نبيل عودة
" اسرائيل ،الثورية الفتية المليئة بالحياة ، تحولت الى متحدثة باسم الأموات ،دولة تتحدث باسم كل اؤلئك غير الموجودين ، أكثر مما تتحدث باسم كل اؤلئك الموجودين . واذا كان هذا لا يكفي ، الحرب حولتنا ، بدون ارادتنا ، من ظاهرة شاذة ، لنصبح قاعدة الشواذ نفسه . طريقة حياتنا قتالية . مع الجميع . مع الأصدقاء ومع الأعداء . قتال مع الخارج وقتال مع الداخل ، يمكن القول ، ليس بتوسع أو بشكل مجازي ، انما بحزن وثقة ، ان الاسرائيلي يفهم فقط ... القوة . هذا الوضع بدأ كحالة استعلائية اسرائيلية امام عجز العرب من التغلب علينا في ساحات الحرب ، واستمر كأثبات للكثير جدا من التصرفات والقناعات السياسية ، التي لايمكن قبولها في عالم سوي. كل دولة تحتاج الى قوة بدرجة معقولة. الى جانب القوة تحتاج كل دولة ايضا الى سياسة وقدرة نفسية على لجم القوة . لنا توجد قوة . الكثير من القوة وفقط قوة . لا يوجد لنا أي بديل للقوة ، ولا نملك أي فهم أو ارادة عدا ان نجعل القوة تتكلم .. " و اعطاء جيش الدفاع الاسرائيلي لينتصر " . في نهاية الأمر حدث لنا ما يحدث لكل ممارسي العنف والبلطجية في العالم : شوهنا التوراة وشوهنا مفاهيمنا ولم نعد قادرين نحن انفسنا على فهم أي شيء آخر عدا لغة القوة . حتى على مستوى علاقة الزوج بزوجته ، وعلاقة الانسان بصديقة ، وعلاقة الدولة بمواطنيها ، وعلاقة القادة ببعضهم البعض . ان الدولة التي تعيش على حرابها ، والتي تسجد لأمواتها ، نهايتها ، كما يبدو ، ان تعيش بحالة طوارئ دائمة ، لأن وجهة نظرها أن الجميع نازيون ، كلهم ألمان ، كلهم عرب ، كلهم يكرهوننا ، والعالم ، بطبيعته ، كان دائما ضدنا ... "
هذا مقطع من الكتاب المثير ، والذي أحدث عاصفة ما تزال في بدايتها ، وهزة عميقة للغاية في المجتمع الاسرائيلي ، أشغلت وسائل الاعلام والمعلقين واصحاب الرأي والفكر ، ومتوقع ان يواصل هذا الكتاب استفزازه ، عبر توجيه صفعات اليمة ، للكثير من المسلمات التي بدأ المجتمع اليهودي في اسرائيل يتعامل معها كقوانين للحياة لا يجوز اختراقها ، أو التشكيك فيها . او التفكير بصياغات اخرى بديلة ...
مؤلف الكتاب " ابراهام بورغ "هو انسان غير عادي ، والده يوسف بورغ كان قائدا للحزب الوطني الديني ( المفدال ) ووزير في حكومات اسرائيل المتعاقبة منذ العام 1951 وحتى العام 1988 ,عضو في الكنيست الأولى وحتى الكنيست الحادية عشرة ، حين خرج للتقاعد ... وهو من المهاجرين اليهود الألمان الذين وصلوا فلسطين منذ العام 1939. وابنه ، ابراهام بورغ وراؤه سيرة حياة مثيرة أيضا .
كجندي احتياط ، انضم ونظم قبل 25 سنة مجموعة "جنود ضد الصمت " ، وهي من أول التنظيمات الاحتجاجية التي يقوم بها الجنود ، وقتها ضد الحرب اللبنانية الاولى ، وما خلفته من مذابح ضد الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا (1983 ) ونجحوا بتحريك احتجاج جماهيري لم تشهد اسرائيل مثيلا له من قبل أو من بعد .. اذ نظموا مظاهرة احتجاجية شارك فيها 400 الف انسان .. وبدأ نجم بورغ بالسطوع السياسي . بدأ طريقه بمعية شمعون بيرس ( حزب العمل ).. ثم سطع نجمه كقائد لجيل الشباب في حزب العمل ، انتخب للكنيست ، واختير كرئيس للوكالة اليهودية ، وعاد فيما بعد للنشاط السياسي ، وانتخب رئيسا للكنيست ، وكان مرشحا لقيادة حزب العمل ، والمنافسة على رئاسة الحكومة ، حين ترك فجأة العمل السياسي ، واتجه للأعمال الحرة .
كتاب بورغ المثير للجدل في المجتمع الاسرائلي هو كتاب " لننتصر على هتلر " ، يقول بورغ أنه استغرقه عشر سنوات لانجازه .
قراءة الكتاب تكشف اسباب هذا الوقت الطويل الذي استغرقت بورغ كتابته ، الكتاب ليس مجرد ببلوغرافيا لشخصية سياسية مؤثرة ، ويمكن اعتباره ببلوغرافيا فكرية . انه حساب قاس مع النفس ، مع المجتمع ، مع التاريخ ، مع الأخلاق ،مع الفكر ، مع المفاهيم ومع السياسة الممارسة...
الكتاب جريء في طرحه للحقائق عن الواقع الاسرائيلي ، والمجاهرة بنقد المقدسات والمواقف النهائية والايمانية للمجتمع الاسرائيلي ، التي كانت تبدو أزلية ، وعليها شبه اجماع قومي من اليمين حتى اليسار .. من معسكر السلام وحتى سوائب المستوطنين...
ما لفت انتباهي للكتاب ليس فقط ما أثاره من النقد الواسع ، وبعضه عنيف ضد المكاشفة الجريئة والقاتلة في الكثير من تفاصيلها ، التي قام بها بورغ في كتابه ، انما أيضا ما قاله في مقابلاتة التلفزيونيه ، مفسرا تحول مفاهيمه ، أو طرحه لتجربته الحياتية والسياسية . قال ، وهذا النص ايضا مسجل في كتابه : " انا انسان ، وانا يهودي ( بورغ يهودي متدين – نبيل ) وانا اسرائيلي . الصهيونية كانت أداة لنقلي من حالة التراكمية اليهودية الى حالة التراكمية الاسرائيلية. وأعتقد أن بن غوريون ( أول رئيس لحكومة اسرائيل – نبيل ) هو القائل ان الحركة الصهيونية كانت دعائم لاقامة البيت القومي ، وانه بعد اقامة الدولة ، يجب فكها " .
اذن هل تخلى بورغ عن يهوديته ( كمتدين ) وعن قوميته الاسرائيلية كوطني اسرائيلي ؟! وهي اسئلة طرحت عليه عبر المقابلات التلفزيونية وعبر ما نشر من مراجعات لكتابه المذهل في صراحته .
أجاب : اليهودية السائدة اليوم هي اليهودية الحريدية ( السلفية المتعصبة – نبيل ) وأنا لست كذلك ، والقومية اليهودية السائدة اليوم هي قومية المستوطنين ، وانا لست منهم ".
بورغ متهم في العاصفة التي أثارها كتابه ، انه لم يعد صهيونيا.. وذلك على ضوء ما كتب: " في المؤتمر اليهودي الأول انتصرت صهيونية هرتسل على صهيونية أحاد هعام علينا ان نبقي هرتسل وراءنا ، وأن ننتقل الى أحاد هعام " .( احاد هعام - 1856 – 1927 - اسم ادبي لكاتب يهودي روسي ، كانت رؤيته ان اليهودية تعني المصداقية والأستقامة في التعامل مع كل انسان ، وان تبني مجتمعا يشكل نموذجا لسائر الشعوب ، وان تكون مركز روحي لليهودية المتجددة ، والاستقامة والعدل – نبيل )
احاد هعام ، يكتب بورغ : " اتهم هرتسل بأن كل صهيونيته مصدرها باللاسامية ، بينما أحاد هعام فكر باتجاه آخر ، فكر باسرائيل كرمز فكري ، اتجاه أحاد هعام لم يمت ، والآن حان وقته .. " ويحذر من اليهودية والصهيونية السائدتين في اسرائيل ، ويصفهما بانهما "مليئتين بالمصائب " .
من المواضيع المثيرة في كتاب بورغ ، رفضه لصيغة دولة يهودية ، جاء في كتابه : " ان تعريف دولة اسرائيل كدولة يهودية ، هذه بداية نهايتها . دولة يهودية يعني قنبلة ، مواد تفجير " .
ويرفض بورغ النشيد القومي : " النشيد القومي رمز ، انا على استعداد لقبول واقع ان كل شيء جيد وفقط النشيد القومي سيء".
ومن المواضيع البارزة في الكتاب ، دعوة بورغ لفك الوكالة اليهودية ، وتغيير قانون العودة ( عودة اليهود الى اسرائيل – نبيل )يكتب حول قانون العودة : " يجب طرح الموضوع للنقاش . قانون العودة هو قانون يفتقد للاستقامة ، هو نسخة مشابهة لهتلر . انا لاأريد ان يعرف لي هتلر هويتي . كشخص دمقراطي وانساني ، هذا القانون يضعني في تناقض ، قانون العودة يباعد بيننا وبين يهود المهجر وبيننا وبين العرب ".
وعن الوكالة اليهودية .. : " منذ كنت رئيسا للوكالة اليهودية ، اقترحت تغيير اسمها من الوكالة اليهودية لأرض اسرائيل الى الوكالة اليهودية للمجتمع الاسرائيلي " ... " ويجب أن يكون بمركز نشاطهم تقديم الخدمات لكل مواطني اسرائيل ، بما في ذلك العرب " .
ويكتب عن حرب لبنان : " انظروا الى حرب لبنان ، عاد الشعب من ساحة الوغى . كانت انجازات معينة . كانت قصورات معينة . كشف عن امور عدة . كنت اتوقع من وزراء واشخاص من اليمين ان يفهموا ، انه عندما نعطي لجيش الدفاع الاسرائيلي أن ينتصر ، فهو لا ينتصر . القوة ليست هي الحل . وفي هذا الوقت لدينا مشكلة في غزة ، ما هو الحديث عن غزة ؟ ان ندخل بهم ، نمحوهم . لم نستوعب شيئا . لا شيء . وهذا ليس فقط في المستوى بين شعب وشعب آخر .أنظر للعلاقات بين الانسان وصديقة. أنصت للحديث الشخصي ، الأرتفاع بالعنف في الشوارع ، أحاديث النساء المضروبات ، أنظر الى صورة وجه اسرائيل . "
ويكتب عن الاحتلال :" الاحتلال هو جزء صغير من الوضع . اسرائيل مجتمع خائف . من أجل البحث عن جنون القوة وقلعها ، يجب معالجة المخاوف .والخوف الأعلى ، الخوف القديم ، هو ستة ملايين يهودي الذين قتلوا بالكارثة ."
ويكتب بورغ بانه عندما كان رئيسا للكنيست: ".. استمعت الى الآحاديث ، وقمت بالحديث بعمق مع أعضاء الكنيست من جميع الاتجاهات . سمعت رجال سلام يقولون انهم يريدون السلام لأنهم يكرهون العرب ولا يستطيعوا رؤيتهم او تحملهم . وسمعت أشخاص من اليمين يتفوهون مثل جماعة كهانا ( مئير كهانا ، عنصري متطرف معاد للعرب ، منع من الوصول للكنيست ، قتله فلسطيني في الولايات المتحدة ، جماعته من أشرس وأسفل المجموعات الاستيطانية ، وينادون بترحيل العرب من مواطني اسرائيل والمناطق الفلسطينية – نبيل ) الكهانية موجودة في الكنيست ، رفضوها كحزب ، ولكن حوالي 10 أو 15 وربما 20 % من الحديث اليهودي داخل الكنيست ، هو حديث غير سهل ... مليء بالفقاقيع ."
هذه لمحة صغيرة من نبوءة ابراهام بورغ المرعبة للكثيرين من العنصريين ومعتمدي سياسة القوة ، والذين على قناعة مرعبة بأن القوة هي الحل الوحيد ، وباتوا أسرى تفكيرهم المحدود والمغلق ، دون القدرة على رؤية بدائل أخرى للتعامل ..
الكتاب لا يهادن وجريء في تناوله لأهم القضايا وأكثرها حساسية ، والمكاشفة بصراحة غير معهودة ، خاصة من شخصية وصلت الى قمة السلطة في اسرائيل . ولا يتردد في القول انه لا يشعر باي انتماء للجمهور المتدين الذي جاء منه ، " انا لا أنتمي اليهم " يقول بوضوح . ويهاجم التيار العلماني ويتهمه أنه أسير تعصبه القومي .
ولا يتردد في مطالبة اسرائيل بالتخلي عن سلاحها النووي .. والكاتب لا يتردد باجراء مقارنة دائمة في كتابه بين اسرائيل والمانيا النازية ، وربما ليس بالصدفة ان الأسم الأول للكتاب ، خلال فترة اعداده ، كان " هتلر انتصر " .. ، يقول: " انا موافق انه يوجد مصاعب ، ولكن هل هي مصاعب مستحيلة ؟ هل كل عدو هو اوشفيتس ؟ هل كل حماس هي عدو ؟
ومع ذلك بورغ متفائل ، ولا ينفي امكانية عودته للسياسة ، ويقرر انه في عام 2010 فقط ستبدأ سياسة جديدة في اسرائيل ، بعد ان ينتهي دور جيل أولمرت – براك ، سيجيء جيل من مجال الاقتصاد ، من الأكاديميا ، ومن الفن ، ربما عندها سيكون لي مكان " كما يقول بورغ .
عنوان الكناب " لننتصر على هتلر "، تنكشف رمزيته بأن النصر الذي يريده بورغ هو نصر على هتلر الاسرائيلي الذي يعتمد لغة القوة في كل ما ينهج .
نبيل عودة – كاتب ، ناقد واعلامي – الناصرة
nabiloudeh@gmail.com
" اسرائيل ،الثورية الفتية المليئة بالحياة ، تحولت الى متحدثة باسم الأموات ،دولة تتحدث باسم كل اؤلئك غير الموجودين ، أكثر مما تتحدث باسم كل اؤلئك الموجودين . واذا كان هذا لا يكفي ، الحرب حولتنا ، بدون ارادتنا ، من ظاهرة شاذة ، لنصبح قاعدة الشواذ نفسه . طريقة حياتنا قتالية . مع الجميع . مع الأصدقاء ومع الأعداء . قتال مع الخارج وقتال مع الداخل ، يمكن القول ، ليس بتوسع أو بشكل مجازي ، انما بحزن وثقة ، ان الاسرائيلي يفهم فقط ... القوة . هذا الوضع بدأ كحالة استعلائية اسرائيلية امام عجز العرب من التغلب علينا في ساحات الحرب ، واستمر كأثبات للكثير جدا من التصرفات والقناعات السياسية ، التي لايمكن قبولها في عالم سوي. كل دولة تحتاج الى قوة بدرجة معقولة. الى جانب القوة تحتاج كل دولة ايضا الى سياسة وقدرة نفسية على لجم القوة . لنا توجد قوة . الكثير من القوة وفقط قوة . لا يوجد لنا أي بديل للقوة ، ولا نملك أي فهم أو ارادة عدا ان نجعل القوة تتكلم .. " و اعطاء جيش الدفاع الاسرائيلي لينتصر " . في نهاية الأمر حدث لنا ما يحدث لكل ممارسي العنف والبلطجية في العالم : شوهنا التوراة وشوهنا مفاهيمنا ولم نعد قادرين نحن انفسنا على فهم أي شيء آخر عدا لغة القوة . حتى على مستوى علاقة الزوج بزوجته ، وعلاقة الانسان بصديقة ، وعلاقة الدولة بمواطنيها ، وعلاقة القادة ببعضهم البعض . ان الدولة التي تعيش على حرابها ، والتي تسجد لأمواتها ، نهايتها ، كما يبدو ، ان تعيش بحالة طوارئ دائمة ، لأن وجهة نظرها أن الجميع نازيون ، كلهم ألمان ، كلهم عرب ، كلهم يكرهوننا ، والعالم ، بطبيعته ، كان دائما ضدنا ... "
هذا مقطع من الكتاب المثير ، والذي أحدث عاصفة ما تزال في بدايتها ، وهزة عميقة للغاية في المجتمع الاسرائيلي ، أشغلت وسائل الاعلام والمعلقين واصحاب الرأي والفكر ، ومتوقع ان يواصل هذا الكتاب استفزازه ، عبر توجيه صفعات اليمة ، للكثير من المسلمات التي بدأ المجتمع اليهودي في اسرائيل يتعامل معها كقوانين للحياة لا يجوز اختراقها ، أو التشكيك فيها . او التفكير بصياغات اخرى بديلة ...
مؤلف الكتاب " ابراهام بورغ "هو انسان غير عادي ، والده يوسف بورغ كان قائدا للحزب الوطني الديني ( المفدال ) ووزير في حكومات اسرائيل المتعاقبة منذ العام 1951 وحتى العام 1988 ,عضو في الكنيست الأولى وحتى الكنيست الحادية عشرة ، حين خرج للتقاعد ... وهو من المهاجرين اليهود الألمان الذين وصلوا فلسطين منذ العام 1939. وابنه ، ابراهام بورغ وراؤه سيرة حياة مثيرة أيضا .
كجندي احتياط ، انضم ونظم قبل 25 سنة مجموعة "جنود ضد الصمت " ، وهي من أول التنظيمات الاحتجاجية التي يقوم بها الجنود ، وقتها ضد الحرب اللبنانية الاولى ، وما خلفته من مذابح ضد الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا (1983 ) ونجحوا بتحريك احتجاج جماهيري لم تشهد اسرائيل مثيلا له من قبل أو من بعد .. اذ نظموا مظاهرة احتجاجية شارك فيها 400 الف انسان .. وبدأ نجم بورغ بالسطوع السياسي . بدأ طريقه بمعية شمعون بيرس ( حزب العمل ).. ثم سطع نجمه كقائد لجيل الشباب في حزب العمل ، انتخب للكنيست ، واختير كرئيس للوكالة اليهودية ، وعاد فيما بعد للنشاط السياسي ، وانتخب رئيسا للكنيست ، وكان مرشحا لقيادة حزب العمل ، والمنافسة على رئاسة الحكومة ، حين ترك فجأة العمل السياسي ، واتجه للأعمال الحرة .
كتاب بورغ المثير للجدل في المجتمع الاسرائلي هو كتاب " لننتصر على هتلر " ، يقول بورغ أنه استغرقه عشر سنوات لانجازه .
قراءة الكتاب تكشف اسباب هذا الوقت الطويل الذي استغرقت بورغ كتابته ، الكتاب ليس مجرد ببلوغرافيا لشخصية سياسية مؤثرة ، ويمكن اعتباره ببلوغرافيا فكرية . انه حساب قاس مع النفس ، مع المجتمع ، مع التاريخ ، مع الأخلاق ،مع الفكر ، مع المفاهيم ومع السياسة الممارسة...
الكتاب جريء في طرحه للحقائق عن الواقع الاسرائيلي ، والمجاهرة بنقد المقدسات والمواقف النهائية والايمانية للمجتمع الاسرائيلي ، التي كانت تبدو أزلية ، وعليها شبه اجماع قومي من اليمين حتى اليسار .. من معسكر السلام وحتى سوائب المستوطنين...
ما لفت انتباهي للكتاب ليس فقط ما أثاره من النقد الواسع ، وبعضه عنيف ضد المكاشفة الجريئة والقاتلة في الكثير من تفاصيلها ، التي قام بها بورغ في كتابه ، انما أيضا ما قاله في مقابلاتة التلفزيونيه ، مفسرا تحول مفاهيمه ، أو طرحه لتجربته الحياتية والسياسية . قال ، وهذا النص ايضا مسجل في كتابه : " انا انسان ، وانا يهودي ( بورغ يهودي متدين – نبيل ) وانا اسرائيلي . الصهيونية كانت أداة لنقلي من حالة التراكمية اليهودية الى حالة التراكمية الاسرائيلية. وأعتقد أن بن غوريون ( أول رئيس لحكومة اسرائيل – نبيل ) هو القائل ان الحركة الصهيونية كانت دعائم لاقامة البيت القومي ، وانه بعد اقامة الدولة ، يجب فكها " .
اذن هل تخلى بورغ عن يهوديته ( كمتدين ) وعن قوميته الاسرائيلية كوطني اسرائيلي ؟! وهي اسئلة طرحت عليه عبر المقابلات التلفزيونية وعبر ما نشر من مراجعات لكتابه المذهل في صراحته .
أجاب : اليهودية السائدة اليوم هي اليهودية الحريدية ( السلفية المتعصبة – نبيل ) وأنا لست كذلك ، والقومية اليهودية السائدة اليوم هي قومية المستوطنين ، وانا لست منهم ".
بورغ متهم في العاصفة التي أثارها كتابه ، انه لم يعد صهيونيا.. وذلك على ضوء ما كتب: " في المؤتمر اليهودي الأول انتصرت صهيونية هرتسل على صهيونية أحاد هعام علينا ان نبقي هرتسل وراءنا ، وأن ننتقل الى أحاد هعام " .( احاد هعام - 1856 – 1927 - اسم ادبي لكاتب يهودي روسي ، كانت رؤيته ان اليهودية تعني المصداقية والأستقامة في التعامل مع كل انسان ، وان تبني مجتمعا يشكل نموذجا لسائر الشعوب ، وان تكون مركز روحي لليهودية المتجددة ، والاستقامة والعدل – نبيل )
احاد هعام ، يكتب بورغ : " اتهم هرتسل بأن كل صهيونيته مصدرها باللاسامية ، بينما أحاد هعام فكر باتجاه آخر ، فكر باسرائيل كرمز فكري ، اتجاه أحاد هعام لم يمت ، والآن حان وقته .. " ويحذر من اليهودية والصهيونية السائدتين في اسرائيل ، ويصفهما بانهما "مليئتين بالمصائب " .
من المواضيع المثيرة في كتاب بورغ ، رفضه لصيغة دولة يهودية ، جاء في كتابه : " ان تعريف دولة اسرائيل كدولة يهودية ، هذه بداية نهايتها . دولة يهودية يعني قنبلة ، مواد تفجير " .
ويرفض بورغ النشيد القومي : " النشيد القومي رمز ، انا على استعداد لقبول واقع ان كل شيء جيد وفقط النشيد القومي سيء".
ومن المواضيع البارزة في الكتاب ، دعوة بورغ لفك الوكالة اليهودية ، وتغيير قانون العودة ( عودة اليهود الى اسرائيل – نبيل )يكتب حول قانون العودة : " يجب طرح الموضوع للنقاش . قانون العودة هو قانون يفتقد للاستقامة ، هو نسخة مشابهة لهتلر . انا لاأريد ان يعرف لي هتلر هويتي . كشخص دمقراطي وانساني ، هذا القانون يضعني في تناقض ، قانون العودة يباعد بيننا وبين يهود المهجر وبيننا وبين العرب ".
وعن الوكالة اليهودية .. : " منذ كنت رئيسا للوكالة اليهودية ، اقترحت تغيير اسمها من الوكالة اليهودية لأرض اسرائيل الى الوكالة اليهودية للمجتمع الاسرائيلي " ... " ويجب أن يكون بمركز نشاطهم تقديم الخدمات لكل مواطني اسرائيل ، بما في ذلك العرب " .
ويكتب عن حرب لبنان : " انظروا الى حرب لبنان ، عاد الشعب من ساحة الوغى . كانت انجازات معينة . كانت قصورات معينة . كشف عن امور عدة . كنت اتوقع من وزراء واشخاص من اليمين ان يفهموا ، انه عندما نعطي لجيش الدفاع الاسرائيلي أن ينتصر ، فهو لا ينتصر . القوة ليست هي الحل . وفي هذا الوقت لدينا مشكلة في غزة ، ما هو الحديث عن غزة ؟ ان ندخل بهم ، نمحوهم . لم نستوعب شيئا . لا شيء . وهذا ليس فقط في المستوى بين شعب وشعب آخر .أنظر للعلاقات بين الانسان وصديقة. أنصت للحديث الشخصي ، الأرتفاع بالعنف في الشوارع ، أحاديث النساء المضروبات ، أنظر الى صورة وجه اسرائيل . "
ويكتب عن الاحتلال :" الاحتلال هو جزء صغير من الوضع . اسرائيل مجتمع خائف . من أجل البحث عن جنون القوة وقلعها ، يجب معالجة المخاوف .والخوف الأعلى ، الخوف القديم ، هو ستة ملايين يهودي الذين قتلوا بالكارثة ."
ويكتب بورغ بانه عندما كان رئيسا للكنيست: ".. استمعت الى الآحاديث ، وقمت بالحديث بعمق مع أعضاء الكنيست من جميع الاتجاهات . سمعت رجال سلام يقولون انهم يريدون السلام لأنهم يكرهون العرب ولا يستطيعوا رؤيتهم او تحملهم . وسمعت أشخاص من اليمين يتفوهون مثل جماعة كهانا ( مئير كهانا ، عنصري متطرف معاد للعرب ، منع من الوصول للكنيست ، قتله فلسطيني في الولايات المتحدة ، جماعته من أشرس وأسفل المجموعات الاستيطانية ، وينادون بترحيل العرب من مواطني اسرائيل والمناطق الفلسطينية – نبيل ) الكهانية موجودة في الكنيست ، رفضوها كحزب ، ولكن حوالي 10 أو 15 وربما 20 % من الحديث اليهودي داخل الكنيست ، هو حديث غير سهل ... مليء بالفقاقيع ."
هذه لمحة صغيرة من نبوءة ابراهام بورغ المرعبة للكثيرين من العنصريين ومعتمدي سياسة القوة ، والذين على قناعة مرعبة بأن القوة هي الحل الوحيد ، وباتوا أسرى تفكيرهم المحدود والمغلق ، دون القدرة على رؤية بدائل أخرى للتعامل ..
الكتاب لا يهادن وجريء في تناوله لأهم القضايا وأكثرها حساسية ، والمكاشفة بصراحة غير معهودة ، خاصة من شخصية وصلت الى قمة السلطة في اسرائيل . ولا يتردد في القول انه لا يشعر باي انتماء للجمهور المتدين الذي جاء منه ، " انا لا أنتمي اليهم " يقول بوضوح . ويهاجم التيار العلماني ويتهمه أنه أسير تعصبه القومي .
ولا يتردد في مطالبة اسرائيل بالتخلي عن سلاحها النووي .. والكاتب لا يتردد باجراء مقارنة دائمة في كتابه بين اسرائيل والمانيا النازية ، وربما ليس بالصدفة ان الأسم الأول للكتاب ، خلال فترة اعداده ، كان " هتلر انتصر " .. ، يقول: " انا موافق انه يوجد مصاعب ، ولكن هل هي مصاعب مستحيلة ؟ هل كل عدو هو اوشفيتس ؟ هل كل حماس هي عدو ؟
ومع ذلك بورغ متفائل ، ولا ينفي امكانية عودته للسياسة ، ويقرر انه في عام 2010 فقط ستبدأ سياسة جديدة في اسرائيل ، بعد ان ينتهي دور جيل أولمرت – براك ، سيجيء جيل من مجال الاقتصاد ، من الأكاديميا ، ومن الفن ، ربما عندها سيكون لي مكان " كما يقول بورغ .
عنوان الكناب " لننتصر على هتلر "، تنكشف رمزيته بأن النصر الذي يريده بورغ هو نصر على هتلر الاسرائيلي الذي يعتمد لغة القوة في كل ما ينهج .
نبيل عودة – كاتب ، ناقد واعلامي – الناصرة
nabiloudeh@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق