عدنان الظاهر
[[ في الفترة الأخيرة عندي نفور من السفر
واشعر بانني إن سافرت لن أعود أبدا إلى ... ،
وانا صغيرة كنت أحلم بان يكون لي حبيب له جزيرة بعيدة
أذهب عنده وأنعزل عن العالم ثم لا أعود .
لا أعرف سبب هذه الأمنية، هي أمنية وكفى ]] .
جزيرة ؟ حبيب ؟ بعيدة ؟
أليس هذا كله كثيرٌ على حمائم البيان والبلاغة والإبداع والخلود ؟ لماذا الإنزواء في جزيرة يا حبيبةُ وعلامَ حب العزلة يا ملاك والملائكة لا ينعزلون ولا يترفعون على البشر ولا يعلون ؟ يبقى الملاكُ ملاكاً ويبقى البشرُ بشراً فلِمَ إختيارك الإنعزال يا روحَ الكون وجوهر الكائنات ؟ كيف سأحبك وكيف سأواصل هذا الحب إذا ما علوتِ وابتعدتِ ونأيتِ عن البشر وأنا واحد منهم ليس أكثر ؟ أين آنئذٍ سألقاك وكيف سألتقيك وأنتِ في العلاء وأنا وأمثالي في الحضيض ؟ وهل سيحب الذي هو في الحضيض ملائكة السماء وإمرأة هي لوحدها تشغل أعلى مراتب العلاء ؟ إنها قسمةٌ ظيزى يا امرأة من خيال كالمرايا ومثل رسائل الإنترنت . قسمةٌ ظيزى فكيف رضيتِ أنْ تكوني الأميرة الملاك والحاكم غير العادل في نفس الآن ، كيف ؟ هل سأكسر المرايا شظايا شظايا وأحطّمُ أجهزة الكومبيوتر جميعاً على طريقة وفلسفة المرحوم الملا عبّود الكرخي حين قال : ساعةْ واكسر المجرشةْ / والعن أبو راعيها / ذبيتْ روحي على الجرش / مدري الجرشْ ياذيها.
فهل أنكفئُ على نفسي وعمري وزماني وأعتكفُ على المجرشة أطحنُ فيها بقايا عمري وأجترُّ فيها أحزاني وذكرياتي ورسائلي دوراتٍ دوراتٍ كما تدور طاحونة الحجر حول مركزها القطب وكما يدور حمار الناعورة مشدودَ العينين لا يدري أمتجهٌ في حركته أماماً أم إنه يدور في دائرة مغلقة عليه وعلى دنياه التي إظلمّت بغلق نور الحياة عن عينيه ؟ هل أجرش روحي ودنياي وأقدمهما عَلَفاً لهذا الحيوان المسكين المغلوب بجوعه وفقره وظلم الناس على أمره الدائر أبداً حول نفسه دونما هدف يدركه أو له فيه غاية ومكسب ؟ (( يفترْ عَكِسْ شُغل الفَلَكْ / دادةْ جميلْ شبدّلكْ ... من أغنية ليوسف عمر )) . شغل الفلك يفتر عكس ، أي أنَّ الزمان يدورُ معكوساً من الحاضر إلى الماضي فكيف يحيا الإنسان مثلَ هذا الزمان ، كيف ؟ كلا ، لا من مزاح مع الحمير . سأقدم مطحونَ وجريش زماني وحياتي وروحي ( لُقطاً ) لبلابل أٌقفاص وطيور جنات حبيبتي التي قست عليَّ ذات يوم في سَورة دلالٍ وطفرةٍ شبابية متأججة بنار وضرام صباها وغرور ما وصلت إليه من شهرة ووظيفة ومكانة وسُمعة . الطيور لا شكَّ أفضل من الحمير الدائرة حول نفسها ومحورها المرسوم أو المقسوم . الطيورُ تطيرُ في كافة الإتجاهات ولا تدورُ على محور ثابت حول نفسها . الشرقُ شرقُها والغربُ غربُها والسماءُ مفتوحةٌ أمامَها . سأقدّمُ إذاً مجروش أو جريش جسدي وزماني وروحي للحبيبة التي ظلمت ذاتَ يومٍ وقستْ فالظلمُ من شيم النفوس كما قال سيّدُنا أبو الطيّب المتنبي . نتقبل ظلمَ الحبيبِ وقسوته حتى وإنْ قال المتنبي :
واحتمالُ الأذى ورؤية جاني
هِ ، غذاءٌ تذوى به الأجسامُ
لا يذوى جسمي بظلم وجناية مَنْ قد أحببتُ . بالعكس ، إنه يتعافى ويسترد زمنه الأول حتى أيام فتوّته وصباه . الآنَ ، هل ستقبل المليكة المتغرّبةُ صحبتي والإقامة معي في جزيرتي النائية الواقعة في غرب المحيط الهندي ؟ ماذا لو أصابتها ظاهرةُ الحنين إلى الوطن وليس معي سفنٌ ولا زوارق بخارية تعود بها إلى وطنها الأصلُ؟ هل سأتحمّلُ شكاواها ووطأة حنينها لأهلها وبلدها الذي فارقت في ساعة خيال مغامر لا يعرف الحسابات ؟ هل سيكونُ مصيرُها مصيرَ طالبة جامعة الصداقة في مدينة موسكو ( فاء ) التي ضربها غرامٌ فجائي عاصفٌ مدمِّرٌ بزميلِ لها من لاؤوس فتزوجته وأنجبت بنتاً منه ثم حين أنهى دراسته وقررَ العودةَ إلى وطنه لم تشأ أنْ تصطحبه فتركها مع طفلتها التي كانت تحملُ إسم سميرة ؟ ثم ، ماذا عن الطفلة سميرة هذه ؟ تركتها والدتها في دارٍ للأيتام ومجهولي الآباء لأنها كانت مشغولة بالدراسة من جهة ، ولأنها لم تستطع مواجهة الناس بما حصل وبالطبع لم تُخبرْ أهلَها بما حصل . { الهوى والشبابُ والأملُ المنشودُ / توحي فتبعثُ الشعرَ حيّا . والهوى والشبابُ والأملُ المنشودُ / ضاعتْ جميعُها من يديا ... للأخطل الصغير بشارة الخوري } . فيا حبيبةَ ويا سيّدةَ جزيرةِ الأوهامِ والأحلام هلاّ تدبّرتِ أمرَكِ وأعدتِ النظرَ في مشروع مغامرتك الكبيرة ؟ ماذا ستأكلين في الجزيرة ولمن ستكتبين روائع قصصك ومن سيقرأها بعد غيبتك ورحيلك ؟
طيّب ، غضي النظرَ عن موضوع الجزيرة سواءً أكانت جزيرة مايوركا أو إيبيزا أو الكاناري أو الجزر البريطانية ... تعالي وشاركيني شقتي الصغيرة فإنها حقاً جزيرةٌ عائمةٌ فوق أحزاني وأحزان العراق وباقي البشر المعذّب المُمتَحن . ستجدين فيها جمهورية أفلاطون ومدينة الفارابي الفاضلة وستجدينها أفضل من نيويورك ولندن . ستمكثين فيها حتى لا تفارقينها حتى لو ضرب الزلزالُ مدينتك الأصل وانشقَّ القمرُ وكسفت الشمسُ . هنا معي مستقرك الأبدي ودار إقامتك ومربط قلبك الرقيق النابض بالإبداع القصصي والروائي . هنا الحب الذي تنشدين وهنا الحبيب الذي تتمنين وبه تحلمين . لا ضرّة لك في هذه الجزيرة ولا حماة ولا حاسدة ولا حسود . تعالي إذاً فأنت الأميرة وأنت ملاك ومليكة هذه الجزيرة .
{{ ما تنسمعْ رحّايْ بس إيدي إديرْ // أطحن بقايا الروحْ موش أطحنْ شعير }}.
[[ عندي نفورٌ من السفرِ ]] ... قالت ... علامَ النفورُ من السفرِ والناس عموماً تهوى الأسفار وتشتاق إليها ؟ السفرُ عدو الصدأ اللدودُ فمن يدمن السفرَ لا يصدأُ أبدأ { أي ما يزنجر ... بالعراقي الدارج }. السفرُ شررٌ يتقادح في أعماق النفس البشرية ... فرنٌ لا تنطفئ نيرانه ... نارُهُ أزليةٌ لا تحرقُ لكنها تُشفي العليلَ من علته وتعالجُ جروحَ الذين هدّهم الضنى والهوى . جربيه يا صبية فلقد تراكم تحت أديم روحك الكثير من الصدأ وما تُخلّفُ الجروحُ إذْ تشفى من أورامٍ لا تهدأ إلاّ بحكّها بالأنامل . جرّبي السفر . قالت بمنتهى الأدب محتجةً عاتبة : مع مّنْ سأسافر ومع مَنْ تُريدني أنْ أسافر؟ السفر الناجحُ بالرفقة الجميلة فمن ذا الذي ترشحه لرفقتي في أسفاري ؟ سؤال وجيهٌ لكنه مُحرِجٌ . مَن أرشّحُ ليرافقَ هذه المليكة النادرة المثال إذا ما قررت القيامَ بسفرة إلى مكانِ ما ؟ همستُ على إستحياءٍ : هل أرشّحُ نفسي لمرافقتها في سفرٍ أحددُ هدفَهُ وتفاصيلَهُ ؟ هل ستقبلُ بي رفيقَ سفرٍ ونحن غرباء لم نلتقِ في هذه الدنيا أبداً ؟ وماذا عن أهلها وذويها والقائمين بأمرها ؟ هل يقبلون لها رفقةَ رجلٍ غريب ما رأوه قط ؟ قالت أنا ناضجة وأموري كافة غدت منذ زمنٍ ملك يدي . الأهلُ يوافقون على ما أختارُ ولا يعترضون . هل معنى ذلك أنك لا تمتنعين من السفر معي ، سألتها بجرأة نادرة ؟ أغضتْ ، صمتتْ ولم تُجبْ . قالوا السكوت من الرضى ، فهل يعني سكوتها أنها موافقة على مشروعي ؟ قالت ، بعد فترة صمت ثقيلة طويلة : أخشى السفرَ معك ! لم أصمتْ طويلاً بل سارعتُ للسؤال لماذا ؟ قالت إنك تحبُّ السفرَ وأنك كثيرُ السفرِ وأنك لا تنفكُّ من ترداد شعرِ أبنِ زُريقٍ البغداديِّ :
ما آبَ من سفرٍ إلاّ وأزمعهُ
عزمٌ على سَفَرٍ بالرغمِ يُزمعهُ
تضاحكتُ مغبوناً لا مغلوباً على أمري ثم قلتُ : أنا يا مليكتي لستُ إبنَ زُريقٍ البغدادي . أنا حليٌّ من مدينة الحلة . غادر البغداديُّ بغداده طلباً للرزق في بلاد الأندلس وترك حبيبةً هناك لم تشفع لها دموعها في أنْ تُثنيه عن سفره فقال :
وكم تشبّثَ بي يومَ الرحيلِ ضُحىً
وأدمُعي مستَهِلاتٍ وأدمُعُهُ
أما أنا فكما تعلمين لا أطلبُ رزقاً من بلدٍ أو أحدٍ فأنا مقيمٌ منذ عقودٍ حيث أنا . تنهدتْ عميقاً ثم قالت : أقيمُ إذاً معكَ حيثُ تقيمُ . مكانُ إقامتك هو جزيرةُ أحلامي منذ طفولتي المُبكّرة . فكّرْ في الأمر . غبتُ عنها متوارياً لأنني عاجزٌ حتى عن التفكير في هذا المُقترَحِ . في طريق هروبي كنتُ أقولُ لنفسي وماذا ستجدُ ( بنتُ الحلالِ ) هذه فيَّ ولديَّ ؟ لا خيلَ عندكَ تُهديها ولا مالُ ... كما قال المتنبي . كيف أتخلصُّ من أمرٍ ورّطتُ بغباءٍ نفسي فيه ؟ هل أجدُ لها شخصاً مناسباً آخر يحلُّ محلي ويلعب الدورَ الذي تُريد أنْ ألعبَ معها ؟ هل أغيّرُ مظهري وأصبغُ شعرَ رأسي أو أضعُ مثلَ كافورٍ الإخشيديِّ باروكةً فوق رأسي وأقلّم حواجبي وأحملُ على الدوامِ معي [ مثل صديقي ز.د ] حبوب الفياكرا والسياليس ؟ أهذا هو الرجل الذي تريدُ عاشقةُ الجزيرة والعزلة ؟ الحياة يا حلوتي أكبرُ وأقوى من ميلك للعزلة وتجنّب باقي الناس فالإنسانُ حيوانٌ إجتماعيٌّ بالطبع والخلقة . حذارِ ثم حذارِ من العزلة ... إياكِ يا مليكة الأنس من التقوقع والإعتزال ، إياكِ إياكِ . أنتِ إمتدادٌ لهذا الإنسان وأنت كنتِ فيه منذ أجيالٍ وآجالٍ وأجيال فما جدوى العزلة وما جدوى الحياة في جزيرة جرّبها قبلك رجلٌ أندلسي ؟ أوليست الأرضُ اُمُّنُا ومهوانا ومدفننا الأبديُّ هي الجزيرةُ المثلى التي تبتغين ؟ إبقِ إذاً معي يا حبيبة ، إبقِ معي حيثُ أنا وشاركيني المقسوم لي في حياتي على هذه الأرض . لا تغادرينها ولا تغادريني فكلانا منها ونحنُ معاً إليها عائدون . غابت مليكةُ وغاويةُ الجزائر لتقومَ بعد حينٍ أمامي تمثالاً بحجم الفضاء الذي يفصلُ الأرضَ عن السماء . أردتُ أنْ ألمسَ ذيلَ فستانها فأبعدتْ كفي عنها . شعرتُ بخجلٍ بل وبشيءٍ من الوجل وتساءلتُ : أهذه هي أخلاقُ حورياتِ جنّاتِ الخُلد ومليكات السماء ؟ ردّت بأنفةٍ وكبرياء : لا أنا هذه ولا تلك ! أنا مثلك إنسانة لم تجدْ بعدُ مّنْ تُحب ولم تعثر على رجل يحبها فتعاليتُ على نفسي وعلى باقي البشر الذي عدّني منه رقماً فيه لكنه ظلمني ولم يجدْ لي مكاناً لائقاً بي أتمددُ فيه وأحقق نفسي وأبرر مسألة وجودي . الخيلاء هذا والكبرياء هما غطاء للتمويه ليس أكثر ... ثم راحت تغني بصوتٍ حزين شجيٍّ {{ ما تنسمعْ رحايْ // بس إيدي إديرْ // أطحنْ بقايا الروحْ // موش أطحنْ شعيرْ }} . لم تبكِ المليكةُ المغبونة لكنني أنا الذي بكى وأغرق الكون بالدموع !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق