د. عدنان الظاهر
(( ملأتِ سما قلبي عشقاً وأرضَهِ ... / مجنون ليلى لأحمد شوقي ))
(( ملأتِ الأرضَ حبّاً وسمائي / مجنون مريم ))
تعالَ تعالَ يا مجنونَ إبنة عمك ليلى . تعالَ وشارك مجنون مريمَ فيما يُعاني من حبّه الجديد العاصف العاتي . تعالَ واشهد معاناة القرن الواحد والعشرين ، قرن الزلازل والصواعق والإحتلال . تعالَ تعالَ فليس في الوقت متسعٌ تعالَ تعال . تعالَ قيس أخي تعالَ فإني في إثركِ على خطو المحال . كنتَ ترى وتكلم حبيبتك ليلى لكني لا أرى ولا أكلّم حبيبتي مريم ولم أرها إلا في صورة وحيدة يتيمة يحسدني عليها العامةُ والأصدقاء المندائيون . قال لكنَّ عمّي طردني شرَّ طردةٍ واتهمني أني زرتُ دياره لأشعلَ فيها ناراً واللهُ يشهدُ أني ما زرت تلكم الديار إلاّ لأقبس منها ناراً فلقد [ خَلَتْ من نارِنا الدارُ ] . وما كان موقف حبيبتك ليلى من تلك الزيارة ؟ قال إنها رحّبت به وأمرتْ وصيفتَها عفراءَ قائلةً [ خذي وعاءً واملأيه لأبن عمّي حطبا ] . تنهدّتُ وتحسّرتُ ورفعتُ عينيَّ نحو السماء ضارعاً فسحّتْ دموعي مدراراً . رقَّ المجنونُ قيس على حالي وتعاطف معي فجفف بطرف كوفيته ما تساقط على وجنتيَّ من دموعٍ ثم أخرجَ من خُرجٍ بالٍ كان يحمله على كتفيه قطعةَ خبزٍ جافة وتُميراتٍ من أردأ تمور بلاد نجد وفرشها على الرمل وقال كلْ ما رزقَ اللهُ ولا تَهُنْ يا عاشقُ ولا تحزنْ فنحنُ العشّاقُ المساكينُ المعاميدُ أفضلُ خلق الله وأشرفهم وأنظفهم وكذلكَ نحنُ الأعلون في الدنيا والآخرة والآخرةُ للمتقين العاشقين التائهين الفاقدين عقولهم وشؤونهم لا يملكون في دنياهم حتى شروى نقير . كنتُ منهمكاً بطعامي البائس لأنني لم أتناول لفترة أسبوعٍ طعاماً لذا ما كنتُ أفقه معنى ما كان يقول صاحبي المجنون ، مجنون ليلى . شبعتُ خبزاً أقوى من الصخر مُملّحاً برمال نجدٍ وبعرور وادي ثقيف [ بدلَ عنصر اليود ] فتجشأتُ بصوتٍ عالٍ ثلاثَ مرّاتٍ وحمدتُ اللهَ ـ الذي لا يُحمدُ على مكروهٍ سواه ـ على ما أسبغَ على عبده المجنون التائه بين البلدان من فضلٍ ونِعَمٍ سابغةٍ . ماذا كنتُ أريدُ أكثر من ذاك ؟ صديقٌ زاهدٌ مثلي مجنونٌ بليلاه طعامهُ جامدُ الخبز كجلمودِ الصخر وبعضُ الساقط من بلح بلاد نجدٍ ورملٌ يُغنيني عن الملح المعتاد وناقةٌ بيضاءُ كريمةُ الأصل والفصلِ يردفني مجنونُ ليلى وراءَه في حِلّه وترحاله . القناعةُ كنزٌ لا يَفنى . قال صاحبي كريمُ الأصل والنفس هل أقصُّ عليك مفصّلاً مأساتي مع إبنة عمي الثريِّ الذي طردني ورفضني زوجاً لإبنته ليلى ؟ قلت له كلّا ، أعرفُ المقتلَ من ألفهِ إلى يائهِ . قرأنا قصيدة أحمد شوقي في المدارس المتوسطة وشاهدنا على المسارح مراراً أوبريت مجنون ليلى من تلحين محمد عبد الوهاب . بدل ذلك قصَّ عليَّ مواقفَ ليلى منك بعد رفض أبيها وتوجيه الإهانات البذيئة لك . أفلمْ تفكّر ليلى بالهرب معك [ نهيبةً ] وترك جحيم الحياة مع أبيها ؟ الحياةُ مع الحبيب المهتوك المفلس أفضلُ من نعيم الحياة مع أبٍ قاسٍ لا يعرف الحب ولم يجرّبه في حياته . قال إنها بكل تأكيد كانت تفكر في هذا الأمر ولكنَّ المسكينة كانت موضوعة تحت حراسة مشددة وإقامة إجبارية في بيت أبيها يحيط بها عبيدٌ سودٌ غِلاظُ الشفاهِ مدججون بالسلاح يتطايرُ الشررُ من حدقات عيونهم لو رأيتهم لوليّتَ منهم هرباً . ما رأيُ حبيبتي مريم التي سلبت عقلي وصيّرتني قيسَ زماني الدمقراطي الوحيد القُطبِ والقرنِ ؟ هل جرّبتِ يا حبّي ومليكةَ أقداري وباقي عمري ... هل عرفتِ أو جرّبتِ الحب ؟ قالت أفضّلُ الكتابةَ على الكلام فكتبتْ رسالةً قصيرةً بلغة لا يفهمها مجنونُ بني عامر [[
أحببتُ أنْ أجيبك عن سؤالك هنا قبل أن أخلد للنوم :
هل عرفتْ مريمُ الحبَّ في حياتها ؟
نعم ، عرفتُ الحبَّ لكني لم أتعلّمه ،
لاني كم وددت لو فعلته لربما تفننت فيه
و إلا لا داعي لأنْ أحُبَّ أو أُحَبُ .
تصبح على حب
كل القبل
مريم ]] .
فاجأني صاحبي مجنونُ بني عامر بقوله إنه فهم ما كتبت مريمُ العذراء على سعف نخلة أبيها ولو إنه لا يعرف اللغة التي كتبتْ بها . كيف فهمتَ إذاً ؟ قال من حركة شفتيها إستطعتُ فكَّ ألغاز لغتها التي حسبتها عصيّةً على فهمي . الجنونُ فنونُ الجنونُ فنونُ ... أخذتُ أردد حتى ضحكتْ ضيفتُنا ـ اللغزُ ولم تصدّقْ ما إدّعى مجنون ليلى . سألتني وهل تحملُ يا مَنْ جُنِنتَ بي مثلَ ما يحملُ قيسُ العامريُّ من عِلمٍ وحذاقةٍ حيّرتا عقلي ؟ قلتُ كلاّ ، كلاّ لشديد أسفي . الجنون ، جنون العشقِ والعاشقين سيّدتي درجاتٌ ومراتبٌ متدرّجة تماماً كما هو الحال مع المتصوّفة وعالم التصوّف . قالت ألهذا يُسمّى المتصوفةُ مجانين ؟ أكيد ، أكيد يا سيدتي ومَن بيدها نفسي وأنفاسي ودقّات قلبي .
لمّا كان قيسُ العامريُّ أميّاً لا يقرأُ ولا يكتبُ ، كلّفني أنْ أكتبَ بإسمه رسالةً لإبنة عمّه الغليظ القلب . سرّني تكليفه هذا لأنه وضع تحت تصرّفي فُرصةً ثمينةً لأخاطب فيها حبيبتي مريمَ العذراء بدل ليلى . سأضع إسمَ مريمَ كلّما تطلّبَ الأمرُ ذكرَ إسم ليلى . ثم إنَّ لي في بابلَ حبيبةً طردني أبوها حمورابي فهمتُ على وجهي لا أعرفُ ليلي من نهاري ، طعامي الدغلُ والشوكُ والطرطيع وسعف النخيل الأخضر. فقدتُ من الجوع وزني حتى غدوتُ كواحدةٍ من جراد صحاري نجدٍ وبادية السماوة . يممتُ وجهي شرقاً وأسرفت في التوغل شرقاً حتى بلغتُ القطب الشمالي حيثُ وجدني بعض المغامرين ومستكشفي الأقطاب هالكاً هيكلاً عظميّاً فحاروا في أمري . المهم ـ إنحرفتُ عن الموضوع الرئيس ـ مسكت القلم فكتبتُ والمجنون يدنو مني ويدنو ويدنو مادّاً بوزه الطويل ليرى ما أكتب . كتبتُ [[ صباح البهجة والأنوار الظاهرة مثلي والمخفية وراءكِ في مرآتك ، مرآة حجرة نومك وعالم أحلامك وسياحات رؤاك الليلية خلال ساعات رقادك الهني إذْ يتهيأ لي كأني أقف على رأسك حارساً أمينا وملكاً كريماً حريصاً على متابعة حركات صدرك زفيراً وشهيقا ... صدرك العالي المقام والهيبة الذي لم يخلق صانعه مثيلاً له . هنا في حجرة نومك أحسبك كالنائمة ... أحسبكِ لأنني عاجزٌ عن تخيّل وتصوّر هيئتك أثناء النوم واضعةً كفَّ يدك اليمنى تحت ورود جنّات خدّك وجفناك يحرسان نور السماوات في كواكب عينيك الآسرتين فأسرحُ وأتخيلُ وأتيهُ لا أدري كيف أتصرّفُ في حضرة آلهتي ومعبودتي وحبيبتي النائمة في واقعها ـ الصاحية في تخيلاتي وأمنياتي وظنّي ؟ كيف أُطيقُ رؤيتها نائمةً حبيبةُ وجودي وجامعةُ الأرباب والألهة فيها شخصاً ووجهاً وجسداً هو الهيكل المقدّسُ الذي أتقرّبُ بالأضاحي والقرابينِ له وأسفك دمي بعضاً من نذوري وعهودي له ثم أحجُّ إليه شهراً إثرَ شهرٍ لألتمسَ أركانه وأمسحَ أهدابَ وأجفان عينيَّ تبركّاً بما يغطيه من أردية وإحراماتٍ ثم أرفعُ رأسي إلى الأعلى لأرى هل أنا في حُلُمٍ أمْ أنا يقظان وإني حقاً مع الحبيبة ـ المثال ـ الربّة ـ مريم التي آوتني وأطعمتني من رطب نخلتها وأدفأتني بحرارة رحم جسدها وأرضعتني لبنَ صدرها الربّاني المقدّس ؟
كيف حالك اليوم يا حبيبة ؟ هل إستأنفتِ الدوام في المعهد ؟ كيف قضيّتِ عطلة نهاية الأسبوع المنصرم ؟
صورتك جسداً ووجهاً وعينين تملأ فضاء بيتي ثم الفضاء الألماني بل وكل فضاءات الكون السرمدي ، فهل عرفتِ الحبَّ يا نبيّةَ النبيّات وسيدة الكائنات ؟ ما الفرقُ بين أنْ تعرفينه وأنْ تتعلمينه والمعرفةُ علمٌ كما تدرين ؟
ومتى لي تكتبين فشوقي لك لا حدودَ له .
عدّون / عدّون جنّات عدنكِ ... طفلك الظمآن للبن صدرك فاسقيه قبل أنْ يفارق الحياة ... ويتحرّقُ رغبةً وشوقاً لسكّر تمور نخيلك القرآنية وعسل ونبيذ ثغرك وخلاصة رمّان وبرتقال لسانك . أسعفيه سريعاً وإلا فإنه نافقٌ لا مَحالة ]].
وضعتُ القلمَ وحررتُ يدي لأمسحَ ما تراكم من عرقٍ على جبيني بذيل عباءة صاحبي الأميِّ . قال : إقرأ ما كتبتَ . فوجئتُ حقّاً بهذا السؤال . الرجلُ بدويٌّ وهذا لسانٌ عصريٌّ . فضيحة ! قرأتُ ببطءٍ وتوأدةٍ لكي أتنبّهَ فأتحاشى ما يزيدُ من ورطتي مع هذا المعتوه . تابعتُ قراءة الرسالة على مهلٍ ويدي على قلبي خوفاً مِنْ أنْ يبطشَ بي هذا البدويُّ الفاقدُ شأنه وعقله إذا ما اكتشف حقيقة أمر الرسالة . أنهيتُ قراءتي لكني لم أجرؤ على رفع رأسي لأرى ردود فعل صاحبي على ما كتبتُ بإسمه لحبيبته ليلى . تململتُ بحذرٍ شديد ثم قويّتُ عزمي وعزيمتي المنهارة ورفعت عينيَّ صوبَ صاحبي فيا للعجب ! أخيراً خدمني الحظُّ النادر الوقوع ! رأيتُ صاحبي نائماً فجهّزتُ نفسي وغادرتُ المكان دون إحداث صوتٍ أو ضجّةٍ . إعتليتُ ظهر ناقته البيضاء من غير سوءٍ ضارباً في عرض الصحراء لا ألوي على شئ . المهم أني أنجزتُ المهمةَ على أكملِ وجهٍ وبلغتْ رسالتي مسامعَ حبيبتي مريمَ وليذهب المجنونُ العامريُّ وإبنةُ عمّهِ إلى حيثُ ألقتْ رحلَها أمُّ قشعمِ .
[[ ملاحظة في زمنها : لا تصلُ رسائلي على كثرتها لمريمَ لأسباب أجهلها. أما تلفونها فأصمُّ أبكمُ ميّتٌ أو كالميت فما العملُ وما الحلُّ ؟ ]].
أجاب قيس العامري : لك اللهُ يا مجنون مريم ! إصبرْ كما صبرتُ على بلواك .
(( ملأتِ سما قلبي عشقاً وأرضَهِ ... / مجنون ليلى لأحمد شوقي ))
(( ملأتِ الأرضَ حبّاً وسمائي / مجنون مريم ))
تعالَ تعالَ يا مجنونَ إبنة عمك ليلى . تعالَ وشارك مجنون مريمَ فيما يُعاني من حبّه الجديد العاصف العاتي . تعالَ واشهد معاناة القرن الواحد والعشرين ، قرن الزلازل والصواعق والإحتلال . تعالَ تعالَ فليس في الوقت متسعٌ تعالَ تعال . تعالَ قيس أخي تعالَ فإني في إثركِ على خطو المحال . كنتَ ترى وتكلم حبيبتك ليلى لكني لا أرى ولا أكلّم حبيبتي مريم ولم أرها إلا في صورة وحيدة يتيمة يحسدني عليها العامةُ والأصدقاء المندائيون . قال لكنَّ عمّي طردني شرَّ طردةٍ واتهمني أني زرتُ دياره لأشعلَ فيها ناراً واللهُ يشهدُ أني ما زرت تلكم الديار إلاّ لأقبس منها ناراً فلقد [ خَلَتْ من نارِنا الدارُ ] . وما كان موقف حبيبتك ليلى من تلك الزيارة ؟ قال إنها رحّبت به وأمرتْ وصيفتَها عفراءَ قائلةً [ خذي وعاءً واملأيه لأبن عمّي حطبا ] . تنهدّتُ وتحسّرتُ ورفعتُ عينيَّ نحو السماء ضارعاً فسحّتْ دموعي مدراراً . رقَّ المجنونُ قيس على حالي وتعاطف معي فجفف بطرف كوفيته ما تساقط على وجنتيَّ من دموعٍ ثم أخرجَ من خُرجٍ بالٍ كان يحمله على كتفيه قطعةَ خبزٍ جافة وتُميراتٍ من أردأ تمور بلاد نجد وفرشها على الرمل وقال كلْ ما رزقَ اللهُ ولا تَهُنْ يا عاشقُ ولا تحزنْ فنحنُ العشّاقُ المساكينُ المعاميدُ أفضلُ خلق الله وأشرفهم وأنظفهم وكذلكَ نحنُ الأعلون في الدنيا والآخرة والآخرةُ للمتقين العاشقين التائهين الفاقدين عقولهم وشؤونهم لا يملكون في دنياهم حتى شروى نقير . كنتُ منهمكاً بطعامي البائس لأنني لم أتناول لفترة أسبوعٍ طعاماً لذا ما كنتُ أفقه معنى ما كان يقول صاحبي المجنون ، مجنون ليلى . شبعتُ خبزاً أقوى من الصخر مُملّحاً برمال نجدٍ وبعرور وادي ثقيف [ بدلَ عنصر اليود ] فتجشأتُ بصوتٍ عالٍ ثلاثَ مرّاتٍ وحمدتُ اللهَ ـ الذي لا يُحمدُ على مكروهٍ سواه ـ على ما أسبغَ على عبده المجنون التائه بين البلدان من فضلٍ ونِعَمٍ سابغةٍ . ماذا كنتُ أريدُ أكثر من ذاك ؟ صديقٌ زاهدٌ مثلي مجنونٌ بليلاه طعامهُ جامدُ الخبز كجلمودِ الصخر وبعضُ الساقط من بلح بلاد نجدٍ ورملٌ يُغنيني عن الملح المعتاد وناقةٌ بيضاءُ كريمةُ الأصل والفصلِ يردفني مجنونُ ليلى وراءَه في حِلّه وترحاله . القناعةُ كنزٌ لا يَفنى . قال صاحبي كريمُ الأصل والنفس هل أقصُّ عليك مفصّلاً مأساتي مع إبنة عمي الثريِّ الذي طردني ورفضني زوجاً لإبنته ليلى ؟ قلت له كلّا ، أعرفُ المقتلَ من ألفهِ إلى يائهِ . قرأنا قصيدة أحمد شوقي في المدارس المتوسطة وشاهدنا على المسارح مراراً أوبريت مجنون ليلى من تلحين محمد عبد الوهاب . بدل ذلك قصَّ عليَّ مواقفَ ليلى منك بعد رفض أبيها وتوجيه الإهانات البذيئة لك . أفلمْ تفكّر ليلى بالهرب معك [ نهيبةً ] وترك جحيم الحياة مع أبيها ؟ الحياةُ مع الحبيب المهتوك المفلس أفضلُ من نعيم الحياة مع أبٍ قاسٍ لا يعرف الحب ولم يجرّبه في حياته . قال إنها بكل تأكيد كانت تفكر في هذا الأمر ولكنَّ المسكينة كانت موضوعة تحت حراسة مشددة وإقامة إجبارية في بيت أبيها يحيط بها عبيدٌ سودٌ غِلاظُ الشفاهِ مدججون بالسلاح يتطايرُ الشررُ من حدقات عيونهم لو رأيتهم لوليّتَ منهم هرباً . ما رأيُ حبيبتي مريم التي سلبت عقلي وصيّرتني قيسَ زماني الدمقراطي الوحيد القُطبِ والقرنِ ؟ هل جرّبتِ يا حبّي ومليكةَ أقداري وباقي عمري ... هل عرفتِ أو جرّبتِ الحب ؟ قالت أفضّلُ الكتابةَ على الكلام فكتبتْ رسالةً قصيرةً بلغة لا يفهمها مجنونُ بني عامر [[
أحببتُ أنْ أجيبك عن سؤالك هنا قبل أن أخلد للنوم :
هل عرفتْ مريمُ الحبَّ في حياتها ؟
نعم ، عرفتُ الحبَّ لكني لم أتعلّمه ،
لاني كم وددت لو فعلته لربما تفننت فيه
و إلا لا داعي لأنْ أحُبَّ أو أُحَبُ .
تصبح على حب
كل القبل
مريم ]] .
فاجأني صاحبي مجنونُ بني عامر بقوله إنه فهم ما كتبت مريمُ العذراء على سعف نخلة أبيها ولو إنه لا يعرف اللغة التي كتبتْ بها . كيف فهمتَ إذاً ؟ قال من حركة شفتيها إستطعتُ فكَّ ألغاز لغتها التي حسبتها عصيّةً على فهمي . الجنونُ فنونُ الجنونُ فنونُ ... أخذتُ أردد حتى ضحكتْ ضيفتُنا ـ اللغزُ ولم تصدّقْ ما إدّعى مجنون ليلى . سألتني وهل تحملُ يا مَنْ جُنِنتَ بي مثلَ ما يحملُ قيسُ العامريُّ من عِلمٍ وحذاقةٍ حيّرتا عقلي ؟ قلتُ كلاّ ، كلاّ لشديد أسفي . الجنون ، جنون العشقِ والعاشقين سيّدتي درجاتٌ ومراتبٌ متدرّجة تماماً كما هو الحال مع المتصوّفة وعالم التصوّف . قالت ألهذا يُسمّى المتصوفةُ مجانين ؟ أكيد ، أكيد يا سيدتي ومَن بيدها نفسي وأنفاسي ودقّات قلبي .
لمّا كان قيسُ العامريُّ أميّاً لا يقرأُ ولا يكتبُ ، كلّفني أنْ أكتبَ بإسمه رسالةً لإبنة عمّه الغليظ القلب . سرّني تكليفه هذا لأنه وضع تحت تصرّفي فُرصةً ثمينةً لأخاطب فيها حبيبتي مريمَ العذراء بدل ليلى . سأضع إسمَ مريمَ كلّما تطلّبَ الأمرُ ذكرَ إسم ليلى . ثم إنَّ لي في بابلَ حبيبةً طردني أبوها حمورابي فهمتُ على وجهي لا أعرفُ ليلي من نهاري ، طعامي الدغلُ والشوكُ والطرطيع وسعف النخيل الأخضر. فقدتُ من الجوع وزني حتى غدوتُ كواحدةٍ من جراد صحاري نجدٍ وبادية السماوة . يممتُ وجهي شرقاً وأسرفت في التوغل شرقاً حتى بلغتُ القطب الشمالي حيثُ وجدني بعض المغامرين ومستكشفي الأقطاب هالكاً هيكلاً عظميّاً فحاروا في أمري . المهم ـ إنحرفتُ عن الموضوع الرئيس ـ مسكت القلم فكتبتُ والمجنون يدنو مني ويدنو ويدنو مادّاً بوزه الطويل ليرى ما أكتب . كتبتُ [[ صباح البهجة والأنوار الظاهرة مثلي والمخفية وراءكِ في مرآتك ، مرآة حجرة نومك وعالم أحلامك وسياحات رؤاك الليلية خلال ساعات رقادك الهني إذْ يتهيأ لي كأني أقف على رأسك حارساً أمينا وملكاً كريماً حريصاً على متابعة حركات صدرك زفيراً وشهيقا ... صدرك العالي المقام والهيبة الذي لم يخلق صانعه مثيلاً له . هنا في حجرة نومك أحسبك كالنائمة ... أحسبكِ لأنني عاجزٌ عن تخيّل وتصوّر هيئتك أثناء النوم واضعةً كفَّ يدك اليمنى تحت ورود جنّات خدّك وجفناك يحرسان نور السماوات في كواكب عينيك الآسرتين فأسرحُ وأتخيلُ وأتيهُ لا أدري كيف أتصرّفُ في حضرة آلهتي ومعبودتي وحبيبتي النائمة في واقعها ـ الصاحية في تخيلاتي وأمنياتي وظنّي ؟ كيف أُطيقُ رؤيتها نائمةً حبيبةُ وجودي وجامعةُ الأرباب والألهة فيها شخصاً ووجهاً وجسداً هو الهيكل المقدّسُ الذي أتقرّبُ بالأضاحي والقرابينِ له وأسفك دمي بعضاً من نذوري وعهودي له ثم أحجُّ إليه شهراً إثرَ شهرٍ لألتمسَ أركانه وأمسحَ أهدابَ وأجفان عينيَّ تبركّاً بما يغطيه من أردية وإحراماتٍ ثم أرفعُ رأسي إلى الأعلى لأرى هل أنا في حُلُمٍ أمْ أنا يقظان وإني حقاً مع الحبيبة ـ المثال ـ الربّة ـ مريم التي آوتني وأطعمتني من رطب نخلتها وأدفأتني بحرارة رحم جسدها وأرضعتني لبنَ صدرها الربّاني المقدّس ؟
كيف حالك اليوم يا حبيبة ؟ هل إستأنفتِ الدوام في المعهد ؟ كيف قضيّتِ عطلة نهاية الأسبوع المنصرم ؟
صورتك جسداً ووجهاً وعينين تملأ فضاء بيتي ثم الفضاء الألماني بل وكل فضاءات الكون السرمدي ، فهل عرفتِ الحبَّ يا نبيّةَ النبيّات وسيدة الكائنات ؟ ما الفرقُ بين أنْ تعرفينه وأنْ تتعلمينه والمعرفةُ علمٌ كما تدرين ؟
ومتى لي تكتبين فشوقي لك لا حدودَ له .
عدّون / عدّون جنّات عدنكِ ... طفلك الظمآن للبن صدرك فاسقيه قبل أنْ يفارق الحياة ... ويتحرّقُ رغبةً وشوقاً لسكّر تمور نخيلك القرآنية وعسل ونبيذ ثغرك وخلاصة رمّان وبرتقال لسانك . أسعفيه سريعاً وإلا فإنه نافقٌ لا مَحالة ]].
وضعتُ القلمَ وحررتُ يدي لأمسحَ ما تراكم من عرقٍ على جبيني بذيل عباءة صاحبي الأميِّ . قال : إقرأ ما كتبتَ . فوجئتُ حقّاً بهذا السؤال . الرجلُ بدويٌّ وهذا لسانٌ عصريٌّ . فضيحة ! قرأتُ ببطءٍ وتوأدةٍ لكي أتنبّهَ فأتحاشى ما يزيدُ من ورطتي مع هذا المعتوه . تابعتُ قراءة الرسالة على مهلٍ ويدي على قلبي خوفاً مِنْ أنْ يبطشَ بي هذا البدويُّ الفاقدُ شأنه وعقله إذا ما اكتشف حقيقة أمر الرسالة . أنهيتُ قراءتي لكني لم أجرؤ على رفع رأسي لأرى ردود فعل صاحبي على ما كتبتُ بإسمه لحبيبته ليلى . تململتُ بحذرٍ شديد ثم قويّتُ عزمي وعزيمتي المنهارة ورفعت عينيَّ صوبَ صاحبي فيا للعجب ! أخيراً خدمني الحظُّ النادر الوقوع ! رأيتُ صاحبي نائماً فجهّزتُ نفسي وغادرتُ المكان دون إحداث صوتٍ أو ضجّةٍ . إعتليتُ ظهر ناقته البيضاء من غير سوءٍ ضارباً في عرض الصحراء لا ألوي على شئ . المهم أني أنجزتُ المهمةَ على أكملِ وجهٍ وبلغتْ رسالتي مسامعَ حبيبتي مريمَ وليذهب المجنونُ العامريُّ وإبنةُ عمّهِ إلى حيثُ ألقتْ رحلَها أمُّ قشعمِ .
[[ ملاحظة في زمنها : لا تصلُ رسائلي على كثرتها لمريمَ لأسباب أجهلها. أما تلفونها فأصمُّ أبكمُ ميّتٌ أو كالميت فما العملُ وما الحلُّ ؟ ]].
أجاب قيس العامري : لك اللهُ يا مجنون مريم ! إصبرْ كما صبرتُ على بلواك .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق