك حضور السيد عبد المحسن القطان لأرض الوطن وحضور الاحتفال، وتميز الحفل بتقديم فرقة جديدة شابة اسمها فرقة "دار قنديل"، وهي فرقة قادمة من طولكرم، رغم كل الظروف الصعبة التي تحيط بتلك المحافظة، ورغم العمر القصير لهذه الفرقة التي لم تتجاوز العامين، إلا أنها تحاول تطوير صوتها وأسلوبها المميز من خلال تقديم أغانٍ من إنتاجها الخاص، وللحقيقة لا بد أن أشير لقوة الصوت والأداء المميز لعضو الفرقة أحمد طنبوز، وصاحبة الصوت الجميل نجاح مخلوف، التي فقدت البصر ولم تفقد الحس والبصيرة، مما دفعني فور انتهاء الفرقة من أمسيتها القصيرة التي لم تتجاوز أربع أغنيات، للبحث عن مدير الفرقة الشاب علاء أبو صاع وتهنئته وأعضاء الفرقة، على أدائهم المميز، وتقديم شكري للسيد عبد المحسن القطان لإعلان تبرعه بمبلغ مالي لدعم الفرقة، فهؤلاء الشباب المتميزين بحاجة لوقفة من يستطيع أن يقف إلى جانبهم.
أزمة المواطنين في شوارع رام الله وفرق الكشافة التي تجولها، هي من مميزات الأيام التي تسبق الأعياد، ورغم البرد الشديد في الأمسيات إلا أن الناس تتأخر إلى وقت متأخر من الليل، متجاوزة البرد مستدفئة بالذكرى والأحاديث في الشوارع وعبث الأطفال ومناداتهم.
هو العيد يصر أن يبحث في دهاليز الذاكرة والطفولة فيعيدني لاستكمال مسيرة بدأت الحديث عنها، رحلة الطفولة والشتات واللجوء، فقد غادرني الأهل إلى القدس وبقيت لاجئاً بين لاجئين، حتى أكملت السنة الدراسية في الصف الثاني الابتدائي واستلمت نتيجة المدرسة لأنتظر قدوم والدي، الذي وصل على دراجته النارية بقامته الفارعة ولباسه العسكري، فسارعت لتقبيل يده وتقديم شهادتي المدرسية إليه، فابتسم وقال لجدتي: سأغيب ساعة أو أكثر وآتي لأخذه، وغادرني وسارعت الجدة بالمناداة على أحد خالاتي الكثيرات، قائلة لها: "حمميه" ليكون جاهزاً للسفر لوالدته، وبعد الحمام ألبستني بنطالاً جميلاً أزرق اللون بصدر وأزرار ملونة لامعة، كان من نصيبي من "بقجة" ملابس كانت توزع على اللاجئين، واحتفظت به جدتي لي لهذه اللحظة، فقبلت يدها مودعاً وشاكراً وحين حضر والدي وضعني بسيارة سفريات متجهة للقدس، سار أمامنا على دراجته النارية وأنا أشعر بالزهو به وهو يسير أمامنا طوال الوقت وكأننا في موكب رسمي، وسارت السيارة بطريق متعرج باتجاه الأغوار، وتوقفنا بالعدسية قليلاً للتزود بالماء من هذا النبع التاريخي الذي لم يتوقف يوماً عن العطاء، وكنت أنظر من نافذة السيارة لهذه الطريق التي لم أراها إلا مرة واحدة قبل هذه المرة، حين ذهبت بالرحلة المدرسية للبحر الميت، وكنت معجباً بمنظر الأشجار حيناً والجبال الجرداء حيناً آخر، ورغم ارتفاع درجة الحرارة في الأغوار، إلا أني كنت أتأمل الطريق وأتخيل لقاءي مع أمي وأخي جهاد وأختي الصغيرة، حتى وصلنا الجسر الفاصل بين الضفتين، ووقفنا لتدقيق الهويات قليلاً وأنا أتأمل نهر الأردن، أنظر للماء وهو ينساب فيه ماراً من تحت الجسر، فأتذكر كل ما سمعته عن النهر وقدسيته وتعميد السيد المسيح فيه، فأشعر بالنشوة والفرح، حتى اجتزنا النهر وبدأنا الإطلالة على أريحا.. فلسطين الآن.. الوطن الذي لم ألتقيه سابقاً، كانت فلسطين في الذهن فكرة جميلة ورائعة ولكنها حزينة، وصلنا أريحا واسترحنا قليلاً، وفي هذه الوقفات القصيرة كنت أسارع لأكون بجوار والدي حتى يحين وقت المسير، وسألته إن كان المشوار ما زال طويلاً، فأجاب بالنفي وعدت للسيارة لنغادر أريحا إلى القدس، القدس التي ترتبط بأذهاننا بالقدسية والحرم القدسي وقبة الصخرة الذهبية، وأحاديث سمعتها عن مجاهد كبير استشهد وهو يقاتل، فارتبط بأذهاننا بالبطولة والرجولة والشجاعة، فليرحم الله القائد الشهيد عبد القادر الحسيني، وليرحم شهدائنا جميعاً.
هو الصباح إذاً والعيد يرافقه، أكمل جولتي وأنظر من البعيد للبحر السليب، لكن الغيوم تحجبه، والضباب يحجب زرقته التي تعيد لروحي بعض مما أفتقده من عبق جميل، فأذكر يافا وحيفا وبيسان والناصرة، أعود لصومعتي أحمل صحيفتي لأكتب وأحتسي قهوتي، أستذكر أحبة بعيدون وأهل فارقتهم، طيف قريب بعيد أشتاقه بقوة، آه يا طيفي الشقي الحلو أنت كم أفتقدك، أتفقد الطعام الذي أضعه للحمام والعصافير في حوض النباتات المتسلقة، أجدها قد أنهته بالكامل، أضيف بعض الحبوب والخبز للحوض، فلعل بعض الحمامات لم تأكل بسبب سيطرة كبيرات الحجم على البدايات، وقد اعتدت أن اترك لهذه الطيور البرية الطعام على النافذة، فلم تعد تخشى رؤيتي وهي تأكل مما قسم الله لها، أعد قهوتي المرة وابدأ بسماع شدو فيروز:
"كانت لنا من زمان بيارة جميلة ضيعة ظليلة ينام في أفيائها نيسان، ضيعتنا كان اسمها بيسان، خذوني إلى بيسان، إلى ضيعة الشتاء، هناك يعيش الحنان على الحفاف الرمادي، خذوني إلى الزهيرات إلى غفوة عند بابي، نعانق صمت التراب، أذكر يا بيسان يا ملعب الطفولة أفياءك الخجولة، وكل شيء كان، باب وشباكان، بيتنا في بيسان، خذوني مع الحساسين إلى الظلال التي تبكي، رفوف من العائدين على حنين لها تحكي".
صباحكم أجمل.
رام الله المحتلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق