د. عدنان الظاهر
( فأجاءَها المخاضُ إلى جِذعِ النخلةِ قالتْ يا ليتني مِتُّ قبلَ هذا وكنتُ نسياً منسيا / سورة مريم / الآية 23 ) .
هل من وجهٍ للشبه بين [ مريمتي ] الجديدة وتلك القديمة مريم أم عيسى المسيح ؟ نعم ولا . كلتاهما حصانٌ ، واحدةٌ أنجبت بفعل قدرة خفيّةٍ واحتفظت بحصانتها ، أما الأخرى فلم تنجب بعدُ لذا فحصانتها محفوظة لها في دنياها واللوح الغائب ما دامت بعيدةً عن النخلة وجذعها وتمرها . هذا وجه الشبه بين السيدتين فكلتاهما حصانٌ ورمزٌ للعفّة والطهر . وماذا عن وجه أو أوجه الخلاف ؟ إنهما مختلفتان فيما تحملان من أسماء لأبيهنَّ . مختلفتان في التربة والمكان . بل وحتى هناك إختلاف جوهري في نوعية ما ينبتُ من نخيل في تربة وموطن السيدتين . فتمور فلسطين غير تمور واحات بربر الشمال الإفريقي شكلاً وطعماً ومذاقاً . نخيل الواحات أكثر طولاً وأدق جذعاً وثمرها أشد حلاوة بسبب شحّة الماء وإرتفاع درجات الحرارة . من هنا ـ ربما ـ جاء الفارق الأكبر بين السيدتين حاملتي الإسم الجميل ذاته . مريم إبنة داوود أراها جميلةً على جدران الكنائس وصغيرة ، أصغر من عمرها الحقيقي . أما مريم شمال إفريقيا فيا سلام وألف ألف سلام على ما تحملُ من سحر وبهاء وجمال ! ثم إنها كذلك تبدو في صورتها أصغر مما هي في حقيقة أمرها . وجدتُ في وجهها وفيها مذاقَ حلاوة كل ما في الدنيا من عسلٍ وسُكَّرِ القصبِ والعنبِ والبنجرِ وما في العراق من تمورِ ما قبلَ جحيمِ الحروبِ المعروفة . فإلى أيِّ التمورِ وإلى أيِّ نخيلٍ تميلُ يا عدّون عَدَنْ ، شرقاً أم غرباً ؟ إلى السكّر المتواضع الحلاوة أم إلى ذاك الفائق الحلاوة ؟ رأيت وجه طبيبي
( كريم ) خلف شاشة الكومبيوتر يحدّقُ فيَّ شزْراً فأقفلته وفي قلبي الكثير من الرعب من الأطباء وأدويتهم وتعليماتهم . إنهم يحضرون في المواقف الحرجة يحلّلون ويحرّمون فيحرموننا من مباهج الدنيا وزينتها فكيف نُكثرُ في هذه الدنيا المالَ والبنين ؟ كيف لي أنْ أبتعدَ عن سكّر نخيل شمال إفريقيا وعن المريم البربرية التي ما أنْ رأيتُ صورتها حتى فقدتُ عقلي وطار مني صوابي ولم أنمْ تلك الليلة . صرتُ أهذي في فراشي وأنظمُ أشعاراً وأقرأُ آياتٍ من سورة مريم وأكتبُ لها في مخيلتي المضطربة رسائلَ طويلة ... أشطبُ وأغيّرُ وأمزِّقُ ثم أُعيدُ كتابةَ ما مزّقتُ وأتلفتُ . أتخيلها تزورني في الرؤيا والحُلُم حاملةً لي شيئاً من تمورِ نخيلِ حديقة أبيها فأعافُها وتعافها نفسي لأتعلّقَ بجذع قامتها الرشيقة وأتشبثَ بسعفها وكَرَبها حتى يُخيلُ لي أني أدركتُ التبر اللماع المعلَّق في عذوقها ولكنْ ما أنْ مددتُ يدي حتى تراءى لي أني أسقط من عالي عليائها متهاوياً مُحطّمَ القلبِ والأضلاعِ فأصحو لأجدَ نفسي وحيداً لا من نخيلٍ ولا تلك القامة الربانية الرشيقة ولا ذلك الوجه الملائكي الذي لم أرَ مثيلاً له في حياتي . صرختُ كالمعتوه : لا أريد تموراً ولا سكّراً أو عسلاً ... أريد مريمَ لا غيرها وليس أكثر من ذلك . نعمْ ، أريدها أريدها فبين شفتيها تمور وعسول الدنيا قاطبةً فما حاجتي لتسلّق النخيل وتحمّل وخزات إبَرِ النخيلِ { السِلّة والسِلاّيات كما كنّا نسمّيها في العراق أيام الطفولة } والتعرّضِ لهجومِ الزنابيرِ أو الدبابيرِ المختبئةِ تحت عذوقِ التمرِ أو بينها . وما أكثرَ ما عانيتُ في طفولتي منها ومن لسعاتِ الدبابيرِ . فأي اللسع يؤلمك يا عدّون عّدَن : لسع الدبابير أم لسع عذاب فُرقة مريم المُحصّنةِ الحصانِ المُسوّرةِ بالرحمن وطوق الذهب فضلاَ عن أسفي وحسرتي على فارقِ العمرِ بيننا ؟ الدبابيرُ تصنعُ العسلَ لكنَّ طعمَها مرٌّ أما حبيبتي مريمُ الصحراءِ النائيةِ ففي لسانها وشفتيها كل عسول الحياة رغم أنها لا تصنعه بل ولا تقرَبَهُ لأنَّ مزاجَها الطبيعيَّ حامضيٌّ وليس حلواً . هل تجتمعُ الحلاوةُ والحموضةُ معاً ؟ نعم ، تجتمعان والناتج يُسمّى ( سكنجبيل أو زنجبيل / حامض حلو ) . كتبتْ مريمُ لي محتجّة برفقٍ : لا من طعمٍ حامض في تكوينها وإنها تأكلُ التمرَ أحياناً إذا كان ممزوجاً بكلماتِ بعض رسائلي . كيف يكونُ التمر ممزوجاً بكلماتِ بعض رسائلي ؟ إنه لأمرٌ عجيبٌ ! قالت ليس في الأمرِ من عَجَبٍ . أقرأُ رسائلك وصحن تمرِ نخيل بيتنا أمامي فما أنْ أفرغَ من قراءة الرسالة حتى أجدُ نفسي قد أجهزتُ على صحنِ التمرِ فأطلبُ المزيدَ ثم المزيدَ من رسائلك . السُكّرُ يستدعي السكّرَ كما الجَمالُ يستدرجُ ويستدعي الجمالَ . ثمَّ أضافت مريمُ مهاة الصحراء : وهكذا أدمنتُ على الإثنين ، قراءة رسائلك وإلتهام صحون التمر البربريِّ النادرِ شكلاً ومذاقاً . أردتُ أنْ أسألَها : أيّهُما أكثرُ حلاوةً في مذاقِ حوضِ كوثرِ ثغركِ ، تمرُ حديقة بيتك أم حروف رسائلي ؟ لم أسألْ . لم أجرؤ . أكتب الآن وصورتها أمامي تملأ مساحة شاشة جهاز الكومبيوتر فتتوسعُ وتتوسعُ حتى تملأ الفضاءَ المرئيَّ ومع توسعها بالطولِ والعرضِ وباقي الجهات يضيقُ مجالُ الرؤيةِ كما يقول فلاسفة التصوّف والتريّش ، من الريش [ كلما إتسعت الرؤية ضاقت العبارة ] . الأمرُ معكوسٌ معي يا أيها المثال ، أعذريني ، سلامٌ عليكِ يومَ وُلِدتِ ... فمع إتساعِ الفضاء الكوني يتسعُ قلبي وتتسع شرايينه وأوردته لتستقبلَ خيال زائرتي الآسرة مليكة السحر والجمال تنزلُ بفستانها الوردي ببهاءٍ علويٍّ عليَّ كما نزلَ عيسى المسيحُ من قمة الجليل . تكتبُ لي بأناملَ من عطرِ المسكِ والعنبرِ وأريج أنفاس الحياة كلماتٍ على شاشة فضائية لا من وجودٍ في الحقيقة لها : يا عدّون ، هل تقبلني صديقةً لك ؟ سقطتُ ، وقعتُ من عالي نخلة بيت أبيها على رأسي . صرتُ ألفظ أنفاسي الأخيرة . إرتعبتْ حبيبتي وسيدتي ومليكتي . مدّتْ يدَها محاولةً رفعي من سقطتي فلم تفلحْ . شحبتْ السماءُ السابعةُ في مرآةِ سِحرِ طلعتها . سمعتها تصرخُ : ما لك لا تنهض يا عيسى ؟ تمتمتُ وأنا ألفظُ آخرَ أنفاسي [[ سلامٌ عليكِ والدتي ، أّبي ، خالقتي ، سلامٌ عليكِ يومَ وُلِدتِ ويومَ تموتينَ ويومَ تُبعثينَ حيّة ]] .
( فأجاءَها المخاضُ إلى جِذعِ النخلةِ قالتْ يا ليتني مِتُّ قبلَ هذا وكنتُ نسياً منسيا / سورة مريم / الآية 23 ) .
هل من وجهٍ للشبه بين [ مريمتي ] الجديدة وتلك القديمة مريم أم عيسى المسيح ؟ نعم ولا . كلتاهما حصانٌ ، واحدةٌ أنجبت بفعل قدرة خفيّةٍ واحتفظت بحصانتها ، أما الأخرى فلم تنجب بعدُ لذا فحصانتها محفوظة لها في دنياها واللوح الغائب ما دامت بعيدةً عن النخلة وجذعها وتمرها . هذا وجه الشبه بين السيدتين فكلتاهما حصانٌ ورمزٌ للعفّة والطهر . وماذا عن وجه أو أوجه الخلاف ؟ إنهما مختلفتان فيما تحملان من أسماء لأبيهنَّ . مختلفتان في التربة والمكان . بل وحتى هناك إختلاف جوهري في نوعية ما ينبتُ من نخيل في تربة وموطن السيدتين . فتمور فلسطين غير تمور واحات بربر الشمال الإفريقي شكلاً وطعماً ومذاقاً . نخيل الواحات أكثر طولاً وأدق جذعاً وثمرها أشد حلاوة بسبب شحّة الماء وإرتفاع درجات الحرارة . من هنا ـ ربما ـ جاء الفارق الأكبر بين السيدتين حاملتي الإسم الجميل ذاته . مريم إبنة داوود أراها جميلةً على جدران الكنائس وصغيرة ، أصغر من عمرها الحقيقي . أما مريم شمال إفريقيا فيا سلام وألف ألف سلام على ما تحملُ من سحر وبهاء وجمال ! ثم إنها كذلك تبدو في صورتها أصغر مما هي في حقيقة أمرها . وجدتُ في وجهها وفيها مذاقَ حلاوة كل ما في الدنيا من عسلٍ وسُكَّرِ القصبِ والعنبِ والبنجرِ وما في العراق من تمورِ ما قبلَ جحيمِ الحروبِ المعروفة . فإلى أيِّ التمورِ وإلى أيِّ نخيلٍ تميلُ يا عدّون عَدَنْ ، شرقاً أم غرباً ؟ إلى السكّر المتواضع الحلاوة أم إلى ذاك الفائق الحلاوة ؟ رأيت وجه طبيبي
( كريم ) خلف شاشة الكومبيوتر يحدّقُ فيَّ شزْراً فأقفلته وفي قلبي الكثير من الرعب من الأطباء وأدويتهم وتعليماتهم . إنهم يحضرون في المواقف الحرجة يحلّلون ويحرّمون فيحرموننا من مباهج الدنيا وزينتها فكيف نُكثرُ في هذه الدنيا المالَ والبنين ؟ كيف لي أنْ أبتعدَ عن سكّر نخيل شمال إفريقيا وعن المريم البربرية التي ما أنْ رأيتُ صورتها حتى فقدتُ عقلي وطار مني صوابي ولم أنمْ تلك الليلة . صرتُ أهذي في فراشي وأنظمُ أشعاراً وأقرأُ آياتٍ من سورة مريم وأكتبُ لها في مخيلتي المضطربة رسائلَ طويلة ... أشطبُ وأغيّرُ وأمزِّقُ ثم أُعيدُ كتابةَ ما مزّقتُ وأتلفتُ . أتخيلها تزورني في الرؤيا والحُلُم حاملةً لي شيئاً من تمورِ نخيلِ حديقة أبيها فأعافُها وتعافها نفسي لأتعلّقَ بجذع قامتها الرشيقة وأتشبثَ بسعفها وكَرَبها حتى يُخيلُ لي أني أدركتُ التبر اللماع المعلَّق في عذوقها ولكنْ ما أنْ مددتُ يدي حتى تراءى لي أني أسقط من عالي عليائها متهاوياً مُحطّمَ القلبِ والأضلاعِ فأصحو لأجدَ نفسي وحيداً لا من نخيلٍ ولا تلك القامة الربانية الرشيقة ولا ذلك الوجه الملائكي الذي لم أرَ مثيلاً له في حياتي . صرختُ كالمعتوه : لا أريد تموراً ولا سكّراً أو عسلاً ... أريد مريمَ لا غيرها وليس أكثر من ذلك . نعمْ ، أريدها أريدها فبين شفتيها تمور وعسول الدنيا قاطبةً فما حاجتي لتسلّق النخيل وتحمّل وخزات إبَرِ النخيلِ { السِلّة والسِلاّيات كما كنّا نسمّيها في العراق أيام الطفولة } والتعرّضِ لهجومِ الزنابيرِ أو الدبابيرِ المختبئةِ تحت عذوقِ التمرِ أو بينها . وما أكثرَ ما عانيتُ في طفولتي منها ومن لسعاتِ الدبابيرِ . فأي اللسع يؤلمك يا عدّون عّدَن : لسع الدبابير أم لسع عذاب فُرقة مريم المُحصّنةِ الحصانِ المُسوّرةِ بالرحمن وطوق الذهب فضلاَ عن أسفي وحسرتي على فارقِ العمرِ بيننا ؟ الدبابيرُ تصنعُ العسلَ لكنَّ طعمَها مرٌّ أما حبيبتي مريمُ الصحراءِ النائيةِ ففي لسانها وشفتيها كل عسول الحياة رغم أنها لا تصنعه بل ولا تقرَبَهُ لأنَّ مزاجَها الطبيعيَّ حامضيٌّ وليس حلواً . هل تجتمعُ الحلاوةُ والحموضةُ معاً ؟ نعم ، تجتمعان والناتج يُسمّى ( سكنجبيل أو زنجبيل / حامض حلو ) . كتبتْ مريمُ لي محتجّة برفقٍ : لا من طعمٍ حامض في تكوينها وإنها تأكلُ التمرَ أحياناً إذا كان ممزوجاً بكلماتِ بعض رسائلي . كيف يكونُ التمر ممزوجاً بكلماتِ بعض رسائلي ؟ إنه لأمرٌ عجيبٌ ! قالت ليس في الأمرِ من عَجَبٍ . أقرأُ رسائلك وصحن تمرِ نخيل بيتنا أمامي فما أنْ أفرغَ من قراءة الرسالة حتى أجدُ نفسي قد أجهزتُ على صحنِ التمرِ فأطلبُ المزيدَ ثم المزيدَ من رسائلك . السُكّرُ يستدعي السكّرَ كما الجَمالُ يستدرجُ ويستدعي الجمالَ . ثمَّ أضافت مريمُ مهاة الصحراء : وهكذا أدمنتُ على الإثنين ، قراءة رسائلك وإلتهام صحون التمر البربريِّ النادرِ شكلاً ومذاقاً . أردتُ أنْ أسألَها : أيّهُما أكثرُ حلاوةً في مذاقِ حوضِ كوثرِ ثغركِ ، تمرُ حديقة بيتك أم حروف رسائلي ؟ لم أسألْ . لم أجرؤ . أكتب الآن وصورتها أمامي تملأ مساحة شاشة جهاز الكومبيوتر فتتوسعُ وتتوسعُ حتى تملأ الفضاءَ المرئيَّ ومع توسعها بالطولِ والعرضِ وباقي الجهات يضيقُ مجالُ الرؤيةِ كما يقول فلاسفة التصوّف والتريّش ، من الريش [ كلما إتسعت الرؤية ضاقت العبارة ] . الأمرُ معكوسٌ معي يا أيها المثال ، أعذريني ، سلامٌ عليكِ يومَ وُلِدتِ ... فمع إتساعِ الفضاء الكوني يتسعُ قلبي وتتسع شرايينه وأوردته لتستقبلَ خيال زائرتي الآسرة مليكة السحر والجمال تنزلُ بفستانها الوردي ببهاءٍ علويٍّ عليَّ كما نزلَ عيسى المسيحُ من قمة الجليل . تكتبُ لي بأناملَ من عطرِ المسكِ والعنبرِ وأريج أنفاس الحياة كلماتٍ على شاشة فضائية لا من وجودٍ في الحقيقة لها : يا عدّون ، هل تقبلني صديقةً لك ؟ سقطتُ ، وقعتُ من عالي نخلة بيت أبيها على رأسي . صرتُ ألفظ أنفاسي الأخيرة . إرتعبتْ حبيبتي وسيدتي ومليكتي . مدّتْ يدَها محاولةً رفعي من سقطتي فلم تفلحْ . شحبتْ السماءُ السابعةُ في مرآةِ سِحرِ طلعتها . سمعتها تصرخُ : ما لك لا تنهض يا عيسى ؟ تمتمتُ وأنا ألفظُ آخرَ أنفاسي [[ سلامٌ عليكِ والدتي ، أّبي ، خالقتي ، سلامٌ عليكِ يومَ وُلِدتِ ويومَ تموتينَ ويومَ تُبعثينَ حيّة ]] .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق