زياد جيوسي
مبنى المحكمة العثمانية في رام الله بعد الترميم
بعدستي الشخصية
هي رام الله تزداد جمالا وحلاوة، تصر أن نحبها كل يوم أكثر، تتماهى كعروس جميلة، رغم كل قسوة الاحتلال والحصار عليها وعلى باقي الوطن، إلا أنها تصر أن تكون أجمل، فما من ليلة تمر إلا وخفافيش الاحتلال تتسلل إليها تعيث في جنباتها تخريباً وإزعاجاً، وما من ليلة إلا ما ندر تمر بدون أن تصحو بعض من أحيائها على صوت الرصاص والقنابل الصوتية والتفجيرات، وما أن يشرق الفجر إلا وتكون رام الله تنفض عن وجهها الحسن كل البثور التي يحاول الاحتلال تشويه وجهها فيها.
كان المفترض أن أكتب الأربعاء الماضي صباح لرام الله كعادتي كل صباح أربعاء، لكن بعض من غيوم سوداء عكرت سمائي، فلم أتمكن في الصباح من تجميع شتات الذهن والكتابة، رغم زخم تلافيف الذاكرة بالمستجد والجميل، ولعل من أجمل أحداث الأسبوع الماضي هو استجابة بلدية رام الله أخيراً، لمطلبنا المتكرر بإزالة "الخازوق" المعدني البشع، الذي كان يلتف حول عامود المنارة الحجري وأسودها الرخامية، فكنت أشعر كلما رأيته أنه قضبان سجن تكتم النفس والروح، فأقول: هذه ليست منارتنا، فلنا منارتنا ولهم منارتهم، حتى كان ذلك اليوم الجميل حين التقيت الصديق كامل أبو جبيل مسئول اللجنة الثقافية في بلدية رام الله، واقفاً في ميدان المنارة مع بعض الرافعات، فألقى بوجهي البشارة بأنه تقرر إزالة هذا "الخازوق" وهو يعرف كم كتبت عن ذلك وكم تحدثت في اللقاءات التي تعقدها البلدية مع المواطنين عن ذلك، فسارعت إلى صومعتي لأحضر عدستي كي أسجل هذه اللحظة الجميلة، وها قد زال "خازوق" من حياتنا، فمتى يا ترى أتمكن من تسجيل لحظة إزالة بقية الخوازيق، الصغيرة منها والكبيرة "محلية" الصنع، إضافة "لخازوق" الاحتلال.
أمسيات رام الله في الفترة الماضية حفلت بالكثير من النشاطات الثقافية والفنية، فمن أمسية موسيقية متميزة للفنانة الفرنسية العملاقة "جويل لياندر" عازفة الكونتراباص، في حاضرة مركز خليل السكاكيني حاضنة الثقافة المتميزة في رام الله، إلى مسيرة لرفع الستار عن لوحة حجرية منقوش عليها بعض من فقرات وثيقة الاستقلال، أشرف عليها ونظمها في كافة المحافظات المركز الفلسطيني للسلام والديمقراطية، إلى مناقشة كتاب مهم وقيم في نفس المركز، مروراً بالاحتفال المميز بذكرى خمسون عاماً على تأسيس مكتبة بلدية رام الله العامة، وهذا الاحتفال كان إشعال الشعلة في سلسلة فعاليات بهذه المناسبة، ستترافق مع احتفالات مائة عام على تأسيس مجلس بلدية رام الله، إلى عرض سينمائي ومناقشة لفيلم يتحدث عن بدايات انطلاقة الثورة في مؤسسة عبد المحسن القطان ليلة الأمس، مروراً بدعوتي لحضور ذكرى انطلاقة أحد الفصائل الفلسطينية، وقد حضرت الاحتفال رغم توقفي منذ زمن بالمشاركة بمثل هذه المناسبات، فهذا الفصيل رغم عدم التقائي معه بالكثير من الأفكار، إلا أن الحضور كان فرصة طيبة للقاء العديد من مناضليه، الذين جمعتنا البدايات في النضال رغم اختلاف الفصائل، وجمعتنا السجون والمعتقلات العديدة، وأشهد لمناضليه الذين عرفتهم بالصلابة والثبات، إلى بعض اللقاءات الطيبة مع أصدقاء وصديقات في جلسات حوار مسائية في بيوت أو مقاهي جميلة.
وربما ساعد في زيادة نشاطي ابتعادي عن الحاسوب معظم الوقت، بعد تجدد ألام الرقبة والفقرات مع بدء موسم البرد، حتى أني اضطررت للاستعانة بصديق لطباعة بعض من نصوصي النقدية التي كتبتها ونشرتها خلال هذه الفترة، وهذا أتاح لي أيضاً أن أقرأ أكثر بكثير من الأيام الاعتيادية، ولعل الغيوم التي عكرت صفوي ولم تترك لي المجال للكتابة صبيحة الأربعاء الماضي، جددت الشوق لعمّان حين وجدت نفسي عاجزاً من الوصول إليها في وقت حاجة ملحة لأكون هناك مع أسرتي، في ظل هذا الأسر المفروض علي منذ عشرة سنوات في رام الله في ظل ضغط احتلال بشع.
هي عمان توأم رام الله في الذاكرة، ذكريات الطفولة بحلوها ومرها وما زلت في بداية ستينات القرن الماضي وتحديداً في العام ألف وتسعمائة وواحد وستون والعام الذي يليه، حين كنت في الأول الابتدائي، وتحدثت في المرة الماضية عن ذكريات البدء بالدراسة بحلوها ومرها، وفي تلك الفترة أذكر بناء مسجد أبو درويش في جبل الأشرفية في عمان، وكان في طريقة بنائه وحجارته السوداء والبيضاء، معلماً متميزاً بالجمال، وحين الافتتاح تدافع الناس من كل المناطق لزيارته وتأمل جماله وزخارفه والإضاءة فيه، حتى أن الحكومة اضطرت لوضع نقطة ثابتة من الشرطة لتنظيم تدافع الناس للتأمل والفرجة، وتحديد مدة البقاء في الزيارة، حتى يتاح للأفواج الأخرى الدخول، وكم بهرت وأنا بذلك السن من جمال المسجد حين دخلته ووالدتي تمسك بيدي، حتى لا أضيع في الازدحام منها، وبقي لهذا المعلم أثر كبير في روحي وبقيت وحتى غادرت عمان، كلما مررت بجواره أترحم على الحاج أبو درويش الذي بناه، هذا الحاج الطيب القادم من القوقاز، والذي ترك هذا المسجد صدقة جارية عن روحه، وقد أتيح لي أن أدرس في المدرسة التي تشكل قاعدة المسجد أربعة سنوات، مما زاد من تأثير هذا المعلم الجميل على روحي.
انتهى الفصل الأول من الصف الأول الابتدائي، وإذا بوالدي ينتقل عمله إلى مدينة القدس، وكان لا بد من اللحاق به، فاكترى لنا بيتاً وبدأت عملية الاستعداد للرحيل، إلا أني لم أتمكن من الحصول على مقعد دراسي في القدس، فتقرر أن أبقى في عمان عند بيت جدي لأمي باقي السنة الدراسية، مما جعلني أشعر باليتم، فهذه هي المرة الأولى التي ابتعد فيها عن الوالدة أطال الله بعمرها، وعن أخي الأصغر مني جهاد شقيق الروح وتوأمها، وصديقي الأقرب للروح منذ الطفولة وحتى الآن، فحبست الدموع حين غادرني أهلي، وبقيت في بيت الجد رحمه الله، وكانت جدتي رحمها الله قاسية بالتعامل رغم أنها أمي بالرضاعة أيضاً، ولعل الظروف الصعبة كانت تجبرها على ذلك، فالجدة ولود والبيت صغير والأعداد كبيرة والظروف صعبة، وهي لا تتوقف عن تذكر ذكريات العز في يافا، فهي كانت المدللة عند جدي، فقد كانت ثالث زوجاته وأجملهن، فاكتفى بها زوجة بعد أن افترق عن زوجاته السابقات، وكانت قسوة الجدة يذيبها الحنان الهائل والكبير من الجد الرائع والحنون، الطيب إلى درجة أبكت كل من عرفه حين انتقل لرحمته تعالى في أواخر سبعينات القرن الماضي، والذي حرمتني قضبان المعتقلات من المشاركة في جنازته ووداعه الوداع الأخير.
ما أصعب الوحدة التي عانيتها والفراق عن والدتي وشقيقي وشقيقتي الصغيرة، فحقيقة شعرت باليتم والألم، وانضممت لاجئ بين لاجئين، وتفتحت عيناي على مفهوم اللاجئ المطرود من وطنه، فبدأت أعرف عن حيفا وعن يافا وبدأت أحفظ أسماء لمدن وقرى طرد أصحابها منها واستولى عليها اليهود، ولعل أحاديث جدي في الأمسيات لعبت دوراً كبيراً في تفتح الوعي على فلسطينيتي وعلى وطن أستلب منا، وعلى حلم يحلم به الجميع.. العودة للوطن.
ولعل هذا الألم والشعور بالوحدة ساهما بزيادة مشاكستي بتلك الفترة، فازدادت معاركي في الحارة، ففي المخيم لا بد أن تكون أولا تكون، وقد تحدثت عن هذه المرحلة في نص سابق أسميته "صباحكم أجمل \ ذاكرة مخيم"، فلا داعي للتكرار، لكن تلك الأيام كانت صعبة جداً في الجانب النفسي وفي الجانب المعيشي، فكانت الجدة رحمها الله تسكب لكل منا حصته من الطعام بماعون صغير، وتوزع لكل واحد منا قطعة خبز محددة، فشعرت بالفارق بين بيت أهلي وبيت الجدة، فكم من مرة صحوت من نومي على جوع ينهش أمعائي، ولا أجد إلا الماء لإسكاته.
هذا هو الواقع الذي كنا نحياه بدون تجميل ولا رتوش، وها أنا أفيق من تدفق الذاكرة على صوت هديل الحمام الذي بدأ يحط على نافذتي، وكأنه يقول لي: هيا استعد للتجوال متأبطاً ذراع محبوبتك رام الله، فهي تنتظرك مع قطرات الندى والهواء البكر النقي الذي يحمل عبق يافا، فلعلك تحلم ولو من بعيد بأمواج زرقاء تحلم بها وبجمالها، وأنفاس عطرة تعبق بوجهك فتختلط بأنفاسك، فتعيش معها لحظات من حلم لا يتحقق.
أعود من التجوال لأواصل احتساء قهوتي، أستذكر طيفاً كان هنا وحروف خمسة، أجول في فسحة جمال ذهنية مع شدو فيروز..
غاب نهار آخر، غربتنا زادت نهار، واقتربت عودتنا نهار آخر، أنا وظل الحور والخريف، ويفوت الرصيف يمعن في الفراغ والغبار، ودعني طير وقال إلى بلادي أمضي، ذكرني بطردي وكبر السؤال.
صباحكم أجمل.
بعدستي الشخصية
هي رام الله تزداد جمالا وحلاوة، تصر أن نحبها كل يوم أكثر، تتماهى كعروس جميلة، رغم كل قسوة الاحتلال والحصار عليها وعلى باقي الوطن، إلا أنها تصر أن تكون أجمل، فما من ليلة تمر إلا وخفافيش الاحتلال تتسلل إليها تعيث في جنباتها تخريباً وإزعاجاً، وما من ليلة إلا ما ندر تمر بدون أن تصحو بعض من أحيائها على صوت الرصاص والقنابل الصوتية والتفجيرات، وما أن يشرق الفجر إلا وتكون رام الله تنفض عن وجهها الحسن كل البثور التي يحاول الاحتلال تشويه وجهها فيها.
كان المفترض أن أكتب الأربعاء الماضي صباح لرام الله كعادتي كل صباح أربعاء، لكن بعض من غيوم سوداء عكرت سمائي، فلم أتمكن في الصباح من تجميع شتات الذهن والكتابة، رغم زخم تلافيف الذاكرة بالمستجد والجميل، ولعل من أجمل أحداث الأسبوع الماضي هو استجابة بلدية رام الله أخيراً، لمطلبنا المتكرر بإزالة "الخازوق" المعدني البشع، الذي كان يلتف حول عامود المنارة الحجري وأسودها الرخامية، فكنت أشعر كلما رأيته أنه قضبان سجن تكتم النفس والروح، فأقول: هذه ليست منارتنا، فلنا منارتنا ولهم منارتهم، حتى كان ذلك اليوم الجميل حين التقيت الصديق كامل أبو جبيل مسئول اللجنة الثقافية في بلدية رام الله، واقفاً في ميدان المنارة مع بعض الرافعات، فألقى بوجهي البشارة بأنه تقرر إزالة هذا "الخازوق" وهو يعرف كم كتبت عن ذلك وكم تحدثت في اللقاءات التي تعقدها البلدية مع المواطنين عن ذلك، فسارعت إلى صومعتي لأحضر عدستي كي أسجل هذه اللحظة الجميلة، وها قد زال "خازوق" من حياتنا، فمتى يا ترى أتمكن من تسجيل لحظة إزالة بقية الخوازيق، الصغيرة منها والكبيرة "محلية" الصنع، إضافة "لخازوق" الاحتلال.
أمسيات رام الله في الفترة الماضية حفلت بالكثير من النشاطات الثقافية والفنية، فمن أمسية موسيقية متميزة للفنانة الفرنسية العملاقة "جويل لياندر" عازفة الكونتراباص، في حاضرة مركز خليل السكاكيني حاضنة الثقافة المتميزة في رام الله، إلى مسيرة لرفع الستار عن لوحة حجرية منقوش عليها بعض من فقرات وثيقة الاستقلال، أشرف عليها ونظمها في كافة المحافظات المركز الفلسطيني للسلام والديمقراطية، إلى مناقشة كتاب مهم وقيم في نفس المركز، مروراً بالاحتفال المميز بذكرى خمسون عاماً على تأسيس مكتبة بلدية رام الله العامة، وهذا الاحتفال كان إشعال الشعلة في سلسلة فعاليات بهذه المناسبة، ستترافق مع احتفالات مائة عام على تأسيس مجلس بلدية رام الله، إلى عرض سينمائي ومناقشة لفيلم يتحدث عن بدايات انطلاقة الثورة في مؤسسة عبد المحسن القطان ليلة الأمس، مروراً بدعوتي لحضور ذكرى انطلاقة أحد الفصائل الفلسطينية، وقد حضرت الاحتفال رغم توقفي منذ زمن بالمشاركة بمثل هذه المناسبات، فهذا الفصيل رغم عدم التقائي معه بالكثير من الأفكار، إلا أن الحضور كان فرصة طيبة للقاء العديد من مناضليه، الذين جمعتنا البدايات في النضال رغم اختلاف الفصائل، وجمعتنا السجون والمعتقلات العديدة، وأشهد لمناضليه الذين عرفتهم بالصلابة والثبات، إلى بعض اللقاءات الطيبة مع أصدقاء وصديقات في جلسات حوار مسائية في بيوت أو مقاهي جميلة.
وربما ساعد في زيادة نشاطي ابتعادي عن الحاسوب معظم الوقت، بعد تجدد ألام الرقبة والفقرات مع بدء موسم البرد، حتى أني اضطررت للاستعانة بصديق لطباعة بعض من نصوصي النقدية التي كتبتها ونشرتها خلال هذه الفترة، وهذا أتاح لي أيضاً أن أقرأ أكثر بكثير من الأيام الاعتيادية، ولعل الغيوم التي عكرت صفوي ولم تترك لي المجال للكتابة صبيحة الأربعاء الماضي، جددت الشوق لعمّان حين وجدت نفسي عاجزاً من الوصول إليها في وقت حاجة ملحة لأكون هناك مع أسرتي، في ظل هذا الأسر المفروض علي منذ عشرة سنوات في رام الله في ظل ضغط احتلال بشع.
هي عمان توأم رام الله في الذاكرة، ذكريات الطفولة بحلوها ومرها وما زلت في بداية ستينات القرن الماضي وتحديداً في العام ألف وتسعمائة وواحد وستون والعام الذي يليه، حين كنت في الأول الابتدائي، وتحدثت في المرة الماضية عن ذكريات البدء بالدراسة بحلوها ومرها، وفي تلك الفترة أذكر بناء مسجد أبو درويش في جبل الأشرفية في عمان، وكان في طريقة بنائه وحجارته السوداء والبيضاء، معلماً متميزاً بالجمال، وحين الافتتاح تدافع الناس من كل المناطق لزيارته وتأمل جماله وزخارفه والإضاءة فيه، حتى أن الحكومة اضطرت لوضع نقطة ثابتة من الشرطة لتنظيم تدافع الناس للتأمل والفرجة، وتحديد مدة البقاء في الزيارة، حتى يتاح للأفواج الأخرى الدخول، وكم بهرت وأنا بذلك السن من جمال المسجد حين دخلته ووالدتي تمسك بيدي، حتى لا أضيع في الازدحام منها، وبقي لهذا المعلم أثر كبير في روحي وبقيت وحتى غادرت عمان، كلما مررت بجواره أترحم على الحاج أبو درويش الذي بناه، هذا الحاج الطيب القادم من القوقاز، والذي ترك هذا المسجد صدقة جارية عن روحه، وقد أتيح لي أن أدرس في المدرسة التي تشكل قاعدة المسجد أربعة سنوات، مما زاد من تأثير هذا المعلم الجميل على روحي.
انتهى الفصل الأول من الصف الأول الابتدائي، وإذا بوالدي ينتقل عمله إلى مدينة القدس، وكان لا بد من اللحاق به، فاكترى لنا بيتاً وبدأت عملية الاستعداد للرحيل، إلا أني لم أتمكن من الحصول على مقعد دراسي في القدس، فتقرر أن أبقى في عمان عند بيت جدي لأمي باقي السنة الدراسية، مما جعلني أشعر باليتم، فهذه هي المرة الأولى التي ابتعد فيها عن الوالدة أطال الله بعمرها، وعن أخي الأصغر مني جهاد شقيق الروح وتوأمها، وصديقي الأقرب للروح منذ الطفولة وحتى الآن، فحبست الدموع حين غادرني أهلي، وبقيت في بيت الجد رحمه الله، وكانت جدتي رحمها الله قاسية بالتعامل رغم أنها أمي بالرضاعة أيضاً، ولعل الظروف الصعبة كانت تجبرها على ذلك، فالجدة ولود والبيت صغير والأعداد كبيرة والظروف صعبة، وهي لا تتوقف عن تذكر ذكريات العز في يافا، فهي كانت المدللة عند جدي، فقد كانت ثالث زوجاته وأجملهن، فاكتفى بها زوجة بعد أن افترق عن زوجاته السابقات، وكانت قسوة الجدة يذيبها الحنان الهائل والكبير من الجد الرائع والحنون، الطيب إلى درجة أبكت كل من عرفه حين انتقل لرحمته تعالى في أواخر سبعينات القرن الماضي، والذي حرمتني قضبان المعتقلات من المشاركة في جنازته ووداعه الوداع الأخير.
ما أصعب الوحدة التي عانيتها والفراق عن والدتي وشقيقي وشقيقتي الصغيرة، فحقيقة شعرت باليتم والألم، وانضممت لاجئ بين لاجئين، وتفتحت عيناي على مفهوم اللاجئ المطرود من وطنه، فبدأت أعرف عن حيفا وعن يافا وبدأت أحفظ أسماء لمدن وقرى طرد أصحابها منها واستولى عليها اليهود، ولعل أحاديث جدي في الأمسيات لعبت دوراً كبيراً في تفتح الوعي على فلسطينيتي وعلى وطن أستلب منا، وعلى حلم يحلم به الجميع.. العودة للوطن.
ولعل هذا الألم والشعور بالوحدة ساهما بزيادة مشاكستي بتلك الفترة، فازدادت معاركي في الحارة، ففي المخيم لا بد أن تكون أولا تكون، وقد تحدثت عن هذه المرحلة في نص سابق أسميته "صباحكم أجمل \ ذاكرة مخيم"، فلا داعي للتكرار، لكن تلك الأيام كانت صعبة جداً في الجانب النفسي وفي الجانب المعيشي، فكانت الجدة رحمها الله تسكب لكل منا حصته من الطعام بماعون صغير، وتوزع لكل واحد منا قطعة خبز محددة، فشعرت بالفارق بين بيت أهلي وبيت الجدة، فكم من مرة صحوت من نومي على جوع ينهش أمعائي، ولا أجد إلا الماء لإسكاته.
هذا هو الواقع الذي كنا نحياه بدون تجميل ولا رتوش، وها أنا أفيق من تدفق الذاكرة على صوت هديل الحمام الذي بدأ يحط على نافذتي، وكأنه يقول لي: هيا استعد للتجوال متأبطاً ذراع محبوبتك رام الله، فهي تنتظرك مع قطرات الندى والهواء البكر النقي الذي يحمل عبق يافا، فلعلك تحلم ولو من بعيد بأمواج زرقاء تحلم بها وبجمالها، وأنفاس عطرة تعبق بوجهك فتختلط بأنفاسك، فتعيش معها لحظات من حلم لا يتحقق.
أعود من التجوال لأواصل احتساء قهوتي، أستذكر طيفاً كان هنا وحروف خمسة، أجول في فسحة جمال ذهنية مع شدو فيروز..
غاب نهار آخر، غربتنا زادت نهار، واقتربت عودتنا نهار آخر، أنا وظل الحور والخريف، ويفوت الرصيف يمعن في الفراغ والغبار، ودعني طير وقال إلى بلادي أمضي، ذكرني بطردي وكبر السؤال.
صباحكم أجمل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق