الأربعاء، يونيو 25، 2008

125 عاماً على ولادة جبران: أديبنا ليس نيتشوياً






النهار
باسكال تابت
"ما ان عرف جبران نيتشه حتى كاد ينسى كلّ من عرفهم قبله من كبار الكتّاب والشعراء"، يقول نعيمه في كتابه "جبران خليل جبران". كان نعيمه أوّل من قال بتأثّر جبران بالفيلسوف الألماني نيتشه وأقام مقارنة بينهما، فأخذ الباحثون في ما بعد يقارنون بين فكر هذا اللبناني وفكر الفيلسوف الألماني وبخاصّة بين كتاب "النبي" لجبران و"هكذا تكلّم زرادشت" لنيتشه. وكثرت الأبحاث والآراء حول هذا الموضوع، وذهب البعض إلى القول إنّ جبران لم يفعل سوى نقل أفكار نيتشه. ما صحّة هذا الاعتقاد وما مدى تأثّر جبران بنيتشه؟ وهل هذا التأثّر يجعل جبران نيتشويّاً؟
نعلم من رسائل جبران وماري هاسكل أنّ الأديب اللبناني قرأ كتاب "هكذا تكلّم زرادشت"، كما كان يتحدّث كثيراً عنه مع ماري ويقرأان منه فصولاً. تتمحور فلسفة نيتشه على فكرة موت الله. يقول زرادشت "أنا هو زرادشت الذي لا إله له"، و"أنا هو القائل: من ذا أكثر كفراً منّي لأنعم بتعاليمه؟"، ويدعو تالياً الإنسان إلى بلوغ السوبرمان أو الإنسان المتفوّق الذي يحلّ محلّ الله في الفكر النيتشوي. إنسان نيتشه يتألّه على حساب موت الله. أمّا جبران فيؤمن بأنّ في الإنسان شيئاً من الألوهة التي يمكنه بلوغها ببلوغ ذاته الكبرى. لكنّ هذه الألوهة نفحة من الروح الكليّة. يمكن وضع التمرّد النيتشوي في إطار التمرّد على الله: "أمن الممكن أنّ هذا القدّيس المتوحّد في الغاب لم يسمع حتّى الآن بأنّ الله قد مات؟"، يتساءل زرادشت. أمّا جبران فظلّ في قلب تمرّده منبهراً بالمسيح الذي اعتبره نيتشه ضعيفاً وجباناً. يقول في "نحن وأنتم" في "العواصف": "قد صلبتم الناصري ووقفتم حوله تسخرون به وتجدّفون عليه، ولكن لمّا انقضت تلك الساعة نزل من على صليبه وسار كالجبّار يتغلّب على الأجيال بالروح والحق ويملأ الأرض بمجده وجماله." لعلّ جبران في فكرة تألّه الإنسان قد تأثّر بالمسيحيّة التي تقول بأنّ أجسادنا "هياكل للروح القدس": "كنّا في الأمس نحرق البخور أمام الأصنام وننحر الضحايا أمام الآلهة الغضوب، أمّا اليوم فصرنا لا نحرق بخوراً إلاّ لنفوسنا ولا نقدّم ذبيحة لغير ذواتنا لأنّ أعظم الآلهة وأبهاهم جمالاً قد جعل هيكله في صدورنا".
تمرُّد جبران نتيجة شعوره بالغربة في هذا العالم، التي اختبرها بالجسد وبالروح. اضطره الفقر والأحوال السياسيّة والإجتماعيّة في لبنان آنذاك إلى هجر وطنه للعيش في وطن غريب وظلّ دائم الحنين إلى أرز الرب ووادي قاديشا. وكان دائم الشعور بالغربة النفسيّة إذ ليس من يدرك خفايا نفسه ومكنوناتها: "أنا غريب في هذا العالم. أنا غريب وفي الغربة وحدة قاسية ووحشة موجعة غير أنّها تجعلني أفكّر أبداً بوطنٍ سحري لا أعرفه، وتملأ أحلامي بأشباح أرض قصيّة ما رأتها عين". وهل من عاش قسوة الغربة والتغرّب ينتظر نيتشه أو آخر ليتمرّد؟ لا! ليس تمرّد جبران من حبر وورق، ولا هو تقليد لأسلوب أو لفكر رجل أعجب به شديد الإعجاب فأضحى ببغائيّا، بل هو تمرّد من لحم ودم. خرج نيتشه في تمرّده على كلّ سياق. كفر بالمجتمع البشري ودعا الإنسان المثالي إلى الإنفصال عنه، وبشّر بصاعقة ليست سوى الإنسان المتفوّق: "ما أنا إلاّ منبئ بالصاعقة، أنا القطرة الساقطة من الفضاء، وما الصاعقة التي أبشّر بها سوى الإنسان المتفوّق". كره نيتشه الإنسان ورفض بشريّته، وتميّز بمقدرته المذهلة على الهدم. تعاليمه لا يستطيع أن يطبّقها إنسان، وهذا ما أدّى به إلى الجنون لعجزه عن التزام التعاليم التي بشّر بها بنفسه. أراد نيتشه تحقيق الكمال لكنّ طريقته كانت خاطئة منذ البداية، فهو هدّام والهدم لا يؤدّي إلاّ إلى العدم. لم يهدم جبران رغبة منه بالهدم بل بالبناء. هدم ما كان مرتكزاً على أسس غير سليمة من أجل بناء مجتمع أفضل، لا يقوم على الانتقائيّة والعنصريّة النيتشويّة بل على المساواة بين الناس: "يظنّ البعض أنّني عنيف وهدّام ولكن كيف أقوى على البناء من دون هدم؟ نحن الناس كثمار الجوز: علينا أن نكسر لننفتح. وقد يصح استخدام "ورق الزجاج" لهذه المهمّة لكن ذلك يقتضي وقتاً طويلاً واللمسات الناعمة لا توقظ الناس"، يقول لماري. جبران إنسانيّ في هدمه، لا أثر عنده للعدميّة النيتشويّة. إنّه شرقيّ، محبّ للحياة بكلّ مظاهرها، يفعل كلّ شيء من أجل التصالح معها. رفض جبران أن يرضخ الإنسان لوضعه وذلك حبّاً به وبالإنسانيّة، ولأنّه مؤمن بقدرة الإنسان على بلوغ أرقى الدرجات كما يتجلّى لنا من خلال مؤلّفاته ولوحاته. في ثورة جبران رحمة ورأفة بالآخر: "نحن نبكي لأنّنا نرى تعاسة الأرملة وشقاء اليتيم، وأنتم تضحكون لأنّكم لا ترون غير لمعان الذهب. نحن نبكي لأننا نسمع أنين الفقير وصراخ المظلوم. وأنتم تضحكون لأنّكم لا تسمعون سوى رنّة الأقداح". يثور جبران في "يا بني أمّي" على من يرفض أن يعيش الحياة في عمقها. يصرخ: "إنّي أكرهكم يا بني أمّي"، ليس لأنّه يبغض البشر في الأساس بل لأنّهم لا يدركون جودة الحياة التي هي في عمقها عطاء: "نفوسكم تتلوّى جوعاً وخبز المعرفة أوفر من حجارة الأودية، ولكنّكم لا تأكلون وقلوبكم تختلج عطشاً ومناهل الحياة تجري كالسواقي حول منازلكم فلماذا لا تشربون؟". أمّا ثورة نيتشه فشاملة عامّة لا رحمة فيها. يقول إسطفان في إحدى محاضراته: "لقد انتقى جبران بعض الإنحرافات في المجتمع وبعض التزمّت في المسيحيّة والدين، بينما هاجم نيتشه جميع القيم التقليديّة، وكلّ أخلاقيّة ممكنة، فضلاً عن الدين. كان نقد جبران، حتى حين بلغ أشدّ المرارة، نوعيّاً. أمّا نقد نيتشه فكان، حتى حيث عبّر عنه بسخرية وتهكّم، عاماً شاملاً".
إذا كان التمرّد جمع بين جبران ونيتشه، فهو يختلف غاية ونوعاً وجوهراً وعمقاً بينهما. تجدر الإشارة إلى أنّ الاثنين كانا منبهرين بالشرق وبحضارته. فالشرق لهما لغزٌ، كما لفريد هولاند داي ولماري هاسكل ولغالبية الشعراء والفنانين الذي تعرّف جبران إليهم في أميركا، وله سحر خاص به يجذبك بالسطوة التي للجمال. وكان جبران في حبّه لشرق يهدف إلى تحسينه ليكون قويّاً بروحانيّته، التي تشرّبها منذ الطفولة. أمّا نيتشه فكان أكثر انبهاراً بالوثنيّة الإغريقيّة التي جذبت أدباء القرن التاسع عشر الألمان من غوته إليه. وكان الفيلسوف الألماني هايدغر يفاخر بكون الألمان من سلالة الإغريق، وورثتهم.
هناك أمر آخر يشكّل نقطة اختلاف أساسيّة بين نيتشه وجبران هو موقفهما من المرأة. الأوّل ميزوجينيّ، ابتعد عن المرأة مقتنعاً بأنّها كائن دونيّ وشرّ محض، فهاجمها بعنف: "المرأة ليست أهلاً للصداقة، فالمرأة لا تعرف غير الحب"، و"إنّ حب المرأة ينطوي على تعسّف وعماية تجاه من لا تحب، وإذا اشتعل بالحب قلبها فإنّ أنواره معرّضة أبداً لخطف البروق في الظلام". أمّا جبران فيحبّ المرأة ويقدّرها ويجلّها وقد احتلّت مكانة مهمّة في فكره وفنّه. في كتاب "النبي" الذي يسميّه جبران "كتابي"، كانت المطرة أوّل من آمن بالمصطفى ومن سعى إليه. وهي التي سألته أن يخطب فيهم ويعطيهم من الحق الذي عنده. وعندما رفع البحّارة مرساة السفينة في نهاية الكتاب وساروا بالمصطفى نحو الشرق، وحدها المطرة ظلّت صامتة على رغم صراخ الشعب كلّه لأنّها أدركت عمق أعماق "المختار الحبيب"، وبعدما "تفرّق الشعب كلّ في سبيله"، "ظلّت وحدها واقفة على شاطئ البحر تردّد في قلبها كلمات المصطفى الأخيرة". يقول عن المرأة في "خليل الكافر": "من قلب المرأة الحسّاس تنبثق سعادة البشر، ومن عواطف نفسها الشريفة تتولّد عواطف نفوسهم.".
ارتكز الباحثون في قولهم بتأثر جبران بنيتشه على كتابه "النبي" الذي اعتبروه مرآة تعكس "هكذا تكلّم زرادشت". يقول نعيمه في هذا الإطار "لم يكن كلّه (النبي) من صوغ جبران. شكله الإجمالي مستعار من نيتشه وزرادشت فكأنّ جبران الذي تخلّص من سطوة أفكار نيتشه لم يتخلّص من سطوة أساليبه البيانيّة والفنيّة". تجدر الإشارة هنا إلى أن كتاب نعيمه نفسه "مرداد" ارتدى من حيث الأسلوب حلّة نيتشويّة تامة الملامح على رغم أنّ تعاليمه تتعارض مع إلحاد نيتشه الجذري.
وإذا كان "النبي" شبيهاً من حيث الأسلوب بـ"هكذا تكلّم زرادشت"، فهو مختلف اختلافاً جوهريّاً من حيث المضمون والروح. فالمحبّة إكليل الكتاب. إنّها الكينونة في قلب الله. لعلّ نيتشه لو قرأ هذا الكلام لجبران لاعتبره كلام إنسان ضعيف، بعيد كلّ البعد عن إنسانه المتفوّق، ينادي بالحب ليعوّض عن جبانته ووضاعة بشريّته. ألم يقل في الفصل الذي أطلق عليه اسم "محبّة القرب"، "إنّ ما أشير إليكم هو أن تنفروا من محبّة القريب لا أن تحبّوه، وذلك لتتمكّنوا من محبّة الإنسان البعيد"؟ (يقصد الإنسان المتفوّق المنتظر)، وهل في إمكان من لا يحبّ الإنسان القريب أن يحبّ البعيد؟! كم هذا غريب عن الروح الجبرانيّة القائلة: "ولكن إذا أحببت، وكان لا بدّ من أن تكون لك رغبات خاصّة بك، فلتكن هذه رغباتك: أن تذوب وتكون كجدول متدفّق يشنف آذان الليل بأنغامه (...). أن يجرحك إدراكك الحقيقي للمحبّة في حبة قلبك، وأن تنزف دماؤك وأنت راضٍ مغتبط. أن تنهض عند الفجر بقلب مجنّح خفوق، فتؤدّي واجب الشكر ملتمساً يوم محبّة آخر"، وأن تنام "والصلاة لأجل من أحببت تتردّد في قلبك وأنشودة الحمد والثناء مرتسمة على شفتيك". ويرفض نيتشه أيضاً كلام جبران عن الصلاة. وكيف يقبل بالصلاة، ولمن يصلّي من قد مات إلهه بل من قتل إلهه؟ كيف يقبل بتضرّع جبران "ربنا وإلهنا، يا ذاتنا المجنّحة، إننا بإرادتك نريد، وبرغبتك نرغب ونشتهي. بقدرتك تحوّل ليالينا، وهي لك، إلى أيّام هي لك أيضاً". وما كان نيتشه ليقبل موقف جبران من الدين المتجلّي "بكلّ ما في الحياة من الأعمال"، فالدين عنده اختراع بشريّ، اخترعه الإنسان بسبب ضعفه وخوفه ليُسقِطَ عليه جبانته بدلاً من السعي لبلوغ الإنسان المتفوّق. فالقيم التي بشّر بها جبران في "النبي" مختلفة في عمقها وجوهرها اختلافاً جذريّاً عمّا بشّر به نيتشه في "هكذا تكلّم زرادشت". والنبي في أسلوبه أكثر بساطة وشفافيّة من كتاب الفيلسوف الألماني. إنّه في أسلوبه متأثّر أيضاً، وبخاصّة، بالإنجيل، وبشكل خاص بعظات المسيح. والجدير بالذكر أنّه من المرجّح أن جبران لم يقرأ من مؤلفات نيتشه سوى "هكذا تكلّم زرادشت". ومع أنّ هذا المؤلف معتبر عالميّاً أهمّ إنتاجات نيتشه، فإنّه لا يمثّل نيتشه بكامله.
زبدة القول أنّ شخصيّة جبران غير شخصيّة نيتشه، وتبصّراته غير تبصّرات الفيلسوف الألماني. فالفكر الجبراني ليس نيتشويّاً، وإن كان جبران قد تأثّر ببعض من سبقوه أو كانوا معاصرين له.


ليست هناك تعليقات: