نبيل عودة
الثقافة ، أو الابداع الثقافي بالتحديد يحتل حيزا واسعا من تفكيرنا كمبدعين . هل واقع مجتمعنا يتماثل مع أحلامنا الابداعية ؟ وهل استطعنا كمبدعين ان نتحول الى الصوت المعبر عن واقعنا ، والمؤثر على صيرورتنا الفكرية ؟
للاذاعات برامج ثقافية ، للتلفزيونات أيضا برامج ثقافية ، مواقع الانترنت ملأى بالزوايا الثقافية ، وللصحافة المكتوبة توجد صفحات ثقافية ، وصدقوا أو لا تصدقوا ، حتى لصحافتنا العربية في اسرائيل توجد زوايا ثقافية ، أحيانا مع تسمية محرر ثقافي وعلى الأغلب بلا تسمية محرر ثقافي ، ورغم ذلك بالكاد يقع القارئ العاشق للأدب على ما يستحق جهد القراءة. فهل يستهجن أحد ان صحافتنا لم تعد تشد جمهور الأدباء والمثقفين ؟ وهل نستهجن ان الصفحات الثقافية هي أول ما تلغى لجلالة الاعلان التجاري ؟ وهل من شك بعد ما ذكرته ، بأن المثقفين في مجتمعنا يعلوهم الغبار والنسيان ؟
أعرف ان كلامي يثير غضب الكثيرين ، ولكني لست ممن يكتبون ، أو يتحدثون .. من أجل رفع أسهمهم ، ولأكون ولدا طيبا وخلوقا بشهادات بعض المتأدبين ، ولأكسب أعجاب بعض المقعدين ثقافيا، الذين ضاعفوا احباط ثقافتنا.. ولألحق ربعي في مديح الظلال الثقافية ، ولاصبح "مقياسا نقديا" له طوله وعرضه المعروف والثابت في " حلقة الذكر " النقدية ، نقد يصح وصفه بأنه "مديح واعجاب مع سبق الاصرار والترصد" أو "نقدا عشائريا " بمفهوم ما . وأعرف أكثر ان ما أتركه من غضب يجد دعما وتأييدا من الأكثرية الصامتة والمتألمة لحالتنا الثقافية ، ليس عجزا ، انما بعدا عن المواجهة التي لن تظل مواجهة ثقافية ، كما يبررون صمتهم .
لا أقبل الصمت من أي مبدع أو صاحب رأي ، وهم بذلك ينفون أنفسهم ويشرعون الأبواب لمزيد من الضياع الثقافي .
الذي اريد ان أقوله باختصار بعد هذه المقدمة ، الاستفزازية مع معرفة ، ان حياتنا الثقافية تفتقد للفعل الثقافي . نفتقد لحياة ثقافية نشطة ولحركة ثقافية قادرة على التأثير . حركة لها كيان وصوت وقرار .
تابعت في الأشهر الأخيرة نشاطات ثقافية عدة ، لم تزدني تفاؤلا بقدر ما أشعرتني بعمق أزمتنا . وعلى رأس هذه الأزمة اندماج العديدين من أصحاب القلم والرأي الثقافي والفكري ، بالتحايل الثقافي بعيدا عن النقد الثقافي ، أو ببساطة جارحة ، بالتزوير الثقافي ، متناسين أن صفة المثقف التي يلتصقون بها ،لا تكتمل بدون الاستقامة الشخصية والمصداقية الثقافية.
ان غياب المصداقية من فعلنا الثقافي له اسقاطات سلبية ، آنية وعلى المدى البعيد ، على تطور حركتنا الثقافية وجعلها حركة فكرية أجتماعية لها صوتها المسموع والمؤثر .
هل سرا أن بعض الحركات الثقافية أوصلت ممثليها لقمة القرار السياسي – الرئيس هافل ، الشاعر والمسرحي ، في التشيك مثلا ؟ وهل سرا ان موقف المثقفين من قضايا مجتمعهم وعالمهم يشكل حاجزا امام الكثير من القرارات الخرقاء لدول عديدة في العالم ؟ وهل نتجاهل ان صوت المثقف في مجتمع حضاري أقوى من البنادق في التأثير على الرأي العام – مثلا ، الكاتب العبري دافيد غروسمان في خطابه الشهير امام 100 الف انسان في تل أبيب والذي أحدث ضجة داخل اسرائيل وردود فعل واسعة خارج اسرائيل أيضا ؟
للأسف هذه ليست حالنا .. هنا في المجتمع العربي داخل اسرائيل ، والى حد ما في العالم العربي . حقا بعض المثقفين العرب باتوا يشكلون خطرا على أمن "الفساد الحاكم" أو " الحكم الفاسد " ( ما الفرق ؟) في عالمنا العربي . المثقفون يحاكمون ، يسجنون ، يقتلون ، ويتعرضون لسيف الارهاب السلطوى والغيبي .. وكلما ازداد الارهاب على الثقافة والمثقفين ، كلما أيقنت ، على الأقل .. ان ثقافتنا العربية ما زالت بخير .
ما قيمة الثقافة اذا لم تحدث حركة اجتماعية ؟ .. حركة فكرية ؟.. نقدا صريحا .. نقاشا ... حوارا .. تعدد آراء .. تعدد أذواق .. تعدد مفاهيم .. تعدد تجارب ، وتعدد تحديات ؟
ما قيمة المثقف اذا كان ما يكتبه يذهب للدفن بلا مراسيم ، وبدون فتح ديوان للتعازي ؟ ما قيمة الكتابة اذا " ولدت ميتة " على صفحات وسائل الاعلام ، وكل أثرها انها تعبئ فراغا ..؟
من هنا رؤيتي لواقع أزمة ثقافتنا العربية في اسرائيل ، بانه توجد قطيعة شبه كاملة في العلاقات بين حياتنا الثقافية والفكرية من جهة ، وبين القارئ ،والمجتمع الذي يدعي الكثيرون انهم يمثلوه في ابداعهم ونصوصهم المختلفة. وما يزيد أزمتنا غياب واسع للثقافة النقدية . ولكن من تجربتني أعرف ان مجتمعنا متعطش للصدق مهما كان مؤلما .. ومتعطش للنقد بكل مجالاته وامتداداته .
نحن مجتمع متهم أيضا انه لا يعطي للمثقفين دورا ، ومعروف ان أصحاب الأدوار وصلوا بدون وجه حق ، وفي غفلة من الزمن ، عبر تسلق أجسام سياسية ، وهم بالكاد يمثلون رأيا يستحق الاجماع ، أو الانصات اليه . وأصحاب الأدوار الاجتماعية أو السياسية بحالة انقطاع متواصلة عن الفكر الثقافي ، تشغلهم مكانتهم ، حتى حولوا مفهوم القائد الى مفهوم شخصاني ، ومفهوم الأديب الى مفهوم وظيفي.
من المؤسف أن الثقافة في حياتنا لا تشكل الا بندا غير قابل للتنفيذ في أجندة المؤسسات والأحزاب ، وهي نتيجة تلقائية الرؤية التي ينطلق منها أصحاب المواقع ، ولا أستثني أحدا ، وبغالبيتهم لا يرون أهمية الدور الاجتماعي والحضاري للثقافة ، أهمية دورها التربوي ، قيمتها في النضال الاجتماعي والسياسي ، ودورها في صيرورة انسان المستقبل وتشكيل عالمه الفكري .
ان تكتب قصيدة جميلة ، قصيدة حب مثلا ، هذا أمر جيد ورائع ... والسؤال ، عدا جمالية اللغة والموسيقى والمشاعر ، هل أوصلت ، ايها الشاعر أو القصصي ، في حالة النص القصصي ، هل أوصلت رسالة حضارية ؟ فكرة انسانية ما ؟ تجربة حياتية تستحق جهد القراءة ؟ نقدا ما حول واقع يجب ان نتجاوزه ؟
الأدب والثقافة لهما وظيفة اجتماعية ، ومهمة انسانية عامة . عبر الابداع الأدبي انت تقوم بنشاط جديد . نشاط لذاتك ، ونشاط لمجتمعك .نشاط للعالم الخارجي حولك ، ونشاط للعالم الأكثر اتساعا من رقعتك المحدودة جغرافيا . وقد يشكل الابداع ولادة حقيقية جديدة للمبدع . نقلة نوعية ، فكرا وموقفا وابداعا.
الابداع هو فعل هادف منظم ومسؤول نحو هدف . ادوات المبدع هنا هي اللغة والفكر ، ولكن اللغة لوحدها ليست هي الهدف ، كما لاحظت في كتابات كثيرة . لا شك ان استعمال اللغة ومفرداتها ، هو فن بحد ذاته ، ويضفي على الأبداع الحقيقي جماليات خاصة تعمق قيمة الابداع وأثره.
الانسان الذي لا يملك هدفا في الحياة ، هو بنفس الوقت لا يملك مشروعا ثقافيا ، حتى لو كان استاذا في علم اللغويات.
يقتضي ان يكون للأديب أو المثقف ، مشروع حياة يرتبط بقضايا مجتمعه وعالمه.
ما هو العالم الذي يريد ان يعيش فيه ؟ هل يريده مجتمعا مغلقا أم مجتمعا مفتوحا؟ مجتمعا حرا أم مجتمعا خاضعا؟ عالما يكفل حقوق الانسان أم عالم يميز بين البشر؟
بالطبع لا يمكن نفي ذاتية المبدع ، خصوصياته... وتطويرها لآفاق أكثر اتساعا في تفكيره وقدرته على التأثير .
للأسف هذا ما أفتقده في الأكثرية المطلقة مما ينشر من ابداعات شعرية أو قصصية ، ومن نقد أدبي ومحاورات فكرية وثقافية... وحتى من مقالات ومواقف سياسية.
ان ما نحتاجه ليس المثقف الخامل ، الباحث عن المصفقين .. انما المثقف النقدي ، المثقف الذي ينقد ذاته وتجربته ،وان يكون ارتباطه الأساسي مع الثقافة بمفهومها الكوني وليس القبلي العشائري أو القومي المتعصب. وان يكون مثقفا متحررا من التبعية أي كان نوعها وشكلها الفكري او السياسي أو الاجتماعي.
لنا تجربة غنية . حققنا انجازات ثقافية في مسيرتنا غير السهلة. ونحن قادرون على مواصلة المسيرة .. والصعود من جديد!!
نبيل عودة – كاتب ناقد واعلامي - الناصرة
nabiloudeh@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق