الجمعة، يونيو 06، 2008

رزوقة: إن مجرّد ابتسامة زائفة قد تنسف مشروعا ديمقراطيّا من أساسه


حسّان الباهي
جوزيف عيساوي: يكتب رزوقة قصيدة الهنا والآن، هدفه أن يخلق لغة تخصّه داخل اللّغة.
شوقي بزيع : تعتبر تجربة رزوقة من أهمّ التجارب الشعرية العربية الحديثة فهو يقدم مقاربة جديدة للشعر وصورا مدهشة، غير مسبوقة .




ضمن البرنامج الحواريّ الشّهير "قريب جدّا" الّذي ينشّطه مساء كلّ سبت الإعلاميّ اللّبنانيّ جوزيف عيساوي، استضافت قناة "الحرة" العالميّة في لبنان مؤخّرا الشاعر التّونسيّ يوسف رزوقة بصفته أمين عام شعراء العالم بأمريكا اللاّتينيّة و"باحثا في الشّعريّات" ، قاصدا بذلك إضفاء مدلول أوسع على الدّور الوظيفيّ الّذي قد يلعبه شاعر اليوم في الألفيّة الثّالثة.
في البداية، قدّم عيساوي ضيفه بقوله : هو" كالقطّ البرّيّ، كان يهرب من الناس، صادق الطبيعة وأعشاب الأرض إلى أن صارت الكلمة وجهه وعينيه. بين الشّعر والسّياسة، تنقّل يوسف رزوقة بحثا عن الحياة، الحياة، يكتب قصيدة الهنا والآن بالعربيّة وبلغات أخرى أحبّها وأحبّ شعراءها. هدفه في كلّ ما كتب أن يخلق لغة تخصّه داخل اللّغة، لكن من هي المرأة الّتي دفعته إلى التّنكّر للشّعر لعشر سنوات كاملة؟ وما هو رأيه في الزّواج بعد زوال الحبّ؟ لماذا انتقد رزوقة المتنبّي ثمّ يقبل مثله على السّياسة، طامحا في البرلمان، مدافعا عن السّلطة والنّظام في تونس؟ ماذا يقول عن العلمنة في بلاده، في وجه من يصفها من المتطرّفين بالكفر؟ وكيف يوسّع الشّاعر فضاء الأنترنات عبر مواقعه الكثيرة وانفتاحه على أدباء العالم؟".
تلا هذه المقّدمة ريبورتاج تمّ تصويره بالمناسبة في تونس ، في بيت الشّاعر مع عائلته وفي أماكن أخرى لها صلة بتحرّكاته اليوميّة وبنشاطه الأدبيّ.
تمّ ردّا على سؤال يخصّ الهويّة والجذور، تحدّث رزوقة عن قصور السّاف، مسقط رأسه وعن زردة، القرية الّتي تعني له العالم والتي هاجر إليها والده بعدما رفضت إحدى عائلات المدينة تزويجه بإحدى بناتها بذريعة أنّه لا يملك بيتا يشنق فيه نفسه، أمّا أمّه فقد تزّوجت والده وعمرها لا يتجاوز 13 سنة وتحدث عن طفولته وعيشه بمنأى عن والديه، لدى جدّته هناء الّتي كانت تغذّي خياله بخرافات محمّد بن السّلطان ورأس الغول والمخبّلة في شعورها وتحدّث عن أيّام الحرمان وكيف حفظ عن ظهر قلب قاموس لاروس الفرنسيّ وهو يرعى الأغنام، في وقت فراغه، بتكليف من والده الذي أجهش، على صرامته الظّاهرة، بالبكاء حين ذكر لأوّل مرّة اسم ابنه ككاتب في برنامج إذاعيّ يعدّه الفنان عمر خلفة.
وتحدّث عن حبّه الأوّل وكيف كان يربط شعر حبيبته تلك، في غفلة منها، إلى المقعد وكيف بالجائزة الّتي نالها عن كتابه الأول " أمتاز عليك بأحزاني" تزوّجا لاحقا، وهما طالبان في الجامعة وعن الحب، قال: بعد سنوات،يتآخى اللّحم مع اللحم ليحلّ محلّه إحساس آخر لعلّه الألفة التي يقتضيها الواقع المعيش والبناء الأسرويّ، الرّتيب أمّا بخصوص العلاقة مع أخريات، إن وجدت، فهي في رأيه ليست خيانة وإنّما "فسيفساء علاقة" في إشارة إلى أنّ الخيانة لن تكون كذلك إلاّ متى تسبّبت في انهيار بيت ما على ساكنيه.

الشعر ومتغيرات المرحلة

تناول الحوار قضايا تتعلق بالتجربة الشعرية الزّاخرة لرزوقة وعلاقته بالسلطة والحياة السياسية وموقفه من المرأة ومن التكنولوجيا وأثرها في حياته ونتاجه الإبداعي.
على امتداد ساعتين، وبين ريبورتاج مصوّر وآخر حول ضيف اللّقاء، استمرّ الحوار، من الألف إلى الياء، في نسق تصاعديّ ، ساخن شارك فيه من خارج الأستوديو، عبر الأقمار الصّناعيّة، الشاعر اللّبناني شوقي بزيع الّذي استهلّ حديثه حول الضّيف بقوله " تعتبر تجربة الصّديق يوسف رزوقة من أهمّ التجارب الشعرية العربية الحديثة لا سيّما في تونس فهو يقدم مقاربة جديدة للشعر وصورا مدهشة وغير مسبوقة خصوصا عندما يكون متطابقا مع ذاته حيث أنه شاعر غني وثري لكنني أؤاخذه على محاولته السير باتجاه العالم التكنولوجي وهذا يناقض روح الشعر الفطرية والبدائية والتي تستفيد من البراءة غير الموجودة بالتكنولوجيا".
وأشار بزيع إلى أنّ أشعار رزوقة ذات منحيين: الأول داخلي ومنطلق من الذات بصورة تلقائية والثاني مبنيّ على فكرة مصممة مسبقا قائمة على علاقة الشاعر بالتكنولوجيا ليضيف: "وهذا المنحى الأخير بحاجة إلى إعادة نظر ودراسة لأنني أرفض الشعر المنطلق من نظريات مسبقة قصد تطبيقها على اللغة".
وعن هذه المراوحة بين الشعر والتكنولوجيا، قال رزوقة: "نعم، أنا أزاوج بين الكلمة والمنتج التكنولوجي لأنني في النهاية جزء من هذا العالم الذي أصبح عبارة عن قرية كونية ولا أبالغ إذا قلت إننا نعيش جميعا في ظل جمهورية مايكروسوفت، لذا من حقي ، بل من واجبي أن أسوّغ هذا المنتج التكنولوجي وأن أقرّبه من الشعر والأدب".
وأكّد رزوقة أنّه لا يرغب في أن يكون شاعرا بل باحثا في الشعريات وأضاف "أحاول أن أكون الناطق الرّمزي باسم المرحلة وأن أعبّر عن كل التداعيات الإنسانيّة المختلفة ومنها ما هو مرتبط بالثورة التكنولوجية التي نعيش في ظل تأثيراتها وهكذا أخلق تواصلا بين العلوم والآداب بردم الهوّة بينهما".

سياسة الشاعر، دولة الكلمات

وعن علاقة رزوقة بالسياسة والسلطة، سأله عيساوي فأجاب "أنا أتعامل بودّ مع السياسة ولا يوجد عندي عقدة تجاه السلطة والدولة لأن الشاعر في النهاية جزء من النظام العالمي الجديد بكل تجلياته .
وأكد رزوقه أنّه يسعى للاستفادة من عمله بالسياسة من أجل تحقيق مكاسب للمثقفين في بلاده، مشيرا إلى رضاه عن مستوى الحريات العامّة وحرية الرأي والتعبير والنشر في تونس.
"سيماؤنا على وجوهنا وعلينا أن نحلّل بالسيميولوجيا كلّ شيء فنحن إزاء أزمة أكسيولوجيا مزمنة، اختلطت فيها معايير القيم" قال رزوقة ليخلص إلى الإقرار بأريحيّة تامّة بأنّه لا يرى حرجا في الانتماء إلى حزب بعينه ما دام لهذا الحزب مقولات فكريّة وبرنامج طموح يتناغم وتطلعاته، محتكما إلى ابن خلدون الّذي يرى أنّ "الخير أساس السّياسة" وإلى جدّه نيتشه ( هكذا قال) في طرحه الاستشرافي بقوله " كفى! سيجيء يوم يصبح فيه للّسياسة معنى آخر" وهو ما فسّره رزوقة بلزوم المشاركة السّياسية تواصلا مع راهن المرحلة ليرى أنّ السّياسة ، إلى جانب كونها فنّ التّعاطي مع الممكن، هي فنّ التّعاطي مع اللاّ متوقّع.
وأمام مقاطعة عيساوي له بخصوص تموقعه في الحزب الحاكم دون الأحزاب الأخرى، أجاب رزوقة بأنّ ما يهمّه هو الأداء السّياسيّ الّذي ينطوي على مشروع كبير وواضح وقد تجسد هذا في الحزب الذي ينتمي إليه وبخصوص عمّا إذا كان هذا يتعارض مع أطروحات الشاعر الملتزم بالحرّية والديمقراطيّة، نفى رزوقة أن يكون هناك ما يمنع مثل هذا الالتزام بمبدأ الحرّيّة ونحوها ليضيف بأنّ الحرّية حرّيّات ، لها أقانيم خصوصيّة، بمعنى أنّ لكلّ بلد مقولته القائمة في هذا السّياق مشيرا إلى أن العدالة هي الأخرى تختلف من بلد إلى آخر، مستندا إلى النّموذج التّونسيّ الّذي هو قائم بخصوصيّته التّونسيّة دون ضرورة القول بتسويقه، تحت أيّ سياق، إلى بلد آخر.
قاطعه عيساوي: إلى السعوديّة مثلا؟ استدرك رزوقة: لا للسعوديّة ولا لأيّ بلد آخر، لماذا؟ لأنّ للسّعوديّة مثلا مقوماتها الخاصّة وحريتها في التّعاطي مع مقولة الحرّيّة ولها من ثمّة خصوصيتها القائمة. كلّ شيء علينا أن نماحكه سيميولوجيا وبعين أخرى.
يسأله عيساوي: لا تريد أن تصبح بنات السّعوديّة مثل بنات تونس؟
يجيب رزوقة: لبنات تونس، وبمنأى عن أيّ طرح مستهجن، واقع مختلف اكتسبنه بعد معركة السّفور التي خاضها، غداة الاستقلال، الزّعيم بورقيبة ومن معه من المصلحين لأجل أن تقف المرأة التونسية بندّيّة تامّة مع نظيرها الرجل وتشاركه الفضاء "الهابرماسيّ"، العموميّ وقد ساعدتها البيئة التونسّية على ذلك.
يستطرد عيساوي: لكنّ البيئة التّونسيّة يحكمها كغيرها من البيئات منطق التحولات فلماذا لا تريد لبيئة أخرى، أن تتغيّر؟ وجواب رزوقة أن ذلك يظل رهين رغبة أهل الذّكر في البلد نفسه فلا يحقّ لأيّ كان أن يقتحم المجال الحيويّ للآخرين ليملي عليهم ما يتعارض، إن بشكل أو بآخر، مع سياساتهم. لكلّ واحد حريّته المخصوصة وأمنه الحضاريّ، فما يحدث في تونس ليس بشرطه أن ينسحب على بلدان أخرى.
واستفسر عيساوي منه عن موقفه مع سائق التاكسي في الأردن والذي قال له إن تونس خضراء ولكنّ شعبها كافر فقال: "بالفعل كنت مع الشاعر عز الدين المناصرة متجهين إلى إحدى الفعاليات الشعرية في عمّان وإذا بسائق التّاكسي يسألني: حضرتك من تونس؟ إنّ بلادكم خضراء لكن شعبها كافر ، فأجبته: نعم وهذا صحيح! نحن كافرون بمقولات المكفّرين الذين يقفون حجرة عثرة في طريق التّطوّر والانطلاق نحو الآفاق الأرحب ونحن كافرون بالتقاليد الرّثّة والأفكار والقيم البالية.
ويضيف رزوقة: لا يخفى على أحد وبلا أدنى مزايدة منا، أنّ لتونس إيقاعها الخاصّ فالعين تثقّفت بما يكفي والغريزة أيضا. بإمكان أصيل المكان أن يمرّ بشاطىء بوجعفر بالساحل التونسي أو بأيّ شاطىء آخر وأن يعاين أجسادا ممدّدة، على عري عظيم فلا يعيرها أدني اهتمام، ما دامت له مثل هذه العين المثقّفة، أمّا في أمصار أخرى، فإنّ الواقع مختلف تماما عن تونس.
سأله عيساوي: في تونس، هناك فصل بين الدولة والدين، بمعنى أن الدين لله والوطن للجميع...فهل تدعو إلى أن تشمل العلمانية كلّ البلدان الأخرى؟
أجاب رزوقة : يا ريت! بل أتمثل قولا مأثورا لأقول :"أمطري يا علمانيّة حيث شئت، فخراجك لنا"..نأمل ذلك، دون غمط الجانب العباديّ، الجميل للمؤمنين من عباد اللّه، ذلك الجانب الذي يخاطب فيهم الروح والوجدان معا.
من مقولاتك، يسأله عيساوي، أنّ اللّه وردة، كيف ذلك؟ ويجيب رزوقة، نعم، هو كذلك في المجاز، فالله هو الوردة العبقة والوردة هي المعادل الموضوعيّ والمجازيّ لكلّ شيء جميل وناهض ضدّ الشيطان والجريمة والتطرف بأنواعه بمعنى أن الله هو أن نكون جميلين في الأرض فلا نعيث فيها فسادا، أن نجامل امرأة بحلو الكلام فيكون لنا ثواب عند الله، أن نزرع حدائق، إلى غير ذلك...
يسأله عيساوي: أنت تقول إن مجرّد ابتسامة زائفة قد تنسف مشروعا ديمقراطيّا من أساسه، كيف ذلك؟
أجاب رزوقة: نعم، تكفي ابتسامة زائفة كي تنسف مشروعا ديمقراطيا من أساسه، متى انتفى الصدق من أيّ أداء سياسيّ، منذور لتحقيق حلم ما.
أنت خضت تشريعية 1999 ولم يحالفك الحظ في الفوز بمقعد في البرلمان؟
أضاف رزوقة، نعم ترشّحت بصورة حرّة وموازية لقائمات حزبي، كمحاولة منّي لامتحان نفسي ويبقى الفوز من عدمه، شأنا ثانويا بالنسبة إليّ فالعبرة بالمشاركة في مثل هذا السياق.
وكيف تمّ تعيينك "رئيس جمهوريّة ليوم واحد"؟
أجاب رزوقة: هي تخريجة تونسية، رمزيّة أملاها سياق انتخابيّ، حيث ارتأت اللجنة المنظمة لانتخابات 2004 أن تخصص "يوما مفتوحا" يلعب فيه المثقّف رمزيّا دور الرّئيس، عبر قيامه بزيارة استطلاعية إلى أحدى الولايات التونسية والوقوف من ثمة على ما تحقق من مكاسب، إلى غير ذلك.. وقد قمت بالمهمّة في ذلك اليوم ( إلى جانب نظراء لي تمّ إرسالهم إلى ولايات أخرى) وزرت ولايتي صفاقس وقابس بصفتي الرمزية تلك..
يعلّق عيساوي: السّلطة تلاعبكم "مليح" في ملعب الرّمز والمجاز...
يستطرد رزوقة: هي لا تلاعبنا ، بل قل نتبادل اللعب بالمعنى الغاداميريّ للكلمة ( على خلفية أن "اللعب نفسه يتضمن جدية خاصة به" تعني "التحول الذي من خلاله يبلغ اللعب البشري كماله الحقيقي، وهو الاستحالة إلى فن).
أمّا لماذا اعتزل الشعر لعشرة أعوام كاملة فيوضح رزوقة أن ذلك جاء بسبب امرأة استكثرت عليه أن يكون له حضور في مجال ذي صبغة سياسية ليكون موقفها ذاك والذي اختزلته بقولها : " لم يعد ينقصنا إلاّ الشّعراء" بمثابة القشّة التي قصمت ظهر الشاعر فيه فتوقف عن كتابة الشعر من 1992 إلى حدود 2002 ليعود إلى سالف حبّه الأوّل ويثأر من تلك السنوات العشر العجاف.

ليست هناك تعليقات: