الأربعاء، نوفمبر 18، 2009

في المطعم التركي

نعمان إسماعيل عبد القادر
قصة قصيرة
الوفود التي توافدت من كلّ أنحاء البلدة كان أكثر عددًا في هذه المرّة. أوفدها خبر الوفاة المفاجئ الذي تعرّض له الفقيد وهزّ مشاعرهم. جاءت لتشارك في تشييع جثمان الرجل إلى مثواه الأخير.. وانطلقت جنازته من مسجد السلام الواقع في وسط البلدة إلى المقبرة في تمام العاشرة ضحى يوم الخميس. وحتى رجال المقاهي أفرغوا مقاعدهم كمن سئم المكان وأراد أن يأخذ قسطًا من الراحة لوقتٍ من الزمن. تركوا كؤوس الشاي والقهوة وتبعثرت أوراقهم وشاركوا في الجنازة. منهم من صلّى ومنهم من أسند ظهره على جدار المسجد وانتظر انتهاء الصلاة. تلا كلمات التلقين شيخٌ في الستين من عمره، له لحيةٌ طويلة بيضاء تتدلّى على صدره، تغطّي قمّة رأسه عمامة بيضاء، وبدت على وجهه أمارات الجدّ والوقار، حيث جلس القرفصاء جانبَ القبر من الجهة القبليّة وأخذ يتلو الكلمات بنبراتٍ فيها الخشية والرأفة. تلاها بصوتٍ مرتفعٍ عن ورقةٍ انتشلها من جيب قميصه أمسكها بكلتا يديه واستعان بنظارات طبيّة كبيرة لرؤية حروفها. تنهّد البعض فيما أصغى الآخرون بحزنٍ لتوصياته الفقيدَ بالثبات والإجابة بلسانٍ طلقٍ دون خوفٍ أو وجلٍ على أسئلة الملكين الرفيقين المكلفين حين يسألانه عن ربّه وعن النبيّ الذي بُعث في الأمّة، وعن دينه، فيقول: الكافي هو الله.. الله ربّي، والإسلام ديني، ومحمد نبيّي، والقرآن دستوري، والكعبة قبلتي... ثمّ أمّن الجميع خلف كلّ دعاء دعاه الدّاعي للميّت وقرأوا له الفاتحة قبل أن يتفرّقوا.
القوم في البلدة تداولوا الأنباء المتفرقة التي تصدّرها نبأُ وفاةِ " أبي أحمد" المفاجئ، فانتقلت معظمها من مكان إلى آخر حتى عمّت كلّ بيتٍ وكلّ مجلسٍ، وكلّ شيعةٍ.. حتّى رجال المقاهي خاضوا فيها مع الورق والعظم وحجارة الشطرنج وازدادوا حديثًا. رنّت في آذان النسوة وعمّت إلى أن وصلت إلى مكّة إلى حيثما جلس أحدهم يهاتف زوجته فاستفسر منها عن أخبار البلد والبلدة والحارة، فانبرت تغرف له مما تعرفه من ألوان القصص تفاصيلها، وأصناف الإشاعات جوانبها، وأجناس التفسيرات المتداولة إجمالها. وقد أعرب هو عن دهشته وعن عميق حزنه وشديد تأثره لما حصل.. ثم أردفت قائلة له في صوتٍ متحشرجٍ غلبه الانفعال: يا حرام!!! الرجل راح ضحيّةً لغيره.. والأطفال لم يبقَ لهم أحد إلا الله.. الرأفة واجبة عليهم جميعًا. ماذا يمكن للمرء أن يقول في مثل هذه المواقف؟!
تأثُّرُ الرجلِ مما سمعه كان حادًا لكنّ الاتّصال انقطع.. يا لهول المصيبة!! هل تعلمون أم أخاه كاظم جاء ليعتمر معنا ولا يدري.. إن علم بالخبر فقد يجنّ جنونه وقد يفقد صوابه.. كم كان يحبّ أخاه كثيرًا ويحترمه. يا الله! لا يعلم أنّ أبناء أخيه قد أصبحوا أيتامًا. رحمك الله يا أبا أحمد. جاءني عشية سفرنا إلى الحجاز وودّعني وداعًا ولسان حاله يقول: لعلّي لا أراكم ولن تروْني بعد سفركم هذا في شهركم هذا وفي عامكم هذا. جئتكم مودّعًا ولن تحظوْا برؤيتي بعد مرجعكم. أين من يملك الجرأة في إخباره بالمصيبة؟ أيّما رجلٍ ينعاه بموت أخيه.. لا، أنا لن أخبره فأكونَ السبب في كآبته. سأتكتّم على الخبر. مسكينٌ كاظم ها هو آتٍ ليدعوَنا لتناول الغداء الذي وعدنا به قبل أيّامٍ في المطعم التركيّ. من منّا يستطيع تناول الزاد في حضرته؟
المعتمرون صامتون يتحلّون بروح الصبر فلا رفث ولا فسوق ولا جدال بينهم. راح البعض منهم يرمق الرجل بنظراتٍ قصيرةٍ محمّلة بأوهام الرأفة، بعضها تثير الشكوك وبعضها تسئ الظنّ. فتساءل عن سبب تحوّلهم المفاجئ في تعاملهم وطيب حديثهم هذا بعد شدّة جفائهم منه طوال الطريق منذ دخولهم الأراضي التي قدّسها الله وعدم تدخُّل بعضهم ووقوفهم إلى جانبه.. تُرى، أسحرٌ ما أراه أم أن الله جلا قلوبهم بماء مثلّجٍ فطهّرها؟ أبناء بلدتي وأنا أعرفهم وأعرف طباعهم لا بدّ من وجود سببٍ جعلهم يتغيّرون. أمِراءً يتودّدون لي أم لحاجة في نفس يعقوب؟ هذا نعتني بالمتفلسف المتطفّل حين تدخّلت حين تشاجر مع زوجته وأخذ يشتمها على مرأى ومسمع من الناس.. وذاك فّقّدّ صوابه وشتم الذات الإلهيّة.. أستغفر الله سبعًا وسبعين مرةً.. أما ذاك فقد جعلني في خانة المجانين حين سألتُ عن المكان الذي وُقِّعَ فيه اتفاق صلح الحديبية.. وهذه.. أصلحها الله.. جاءت اليوم ولبّت الدعوة مع أنها أخبرتني أمس مساءً أنّها لن تأكل من زادي وتترفّع عن مثل هذه الدعوات ولن تسمح لزوجها بالمشاركة لاعتباراتٍ خاصّة على حدّ تعبيرها.. ولمّا لم أكن أتوقع أن يُلبّي هذه الدعوة إلا القليل فعليّ الآن إخبار صاحب المطعم بزيادة عدد الوجبات. هذا جزاء من يسافر مع من تلقوا ثقافتهم في المقاهي.
الموائد تَحَلَّقها المدعوون في هدوءٍ، وبعد لحظات ملأها النادلون بأطباق شهيّةٍ من طعام مشويٍّ أراده كاظم أن يكون عقيقةً لأبنائه الثلاثة. وظلّ همسهم ينمو وتداعبه حركات النادلين بأصواتهم المهنيّة وتحركاتهم المتسارعة حتّى قطعه صوت المرأة التي أخبرته أنها لن تأكل من زاده وتترفع عن مثل هذه الدعوات، وكانت تجلس خلف مائدة قرب الزاوية اليمنى وتوجهت للرجل قائلةً بصوت مسموعٍ ظنّها في البداية أنها سئمت الزاد:
- يا سيّد كاظم! ألا تعرف أنك رجل غريب الأطوار؟ تدعونا للمطعم وتتشفى بموت أخيك..
- ماذا تقصدين يا امرأة؟
- كلهم يعلمون بموته وأنت تجهل ما يدور في فلكك. يا سيدي أخوك أبو أحمد ...
أصيب الرجل بدوارٍ ثم سقط مغشيًّا عليه وظلّت الأطباق محمّلةً بالشواء فيما نقل في عجلةٍ إلى عيادة الطبيب المجاورة. وفي المساء كان يقف قرب المسكن ويتلقى التعازي من المعتمرين من أبناء القرى المجاورة...
Naamankq@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: