الثلاثاء، ديسمبر 25، 2007

صباحكم أجمل \ القدس وحديث العندليب


زياد جيوسي

مبنى قصر الحمراء في شارع الاذاعة - رام الله
"بعدستي الخاصة"

عيد ميلاد سعيد، عبارة بدأنا بها نهار الأمس ونحن نتبادل تهنئة عيد الميلاد مع الأصدقاء، وفي العصر قمت بزيارة بعض الأصدقاء للتهنئة واليوم أكمل، ففي رام الله مدينة المحبة والتسامح الأعياد مشتركة، ففي هذا الوطن الجميل المغتصب ولد سيدنا المسيح عليه السلام، وكان مسرى ومعراج رسولنا محمد عليه أطيب الصلاة والسلام، وعلى هذه الأرض كانت العهدة العمرية، فكان الفجر لعلاقة خاصة ومتميزة بين أبناء الأرض من مسيحيين ومسلمين، لا يفرق الاحتلال بين أحد منهم، فالمطلوب أرض فارغة من السكان لتكون أرضاً خالصة لليهود الصهاينة، لكن هذا الوطن الذي قاوم كل أنواع الاحتلال عبر التاريخ سيبقى عصياً على كل الغزاة، فنحن شعب ضارب الجذور كسنديان الأرض وزيتونها، كأقصاها وقيامتها ومهدها.
انه الصباح في رام الله، صباح بارد كالعادة في مثل هذه الأجواء، فقد بدأ موسم "المربعنية"، وهي أول أربعون يوماً من فصل الشتاء، فيشتد البرد ويضيف لبرودة جو رام الله برداً إضافياً، مما يجعل متعتي بالتجوال الصباحي بحاجة لاهتمام في اللباس أكثر، فما عاد هذا الجسد المتعب يحتمل كما السابق، لكنه السير في الشوارع الهادئة في الصباح المبكر ما يجدد الروح وينعش النفس، ويستدعي الذكريات لعل فيها بعض من الدفء.
مساء الأمس كنا ثلة من الأصدقاء المهتمين بالعمل السينمائي، نلتقي مع محافظ محافظة رام الله والبيـرة للتحدث ببعض الهموم، وتشعب الحديث إلى الكثير من أوضاع المدينة، وتشعبت الاقتراحات ووجهات النظر، وعلى مدى ساعتين ونصف تقريباً كان يستمع لنا ويحاورنا بكل هدوء، فكم هو جميل أن يكون المسئول مثقفاً وواعياً ومتواضعاً، فالدكتور سعيد أبو علي القارئ النهم والمثقف المتابع، هو أنموذج طيب في التعامل، وسمعته قد سبقته حين كان محافظ لمحافظة أخرى، ويشهد له حجم اهتمامه بالثقافة والفن، ولدائرة الإعلام والثقافة والعاملين فيها في المحافظة بالمتابعة والرغبة في التطوير، وقد زف لنا أكثر من خبر عن إنجازات ستتم خلال فترة بسيطة، ولعل من أهمها إزالة اليافطات الضخمة التي تحجب شارعين من الشوارع المطلة على المنارة، والتي تعيق أعمدتها الضخمة حركة المشاة أيضاً، والتي سبق أن كتبت عنها أكثر من مرة، وقال لي مبتسما: سنـزيلها كما تم إزالة "خازوق المنارة"، مستخدماً تعبيري في كتاباتي السابقة وفي لقاءات البلدية، عن هذا "الخازوق" المعدني البشع الذي كان يشوه المنارة وقلب المدينة.
كبيـر هو حجم المعاناة التي يعانيها المحافظ ورؤساء البلديات، في محاولات التطوير والارتقاء بالمدينتين التوأم رام الله والبيـرة، وكثيرة هي الملاحظات التي يبديها المهتمون وعشاق البلدة، لذا آمل حقيقة أن يبقى التعاون بين المسئولين والمواطنين قائماً، من أجل مدينة نحبها أكثر.
الهموم كثيرة والمعاناة كبيرة تمتد بحجم الوطن وأكبر، فهل من هم أكبر من هم الاحتلال والنـزاع الداخلي، واستمرار سقوط الشهداء ومصادرة الأراضي واستمرار بناء المستوطنات، رغم كل الأحاديث التي أشبعونا فيها عن تحريك ما أسموه بعملية السلام، تداعيات تجول الذاكرة في هذا الصباح المبكر، وأنا أجول بين شوارع مدينتي الجميلة، أمر من شارع الشرطة إلى شارع بجانب ملاعب مدرسة "الفرندز"، يثير فيّ الفرح أعداد من أشجار الكينا الضخمة على الجانبين، ومن هناك أصعد باتجاه المسجد الكبير، أنظر لجداره لأفاجئ بوجود ثلاث يافطات على جداره كل منها تحمل إسماً مختلفاً، فواحدة تسميه مسجد البيـرة الكبير، والثانية تسميه مسجد جمال عبد الناصر، وثالثة تسميه مسجد الشهداء، فأبتسم وأسائل نفسي: ترى أي من هذه الأسماء أعتمد لهذا المسجد، وأتذكر شارع مسافته محدودة وجدت فيه ثلاث يافطات، كل منها تسمي الشارع بإسم مختلف، وأواصل طريقي إلى شارع القدس وأسير فيه إلى تقاطع الشرفا، ومن هناك التف عائداً إلى صومعتي بعد إحضار صحيفة الصباح.
شارع القدس يثير فيّ تداعيات لاستكمال الحديث الذي بدأته عن وصولي للقدس في المرة الأولى في حياتي، ملتحقاً بأهلي الذين سبقوني بشهور عديدة، كان ذلك في صيف 1962 من القرن الماضي، فغادرنا أريحا بعد وقفة للراحة والتسوق، ركبت في السيارة ووالدي امتطى دراجته النارية بلباسه العسكري الجميل، وسار أمامنا كما بدأ المسير أمامنا من عمان، وبدأت السيارة في الصعود إلى الأعلى، وبدأت حرارة الجو تنخفض حتى أطللنا على جبال القدس، ولمعت القبة الذهبية في الشمس، فشعرت برهبة تسود روحي، وكنت أستعجل الوقت للوصول ولقاء أمي وأخي جهاد وشقيقتي الوحيدة الصغيرة، وإن كنت متلهفاً لرؤية جهاد بشكل خاص، فرغم أنه يصغرني بعامين إلا أننا كنا أصدقاء الطفولة وما زلنا أصدقاء المشيب، ووصلت بنا السيارة إلى باب العامود من أبواب القدس، لأقف لأول مرة بإحساس طفولي أمام عظمة هذه الأسوار، وأمام هذه المدينة التي تربينا على قدسيتها، ومن هناك ركبت خلف والدي على دراجته إلى البيت، فصعدنا إلى منطقة اسمها وادي الجوز، ولا أعرف إن كانت التسمية مرتبطة بأشجار الجوز أو بشيء آخر، حتى وصلنا إلى نهاية الحي وآخر بيوت فيه، ليكون أول من التقيه جهاد، الذي كان ينتظر من وقت مبكر ليكون في استقبالي، وكان لقاء عاطفي طفولي لا أنساه، وهو يقدم لي بعض قطع الأخشاب ويقول لي: "خبيتهم إلك عشان نلعب سوا"، ثم رأيت أختي التي لم تعرفني حين ناديت عليها، فركضت لتختبئ عند الوالدة التي خرجت تركض لتحضنني، وما هو إلا قليل من الوقت حتى كان جهاد قد سحبني من يدي ليعرفني على أبناء الحارة، قائلاً بفرح يلمع في عينيه الخضراوين: "أخوي زياد أجا من عمان".
القدس إذن ودفء الأهل والأسرة، مجتمع آخر وأناس آخرين ومدينة جديدة، سيكون لها رغم قصر الإقامة أثر كبير في حياتي لاحقاً، وبدأت باستكشاف ما حولي كما هي عادتي الطفولية، وكم سررت أن البيت يقع على حافة بستان مليء بالأشجار المثمرة، فبدأت أقضي أوقاتاً طيبة تحت الشجر وبين الورود، وكان يلفت نظري مبنى ضخم كبير يقع على مسافة ليست بعيدة من البيت، شكله أشبه بمستشفى كبير وضخم، يقع بعد مساحة متروكة من الأرض بدون زراعة أو بناء، محاطاً بالأسلاك الشائكة، فسألت والدتي عنه، فكانت الصدمة الأولى حين قالت لي: إحذر أن تقترب من هناك، فهذا مبنى هداسا وفيه جيش اليهود، فلم أكن أتخيل في الطفولة أني سأكون على مرمى حجر من الجيش الإسرائيلي الذي اغتصب الوطن، وطرد جدي لأمي وأسرته من بيتهم، وطرد أصدقاء تركتهم في المخيم من بيوتهم، فسكت عن الكلام مصاباً بغصة شديدة، وأنا أستذكر أحاديث جدي وجدتي ووالدتي عن معاناة الطرد من يافا، وعن الآم اللجوء والجوع والمعاناة.
صباح آخر من صباحات الوطن، أعود لصومعتي متأملاً طيور الحمام وهي تحط وتطير من على نافذتي، أشرب فنجان قهوتي وحيداً وشدو فيروز ككل صباح:
"سنرجع يوما إلى حينا ونغرق في دافئات المنى، سنرجع مهما يمر الزمان، وتنأى المسافات ما بيننا، فيا قلب مهلا ولا ترتمي على درب عودتنا موهن، يعز علينا غداً أن تعود رفوف الطيور ونحن هنا".
صباحكم أجمل.
رام الله المحتلة
http://ziadjayyosi1955.maktoobblog.com

ليست هناك تعليقات: